حكاية Wilfred Hall – المليونير الذي باع حذاءه بسبب ميخائيل نعيمه!

Views: 4

أنطوان السبعلاني

    هذه الحكاية تعيش في خاطري منذ زمان طويل، كانت تغيب عنّي وتعود إليّ قائلة: أكتب ما تعرفه عنّي، إنّك الشاهد الوحيد عليّ. وكنت أدفعها عنّي مرتاحاً إلى كسلي المعروف في الكتابة. وإنّ ما أكتبه الآن ليس لي فيه سوى فضل الراوي الأمين، وهو ليس بفضلٍ كبير. ألمهم أنني أكتب بإختصار ما شاهدت طوال 21 يوماً أمضيتها مع بطل الحكاية.

-1-

عام 1957 قصدت إلى السان جورج في بيروت أسأل عن مستر ويلفرد هول وكانت وردت عليّ رسالة من أخي قنصل لبنان آنذاك في جنوب أفريقا، جاء فيها أنّ أكبر مليونير في جوهانسبرغ سافر إلى لبنان للإستجمام ويرغب في التعرّف إليك إسمه Wilfred Hall وهو نازل وعيلته في السان جورج.

في الفندق قيل لي: ليس عندنا هذا الإسم وكذلك في البالم بيتش. وساعة سألت عنه في الاكسلسيور دلّوني عليه جالساً على حافة بركة السباحة. تهيّبت بعض الشيء اللقاء على عادة لقائنا الأوّل بأهل الغنى في بلادي. قدّمت نفسي إليه باللغة الإنكليزية بعدما حييته. فرحّب بي بعفويّة بالغة وقال: أهلاً أنطوني، أخبرني عنك أخوك بيار وأنا أرقب قدومك إليّ. ثمّ قدّم إليّ سيّدة جميلة جداً حاملاً في شهرها السابع على الأقل، وقال: إنها ماري، زوجتي، سلّمت عليها وكانت مسحة الحزن تلفّ محياها.

ثم نادى بصوت عال: إصعدوا من البركة يا أولاد. فصعدوا على صورة منتظمة، الأكبر فالأصغر منه. قال هؤلاء أولادي، وسمّاهم بأسمائهم: جون، بنلوب … وكانوا سبعة. والكبير لا يتجاوز العشرسنوات . وبين الولد والآخر ليس أكثر من سنة. وعرّفني إلى سائقه الخاص “تشارلي” الذي التقاه في بيروت. وهو بيروتي اللهجة على صورة واضحة، وإنّ إسم تشارلي لا شكّ مستعار. وجيء بكأس الويسكي، وطلب منّي أنّ أسمّيه ولفرد . وانعدمت بيننا مسافة. وحدّثني المليونير الشاب (نحو 45 سنة) عن وصوله إلى بيروت منذ خمسة أيّام وكيف قصد لتوّه إلى بسكنتا لمقابلة ميخائيل نعيمة، كما قابل الرئيس كميل شمعون وبعض الشخصيّات السياسيّة – وسألني هل تعرف نعيمة شخصيّاً؟

أجبت: كلا.

– هل قرأت له: The book of Mirdad

– كلا.

قال إنّها خسارة.

زوجته تنظر إلينا من وقت لآخر بوجهها الحزين.

تشارلي يداعب الأولاد الصغار، ويداعبونه، وأصواتهم تملأ أرجاء الأوتيل.

وبعد ساعة من اللقاء والأحاديث العامّة قلت له: أنا أسكن في شمال لبنان – في طرابلس، أدعوك إل “ويك أند” عندنا لتتعرّف إلى هذه المنطقة وإلى أرز لبنان.

قال بكلّ سرور ولنذهب اليوم. رحّبت بالفكرة ثمّ طلب من زوجته أن تستعدّ للسفر شمالاً وأمر أولاده أن يفعلوا.

صعدنا جميعاً إلى الفندق. هناك جناح بكامله محجوز باسمه. وهنا غرفة تشارلي وهنا غرفة “ظريفة”، مربية طفلته – تعرّف إليها في بيروت أيضاً.

قال لتشارلي: إدفع مبلغاً من المال إلى مدير الفندق وأبلغه أن يحفظ الجناح باسمي. أعود إلى هنا يوم الإثنين.

وشيكات المليونير في قبضة سائقه – إنّه إنسان أمين والمليونير ضجر من لعبة المال. ثم طلب منه أن يستعين بسيّارة تاكسي أخرى لأن أنطوني ليس معه سيّارة.

– 2-

مشت السياراتان صوب الشمال. وحرصت أن لا أكون في سيارة زوجته برغم جمالها الأخاذ لعبوسة لا تفارق وجهها. ..

في الطريق سألني ولفرد أشياء كثيرة عن لبنان، وعن نظامه السياسي واقتصاده . سأل عن المناطق التي كنّا نعبرها، عن المصانع في شكّا. وتحدثنا عن التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبيّة – وهو محدّث من الطراز الأوّل – وعرفت منه أنّه من “الدتش” الأصليين وأن زوجته إنكليزيّة. وبالفعل له صفات الدتش من طول القامة وبياض البشرة.

دخلنا طرابلس عند الاصيل وكان يوم الجمعة بالتحديد. قلت له: هذه المدينة الرقم 2 في لبنان.

وبالبساطة التي يحبها أضفت: عندنا بيت واسع يرحب بكم وان شئت فهنالك اوتيلات وإن لم تكن بفخامة ما عرفت في بيروت، أجابني: عيلتي وأنا نحب البيوت العادية.

-3-

ها نحن في بيتنا المتواضع – والصحيح ان اولاده احتلوا البيت – أولاده الشياطين … صرخت أم بطرس: ما هذا يا أنطوان؟ من هؤلاء الاولاد المجانين؟

قلت: طولي بالك يا أمي، انهم ضيوفنا وهم آتون من عند بطرس. وطولت العجوز بالها وساعدتها على ذلك حبات “الفاليوم”. (www.topskitchen.com)

غريب أمر هؤلاء الصغار: يفعلون ما يريدون، كسروا عددا من الصحون ومزقوا اللحف في خلال ربع ساعة من دخولهم البيت: والدهم لا يقول لهم شيئاً وأمهم في صمتها المعروف وظريفة تتصرف كالمليونيرة. وساعة كاد يرمي واحد من هؤلاء الاولاد بنفسه من على البلكون – الطابق الثالث صرخت به رادعاً إياه، ضحك الوالد وقال: دعه يفعل ما يشاء. يجب أن يربى الاطفال على الطبيعة. قلت في نفسي: رحم الله روسو. وكادت امي ترمي بنفسها من على السطح، مشاهد كأنها الآن أمامي، ونمنا كلنا بالتي هي أحسن في البيت الذي ضاق بنازليه: الضيوف الكرام، والدتي، أخي جوزف، واختي الصغيرة، أوديت، وأنا.

مخائيل نعيمة

 

-4-

صباح السبت توجهنا الى جبال الأرز وكنت استدعيت سائقاً، ابن ضيعتي، وصديقي، فؤاد مارون، ليكون في تصرف المليونير مدى إقامته في الشمال. تشارلي عاد الى بيروت على أن يلتقي مستر هول يوم الاثنين. فؤاد يلم بالانكليزية، ألشيء الذي يرتاح اليه الضيف الكبير. استعان فؤاد بزميل له من المنطقة يدعى جبرائيل يونس (أيطو ) . عبرنا ضيعتنا سبعل التي اعطت جنوب افريقيا عشرة آلاف مهاجر، ووصلنا الى إهدن، فبشري حيث زرنا متحف جبران. ولفرد كأنه في معبد يصلي، سمعته يتمتم:

جبران مؤلف كتاب “النبي”. إنه رجل عظيم. وقال: انا سعيد لزيارة هذا المكان. شكراً انطوني. وامضينا بعض الوقت في غابة الأرز، واظهر إعجابه الكبير بها.

تغدينا في نبع مار سركيس- إهدن. وشرب صديقنا العرق السبعلي بشهوة، وأكل الكبة الإهدنية. ألغبطة في قلبه، وعلى لسانه. وجربت ان أدفع فاتورة الغداء، فَجُنَّ جنونه، ودفع المبلغ تاركا في يد الخادم المحظوظ مئة ليرة، قال السائقان:

حاتم طي بيننا.

عدنا إلى طرابلس وكان مستر هول منشرحا كل الإنشراح، ولم تفارق الكآبة وجه ماري.

-5-

صباح الأحد قال لي: ألعيلة ستذهب الى البحر للسباحة مع جبرائيل، وأنا أريد ان ألعب “الغولف”. استفسرت أولا عن هذه اللعبة، ثم عرفنا أن في طرابلس ملعباً واحداً لها في شركة نفط العراق ( IPC). أمضى قبل الظهر على الملاعب الخضراء، ورمى في كف الولد الذي حمل له عدة اللعب “كمشة” من المال، ودعا اللاعبين الى حفلة ويسكي- وكان أمير القوم.

في المساء قال: أنطوني نحن مسرورون عندكم، وسوف نبقى هنا، وغدا نذهب الى بيروت انت، وانا وفؤاد، لأنني موعود بزيارة ميخائيل نعيمه لي في الأوتيل. أجبته مرحبا بالفكرة وطلبت من الوالدة أن تصبر على جنون الاولاد الصغار.

-6-

في طريقنا إلى بيروت قال: انت يا انطوني شاب ذكي، وتتقن لغات ثلاثا، ما رأيك في أن تكون سكرتيري الأول، وأن تسافر معي إلى جوهانسبرغ، ونزور في طريقنا لندن، وهوليوود؟

بكل سرور، أجبته دون تردد، وقلت في نفسي يبدو أن الحظ يهجم علي من بابه الواسع، وكنت أنهيت دراستي الثانوية منذ شهر، ونلت شهادة الرياضيات، وبالرغم من تفوقي، حيل بيني وبين التخصص في الهندسة لضائقة مالية نزلت بنا. كنت أفتش عن عمل، أي عمل لإعالة والدتي، وأخي، وأختي. رحت أحلم بالمستقبل الذي ينتظرني، وأحلم بزيارة هوليوود في رفقة أمير أهل الكرم، وكأني وضعت يدي على ماس ، وذهب جوهانسبرغ.

ثم وجه مليونيرنا كلامه الى فؤاد: وانت يا “فرد” رجل خبير بالميكانيك. سأجعلك مسؤولا عن الشؤون الميكانيكية في مزارعي، وأرسلك الى دسلدوف للتخصص بموتور ديزل.

  • انا حاضر يا مستر هول.

ورحنا فؤاد، وأنا، نبني الأحلام الكبار.

لم يأت نعيمه الى الفندق بحسب الموعد. قال ولفرد: تلفن له باسمي، الرقم 18 بسكنتا، واسأله بصوت عالٍ عن سبب تخلفه.

رد نعيمه قائلاً: بلغ المستر هول أنني لم أتمكن من الحضور، غير أني أرسلت له كتاباً مفصلاً حول موضوعه. ويجب ان يصله اليوم او غدا. وأتمنى له التوفيق.

ألغى هول ارتباطه بالفندق وقال لتشارلي سأراك مرة اخرى. تغدينا في احد مطاعم الروشة وعدنا الى طرابلس.

-7-

صباح الغد الثلثاء سألني ان نذهب الى ( IPC).

  • لعبة غولف؟
  • كلا انما أرغب في بيع عدة اللعب لأنني في حاجة الى مال.

قلت في نفسي: مليونير وحاجة الى المال.

قال: العدة الجديدة اشتريتها بثلاث مائة ليرة استرلينية وأنا مصمم على بيعها بأي ثمن كان.

في ملاعب الغولف ركض الولد الذي حمل له العدة منذ يومين، وهمَّ بحملها فصاح به:

ابتعد يا غلام، اليوم دوري أنا في حملها.

وعرض البضاعة على الجماعة الذين سقاهم الويسكي، الاحد الفائت، فأداروا له ظهورهم وكانوا من الموظفين الانكليز.

واحد منهم أعجبه الحذاء فاشتراه بخمس وعشرين ليرة لبنانية.

غريب. أي سر في هذا الرجل؟

انا لست أدري.

وقال لي ارجو من والدتك ان لا تهتم كثيراً بطعامنا وبالشراب … وحرصت أن لا أقصر في ضيافته رغم كل شيء.

أنطوان السبعلاني

 

-8-

في الفندق سألني فؤاد وسألته عن سر هذا المليونير الذي رأينا بالرسوم ألوفا من السود يخطب فيهم في مزارعه: لديه ألوف من العمال، مزارعه تطعم جوهانسبرغ كلها خضرة وفاكهة. ثم كنا شاهديْن على بيعه حذاءه!

ما علاقته بميخائيل نعيمه؟

حمل رسالة نعيمه اليّ وقال :اقرأها بصوت عال. كانت مكتوبة بالانكليزية. وموجهة الى الصديق ولفرد هول. جاء في الرسالة: أتمنى عليك ان تتصل بشركة “( British Councel)”، أو بريتش بنك، او الإثنين معا .وأملي أن توفق.

رافقته إلى المؤسستين. إعتذر مني ليجتمع وحده بالمسؤولين عنهما. لباسه الانيق، وقبعته السوداء يلفتان النظر. وعند خروجه كان في حالة من الغضب الشديد، وراح يرسل الشتائم بصوت مسموع. ثم تغيرت منه الملامح.

قال:

لنذهب إلى مطعم قريب وهادىء.يجب ان أطلعك على كل شيء.

نزلنا الى مطعم العجمي . في الصباح كان قد عرض عدة الغولف على محلات “بطرس سبور”، فابتاعوها منه بثلاث مائة ليرة لبنانية. ثم طلب مني أن استدعي على التلفون ميشال خوري، مدير شركة “نافيتورز” للسفريات .فانضم إلينا مسرعاً للمسافة القصيرة بين المطعم والشركة. تعرفنا إليه وقال أنه من الشمال ايضاً، من القبيات.

وأخذ مستر هول في الحديث وهو متجهم الوجه. قال اليكم حكايتي. يجب ان تعرفوها فانتم اصدقاء.

مات والدي سنة 1951 تاركا مزارع هول المشهورة في جنوب افريقيا، وأنا وارثه مع اختين متزوجتين. أحدثت ثورة ميكانية في المزارع، فلم تعجب اختيَّ وزوجيهما. إنتهى بنا الأمر في السنة نفسها الى بيع حصتي بعشرة ملايين ليرة استرلينية. ورحت أشتري مزرعة وأبيع اخرى. وكان لي أصدقاء كثر يسألونني مساعدتهم مالياً، وانا أعطيهم قائلا لهم :

اذا سمحت لكم الظروف تعيدون هذه الأموال اليَّ وإلا فهي لكم. هكذا يجب ان تكون العلاقة بين الاصدقاء. اليس كذلك؟ أجبناه: بلى.

عام 1957 لم يبق لي من المال سوى خمسة الاف ليرة استرلينية. ولم يبق لي احد من الاصدقاء، وكنت وعيلتي في دوربن. في هذا الوقت قرأت كتاب The book of Mirdad لميخائيل نعيمه، وقررت المجيء الى لبنان إيماناً مني بأن البلد الذي أعطى نعيمه هو يحقق حلمي، إنه بلد يختلف عن البلدان كافة. بيتي في دوربن قدمته الى صديق عريس جديد.

وتوقف عن الكلام. سألته باهتمام:

ما هو حلمك؟

قال: ان أستدين من لبنان مبلغ عشرين مليون ليرة استرلينية، ولهذا السبب زرت اليوم ” بريتش بنك، و “بريتش كونصل”. ولكن ضاع أملي … شيء مؤسف!

قلت له: في مقابل أية كفالة ؟

أجاب :لا شيء.

هذا المبلغ مقابل لا شيء؟

نعم لا شيء، هكذا كنت أعطي اصدقائي المال مقابل لا شيء، وهكذا يجب ان تقوم العلاقة بين الناس، والاصدقاء، وهكذا يعلمنا مرداد.

أفهمت يا انطوني؟

هززت رأسي قائلاً:نعم فهمت.

قال مدير “نافيتورز” بالعربية إنه مجنون خرب بيتي.

سألته ما دورك أنت في هذه الحكاية؟

قال: جاء إلى لبنان عبر شركتنا، وعند نزوله في الفندق اتصل بنا قائلاً :

أنا فلان، اسألوا عني شركتكم في جوهانسبورغ وأريد مدي بمبلغ من المال.

وكان الجواب على برقيتنا:

“انه رجل فاحش الغنى.”

أخذ منا في يومين عشرة آلاف ليرة لبنانية. أنا المسؤول عن ذلك، وأنا لست صاحب الشركة إنما أنا مديرها فقط….

ما العمل الآن؟

سؤال طرحناه على مليونيرنا الفقير مثلنا .

قال :هناك والدتي الغنية جدا، وهي الآن في لندن للاستجمام، يجب ان أكلمها هاتفياً. وهناك بعض الأصدقاء في افريقيا ولي فضل كبير عليهم، يجب ان أطلب منهم المساعدة برقيا.

-9-

ساعة كنا منتظرين المخابرة مع لندن، في شركة “نافيتورز”، قدم لي المدير مجلة “الشبكة” قائلاً:

إقرأ المكتوب عن حضرة الخواجة… صفحة بكاملها تحت عنوان: “من ضيوف العاصمة”. أفاضت المجلة في الحديث، عن المليونير ولفرد هول، النازل في جناح خاص في الاكسلسيور. ترجمت له المقال، ابتسم قائلا:

وددت لو كنت أنا هو.

تكلم مع امه نحوا من ربع ساعة، وراح يستعطفها بقوله: أولادي في الشارع، زوجتي في شهرها الاخير، وأنا معرض في كل لحظة لدخول السجن. أخيرا، قبلت امه، شرط ان ترسل المال الى القنصل في بيروت، ليدفع ديونه، كما ستقطع له، ولعيلته تذاكر السفر للعودة الى جوهانسبورغ.

-10-

في طرابلس كان علينا ان ننتظر التلفون من القنصل. تأملت وجه ماري الحزين، وقلت في نفسي :

فهمت يا سيدتي معنى ذلك.فهمت كل شيء…

نزل الأولاد الى الشوارع، وراحوا يمسحون الاحذية. تألمت للمشهد، وطلبت من والدهم أن يوقفهم عند حد. أجاب مبتسما:

دعهم وشأنهم، مع مثل هؤلاء الأولاد لن أموت جوعاً.

وسأل: هل تعرف لماذا عددهم كبير، وهناك طفل على الطريق؟

-طبعا لا.

كنت في الحرب العالمية الثانية طياراً مع الحلفاء، واشتركت في معارك إيطاليا. أيام الإجازات لم أرافق أصدقائي الى السهرات، وعلب الليل، وكنت أحب الرياضة، أمارسها في أوقات فراغي، فقالوا لي :

أنت ولفرد، لست رجلا…

ويوم تزوجت رحت ابرهن لهم بهذه الطريقة انني رجل.

ألست مصيباً في عملي؟

  • أنت مصيب.
  • يوم أخذتني أمي إلى طبيب، لمعالجتي، نفسياً، وعقلياً. ضربت الطبيب، وخرجت من عيادته.
  • أما كان تصرفي طبيعياً: ما رأيك انطوني؟
  • إنه طبيعي يا ولفرد.

وصرت في شيء من الحذر من تصرفه.

ذات ليلة كنا إلى المائدة للعشاء: ماري، ولفرد، أمي، وأنا. ألصغار نائمون. شربنا كأسا من الويسكي ثم قال:

لم يعجبني شيء في بلدكم، لا الماء، ولا الهواء ولا شيء…

-قلت: أتعتقد ذلك يا ولفرد؟

فجحظت عيناه، ونزع نظارتيه، وأخذ الصحن بكلتا يديه، وقال بعنف:

إنْ تعدْ ذلك أرمِك بهذا الصحن.

قلت : إني أمزح .

صرخت والدتي: ماذا حدث يا أنطوان؟ ؟

زوجته انفجرت بالبكاء، ودخلت غرفتها، لحق بها، ثم رجع اليّ، وطوقني بيديه، وقال بلطف، وهو يدمع:

آسف أنطوني، أرجو منك أن تنسى ما حدث.

قبلته قائلاً :نسيت يا ولفرد.

-11-

 

تلك الليلة قالت لي ماري أريد أن أتحدث اليك، أنت صديق، ويجب أن تعرف كل شيء. استمعت اليها باهتمام:

” ولفرد هو وارث أكبر غني في افريقيا كما ذكر لك، تخرج من اكسفورد، ثم التحق بالجيش في الحرب العالمية الأخيرة. عاد من إيطاليا رجلاً آخر. الأطباء قالوا إنها آثار الحرب عليه. يصيبه من وقت لآخر ضرب من الجنون. وما حدث الليلة معك هو دليل على ذلك.

قلت لها: أنا آسف لسماع هذه الحكاية. إنما أنا لا أفهم كيف قبلت أنت المجيء معه إلى لبنان للمشروع الذي جاء له؟

أجابت: كان عليّ أن أختار بين القبول، أو الطلاق. وأنا أحبه.

  • ماذا فعل بأمواله؟
  • الأصدقاء… الأصدقاء.

قبل مجيئنا إلى لبنان سأله واحد منهم مبلغاً من المال، وكان رد ولفرد:

هذا بيتي خذه هدية لزواجك.

ثم اعتذرت ماري لتصرفه معي.

وأذكر أني طلبت من نسيبي، ادمون، أن يبيت عندنا، وهو شاب قوي العضلات.

-12-

آنذاك لم يكن لجنوب افريقيا قنصلية في لبنان. ألقنصل البريطاني استدعاه للحضور إلى بيروت. انتقلنا على طلبه، بالأوتوبيس من طرابلس إلى العاصمة. ألقنصل أبلغه أن أمه أرسلت بعض المال لتصفية ديونه. وسأله أن يعود اليه في الغد مع الدائنين. فضلنا النوم في بيروت.

قال: اتصل بنعيمه. أجابت بسكنتا أنه يحضر حفلة كوكتيل على شرفه في اوتيل ريفييرا. ذهبنا إلى هناك، قدمني إلى نعيمه مثنياً على حسن ضيافتي، وسأله صاحب “مرداد” عن مشروعه فأطلعه على “النتائج المؤسفة”. انها فعلاً “مؤسفة” رد نعيمه، ويجب أن نتوصل ويتوصل العالم إلى تحقيق ذلك. كنت مصغياً أنا المجنون حتى اليوم بالمثالية، فوجدتني راسخ القدم في الأرض، والتراب، أمام الأديب الذي أحب، والمليونير الذي باع حذاءه بخمس وعشرين ليرة.

عند خروجنا من الأوتيل الفخم قال يجب أن نبيت ليلتنا في أوتيل وسط، قصدنا إلى أستوريا – ساحة البرج، وحدثني عن أشياء كثيرة متفرقة، أذكر منها أنه كان مرتاحاً لمستقبل أولاده المالي، لأن أمه خصَّتهم بأموالها عندما يكبرون.

وكان يصر على لقاء تشارلي. فالساعة الذهب التي أخذها من والده قبل مماته هي مع تشارلي لإصلاحها. الساعة غالية على قلبه.

-13-

توافد على القنصلية دائنو مستر هول :

نافيتورز 14الف ل. ل

محلات (باري لوندر) 40 بدلة رجالية فخمة

محل أحذية للرجال( جار مقهى الاوتوماتيك (40 زوجاً.

ظريفة المربية شهر عمل.

السائقان : فؤاد وجبرائيل 21 يوماً

أذكر أن “نافيتورز” طالبت بملغ أخذته كاملا . ودفعنا ثمن ست قطع، من أصل أربعين قطعة إلى الخياط المعروف، كان قد فصلها، ومبلغاً إلى صاحب الأحذية، وظريفة نالت أجرها الشهري والسائقان اكتفيا بمبلغ رمزي. وانتهت حكاية الديون .

وغداً السفر.

-لماذا هذا العدد من البدلات والأحذية؟

-بعضها لي، ومعظمها للأصدقاء، في لبنان أمثالك، وفؤاد، وتشارلي، وميشال، ومدير الأوتيل. وبالفعل قدم لي واحدة من الست، وأخرى إلى فؤاد.

-14-

ليلة الوداع كانت مؤثرة لنا جميعاً. والدتي كأنها تودع واحداً من أولادها. ماري شكرت لنا ما فعلنا في 21 يوماً، وكانت تشد على أوجاعها، وتبتسم. إنها الإبتسامة الأولى التي ارتسمت على وجهها الجميل طوال الأيام المذكورة.

سهرت مع صديقي، ولفرد، حتى ساعة متأخرة من الليل.

-أنت يا انطوني، صديق، وأنا أحب الأصدقاء، ولن أنساك أبداً. أكتب قصتي بالعربية وبالإنكليزية .وأنا أتولى بيعها لك في جنوب افريقيا. أكتب عن ولفرد هول الذي باع حذاءه في لبنان!

جاءتني دموع .وقلت له :

لن أتاجر بحكايتك. أنا أدركت أبعادها، وآمنت بها، لأنني لا أقل عنك، وعن نعيمه “جنوناً” ومثالية، .الناس سيفهمونها على طريقتهم، ويشوهون روعتها.

-15-

ذهبنا إلى المطار. الوالدة أصرّت على أن تكون معنا في وداعهم، وأخي جوزف، وقدم فؤاد وجبرائيل سيارتهما إلى الصديق ولفرد.

وداع حميم: بكيت عند معانقته، وبكى.

ثم قال لأولاده :توجهوا إلى الطائرة. فمشوا بانتظام. وكانت آخر كلماته لي:

أنطوني لا تنس ساعة والدي، ارسلها اليّ. وانقل تحياتي إلى نعيمه، وقل له:

لا بدّ أن يأتي يوم يتحقق فيه الحلم…

وراح يلوح بقبعته من على سلم الطائرة.

فندق السان جورج

 

-16-

في العودة اشتريت “كتاب مرداد”، هذه الحكاية لا يعرف منها نعيمة نفسه الا الخطوط العريضة.

بعد نحو شهر جاءتني رسالة من أخي تخبرني وفاة ولفرد بالسكتة. حزنا كثيراً.

لا عائلته كتبت اليّ، ولا أنا كتبت.

وأذكر أن أكثر ما أوجع ولفرد هو أن أصدقاءه الذين أبرق اليهم للمساعدة لم يردوا جواباً. و”تشارلي “كان أذكى من أن يعطينا عنوانه…

ومنذ ذلك الحين أنا أقول لطلابي:

اقرأوا يا شباب … اقرأوا:”كتاب مرداد”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *