​بدايات السينما في لبنان

Views: 2981

وليد شميط

جرت العادة أن يقسِّم النقّاد في لبنان تاريخ السينما اللّبنانيّة إلى قسمَين: ما قبل 1952 وما بعد 1952، على اعتبار أنّ الأفلام التي جرى إنتاجها قبل العام 1952 هي محاولات مُبعثرة لا تشكِّل، على الرّغم من أهمّيتها التاريخيّة، بداية حقيقيّة للسينما في لبنان. ولكنْ، علميّاً، وُلِدت السينما اللبنانيّة في العام 1930 مع فيلم “مغامرات إلياس مبروك” لجوردانو بيدوتي.

لنبدأ من البداية، خلال 21 عاماً، أي من 1930 إلى 1951، لم يُنتَج في لبنان سوى ثمانية أفلام روائيّة طويلة، هي: “مغامرات إلياس مبروك” لجوردانو بيدوتي (1930)، “مغامرات أبو عبد” لجوردانو بيدوتي أيضاً (1931)، “بين هَياكل بعلبك” لجوليودي لوكا (1936)، “بائعة الورد” لعلي العريس (1943)، “الصيف في لبنان” لصلاح بردخان (1946)، “كوكب أميرة الصحراء” لعلي العريس (1946)، “الاصطياف في لبنان” لبشارة واكيم (1947)، “عروس من لبنان” لحسين فوزي (1951).

لا نعرف على وجه الدقّة تاريخ إنشاء أوّل صالة عرض في لبنان. لكنّ رشيد شعبان، الملقَّب بأبي عبد الجرس، مُنتِج فيلم “مغامرات أبو عبد” وبطله، يؤكِّد أنّ “زهرة سوريا” هي أوّل صالة عرض في بيروت، وأنّها أُنشئت في العام 1909. وبعد “زهرة سوريا” التي تحوَّل اسمها إلى “باتيه” وكان يديرها سليم كريديّة، افتُتحت صالة “كريستال” ثمّ “لوكزموغراف”. وفي العام 1918 افتُتحت صالة “أمبير” ثمّ “غراند تياتر” و”روكسي” وغيرها. وكانت كلّ دُور العَرض هذه قائمة في ساحة الشهداء باستثناء “الفونس” التي كانت في حيّ الزيتونة وتَعرض بين الحين والآخر أفلاماً للجنود الفرنسيّين، أما بقيّة دور العرض فكانت تقدِّم أفلاماً صامتة معظمها من فرنسا، اكتشف عبرها اللبنانيّون السينما التي اخترعها الأخوان لوميير العام 1895.

وكما حدث في مصر عندما قام الإيطاليّون بتصوير الأشرطة الأولى في الإسكندريّة ثمّ في القاهرة، حدث في لبنان الأمر عينه، إذ أخذ الإيطالي بيدوتي يصوِّر المناسبات الرسميّة والأحداث السياسيّة وتحرّكات قوّات الانتداب وبعض الأماكن الأثريّة ويرسِل ما يصوّره إلى فرنسا. وكان بعض هذه الأشرطة يُعرَض في دور السينما البيروتيّة ويثير اهتماماً كبيراً لدى الجمهور اللّبناني الذي كان يستمتع بمُشاهدة صور الأحداث المحليّة والمَواقع الأثريّة وغيرها على الشاشة البيضاء.

من هو جوردانو بيدوتي؟

هو لبناني من أصل إيطالي جاء إلى لبنان وهو في سنّ الرابعة والعشرين. عمل سائقاً عند عائلة سرسق البيروتيّة الثريّة مدّة سبع سنوات كان خلالها يُراسل شركة “بايته ناتان” الفرنسيّة قبل أن يقرِّر الانصراف نهائيّاً إلى العمل في السينما ويقوم بتأسيس ثلاث شركات سينمائيّة، الواحدة بعد الأخرى: “الشركة السينماتوغرافيّة اللبنانيّة”، و”استديو جورادانو للأفلام السينمائيّة”، و”مصنع للأفلام السينمائيّة – أفلام في الشرق بيدوتي” الذي أقيم في شارع فردان في بيروت. وكان هذا “المصنع” يتعاطى، بحسب ما ورد في أوراق الشركة: تمثيل شركات، بيع أفلام إخباريّة وتسجيليّة، توليف، تصوير، طبع وتحميض… وعمل بيدوتي على استيراد أجهزة التصوير والتسجيل والمونتاج وكلّ ما يتطلّبه الاستديو السينمائي من معدّات، من شركات في فرنسا وإيطاليا.

في العام 1930، وبمساعدة عدد من أصدقائه الهواة، قام بيدوتي بإنتاج الفيلم الفكاهي الصامت “مغامرات إلياس مبروك” وإخراجه. وهو يتناول مغامرات مغترب لبناني يعود من أميركا ويلتقي بأهله بعد غياب طويل. جرى تصوير الفيلم في قصر عائلة سرسق، وفي قهوة الغلاييني في منطقة الروشة، وفي بعض شوارع بيروت. وظهر في الفيلم عددٌ من الممثّلين الهواة بينهم فلادو رزق ومصطفى قليلات وإيميل أبي راشد وإدوار فرحي والسيّدة مبلو كسينوبولو، وهي لبنانيّة من أصل يوناني.

وجرى تصوير مَشاهِد الفيلم بواسطة كاميرا كان جلبها معه بيدوتي من إيطاليا، وعلى أشرطة ملفوفة داخل بكرات احتوى كلّ منها على شريط طوله 30 متراً. وتمّ طبْع الفيلم وتحميضه في مَعمل بدائي يُعتبر أوّل استوديو سينمائي في لبنان أقامه بيدوتي بنفسه في حيّ الزيتونة في العام 1925.

بعد الجهود الكبيرة التي بُذلَت لإنجازه، لم يُعرض فيلم “مغامرات إلياس مبروك” في قاعات السينما لأنّ الأفلام الأجنبيّة الناطقة كانت قد وصلت إلى لبنان. غير أنّ جوردانو نظَّم عَرضاً خاصّاً في صالة الأمبير في 14 آذار(مارس) 1932 برعاية رئيس مجلس الوزراء آنذاك أوغست أديب، ما جعله يستردّ مصاريفه ويربح 100 ليرة ذهب. وفي 4 آذار (مارس) من السنة نفسها، كتب بيدوتي إلى وزير الماليّة رسالة يطلب فيها إعفاء الفيلم من كلّ الضرائب التي تتوجَّب عليه عند عرضه:

” إنّ شركتنا قرَّرت عرْض فيلم” إلياس مبروك” وهو أوّل فيلم وطني، تحت رعاية دولة رئيس مجلس الوزراء سعادة أوغست باشا أديب، وذلك مساء 14 آذار(مارس) 1932 على شاشة سينما أمبير في بيروت. يظهر في هذا الفيلم عددٌ من الشبّان اللّبنانيّين من هواة السينما، وبعض الأماكن المُثيرة والجميلة في بيروت ولبنان.

غنيّ عن القول إنّ شركتنا قامت بجهودٍ كبيرة لترضي الجمهور اللّبناني بهذا الفيلم. وعليه، وبالنَّظر إلى الاهتمام الذي يعبره كلّ لبناني للدعاية السياحيّة في لبنان، نرجوكم إعفاء هذا الفيلم السينمائي الشرقي الذي يستحقّ كلّ مساعدة، من كلّ الضرائب التي تتوجَّب عليه”.

هذا لم يمنع بلديّة بيروت من توجيه إنذارٍ رسمي إلى بيدوتي في 21 أيلول(سبتمبر) 1932 تطالبه فيه بتسديد 125 (غروش سوريّة) رسم لوحة.

لقد أثار “مغامرات إلياس مبروك” دهشة اللّبنانيّين الذين شاهدوه وإن لم يثر الرغبة الحقيقيّة في الاستمرار بإنتاج الأفلام، وقد يعود ذلك إلى الصعوبات الفنيّة والتقنيّة الكثيرة التي كانت تحول دون استمرار هذا النَّوع من التجارب، ولاسيّما أنّ الأفلام الأجنبيّة الناطقة كانت احتلَّت الشاشات اللبنانيّة، ما ضَعْضَع حسابات الروّاد الأوائل وآمالهم، إذ وجدوا أنفسهم غير قادرين على تخطّي مشكلة تسجيل الصوت على الشريط المصوَّر، فضلاً عن تفضيل الجمهور الفيلم الناطق على الفيلم الصامت.

ولا تزال بقيّة من صُور فوتوغرافيّة لبعض مشاهد “مغامرات إلياس مبروك” موجودة، ولكنْ يبدو أنّ الفيلم بكامله قد اختفى ولم يبقَ منه أيّ مشهد.

الفيلم الثاني:” مغامرات أبو عبد”

وإذا كان الإيطالي – اللّبناني بيدوتي هو مُخرج أوّل فيلم لبناني، فإنّ رشيد شعبان الملقَّب بأبي عبد الجرس هو أوّل لبناني يقوم بإنتاج فيلم سينمائي وهو “مغامرات أبو عبد” (1931). كان أبو عبد عامِلاً بسيطاً في صالة “الكوزموغراف”، وكان يقوم صباح كلّ يوم بلصْق إعلانات الصالة في الشوارع، وبعد الظهر وفي المساء يحمل جرسه المشهور ويقف أمام الصالة، في ساحة الشهداء، ويدقّ الجرس داعياً الناس إلى مشاهدة ” قصص الحب والغرام والتضحية والمغامرات والرجولة..”

فضَّل أبو عبد العمل في صالة “الكوزموغراف” على العمل حمّالاً في المرفأ كوالده، لشدّة ولعه بالصُور المتحرّكة على الشاشة البيضاء. ومع كلّ فيلمٍ جديد تعرضه الكوزموغراف كان أبو عبد يزداد ولعاً بالسينما. وعندما عرف أنّ بيدوتي يملك كاميرا لتصوير الأفلام طلب منه أن “يُخرِج” له فيلماً، فكان “مغامرات أبو عبد” الذي يَظهر فيه مع ابنته فاطمة وابنه عبد. والفيلم صامت يصوِّر عودة أبي عبد من أفريقيا والمُغامرات التي تعرَّض لها هناك، فضلاً عن بعض المشاهد التي التُقطت في ساحة الشهداء والروشة. واستعان أبو عبد وبيدوتي بمَشاهد من أفلام أجنبيّة أُضيفت إلى ما جرى تصويره في بيروت بشكلٍ مونتاجي يجعل المتفرِّج يعتقد أنّ أبا عبد كان في أفريقيا وأنّه شاهَد الأفاعي الكبيرة والحيوانات المُفترِسة. عُرِض الفيلم مرّات عدّة وعَرف نجاحاً كبيراً.

“بين هياكل بعلبك”: أوّل فيلم لبناني ناطِق

بعد “مغامرات أبو عبد”، لم يقم جوردانو بيدوتي بإخراج أفلام طويلة ولكنّه استمرّ بتصوير الأشرطة الإخباريّة والدعائيّة. وعمل مع شركة “لمَنار فيلم” التي أنشأتها السيّدة هيرتا غرغور في العام 1933، وهي لبنانيّة من أصل ألماني لعبت هي الأخرى دَوراً مهمّاً في بدايات السينما في لبنان، ومع شركة ” قطّان وحدّاد” التي كانت تملك صالات سينمائيّة عدّة في لبنان وسوريا وترغب بإنتاج الأفلام. وأرسلت “لمنار فيلم” المصوِّر جورج كوستي إلى باريس لقضاء فترة تدريبيّة في استديوهات “باتيه” دامت ستّة أشهر، تمرَّن خلالها على التصوير وعمل في المختبرات وعاد إلى بيروت ليكون أوّل فنّي سينمائي لبناني.

وفي العام 1936، أنتجت “لمنار فيلم” مع “قطّان وحداد” أوّل فيلم لبناني ناطق بعنوان “بين هياكل بعلبك”. واستعانت بفنيَّين إيطاليَّين أحضرا معهما بعض المعدّات الحديثة، وهُما المُخرج جوليو دي لوكا ومهندس الصوت روسي. واشترك اللّبناني جورج كوستي بتصوير الفيلم. وكانت الشركة تملك تجهيزات أوليّة، فضلاً عن بلاتوه صغير هو عبارة عن صالون في منزل السيّد “غرغور” جرى تحويله إلى بلاتوه.

وقد كلَّف إنتاج فيلم “بين هياكل بعلبك”، وهو أوّل فيلم يجري إنجازه كلّياً في بلدٍ عربي (لأنّ الأفلام المصريّة آنذاك كان يتمّ طبعها وتحميضها في فرنسا)، حوالى 30 ألف ليرة. ولاقى الفيلم نجاحاً كبيراً وعُرِض في أكثر من صالة لبنانيّة، وبيعت خمس نسخ منه لفرنسا والبلاد العربيّة ما مكَّن المُنتجين من تغطية مصاريفهم وتحقيق أرباح معقولة. وهذا الفيلم (مأخوذ عن قصّة لكرم بستاني) يتحدّث عن سائحة أجنبيّة تتعرّف في قلعة بعلبك إلى أمير عربي فتحبّه ويحبّها، غير أنّ عائلة الأمير تمنعه من الزواج منها، فتترك لبنان مع حكاية حبّ فاشل. وهو يتضمَّن ألحاناً ورقصات عدّة، وقد عُثر على حوالى30 دقيقة من الفيلم عند رشيد شعبان.

في المقابل، واصَل جوردانو بيدوتي نشاطاته السينمائيّة وكَتَب سيناريوهات مشاريع أفلام روائيّة طويلة عدّة جاهزة للتصوير تتضمَّن التفاصيل التقنيّة والفنيّة كافّة، منها “حياة البطل اللّبناني يوسف بك كرم”.. وكان بيدوتي ينوي إنتاجها وإخراجها، كما شارَك إبراهيم غندور بكتابة سيناريو فيلم احتار في اختيار عنوان له بين “شرف أمير” أو “الحبّ عند العرب” أو “الحبّ في الشرق” يتناول حياة أمير قبيلة في الصحراء العربيّة.

هذه السيناريوهات بقيت مجرّد مشاريع ولم تتحوّل إلى أفلام، وهذا ما يؤكِّد أنّ طموحات بيدوتي كانت كبيرة في حين أنّ الإمكانات المتوافرة للإنتاج والتنفيذ كانت مُتواضعة.

*مؤسسة الفكر العربي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *