الأدب الوجيز وآليّات النقد المعاصرة (*)

Views: 1933

أ.د. مهى الخوري نصّار

نقد الكتابة الأدبيّة ومحاولة تصنيفها وتحليلها والتنظير في خصوصيّتها وعلائقها وجدواها، منافذُ متعدّدة تتّصل بمناهج النقد الأدبيّ وآليّاته وأسسه النظريّة وأدواته الإجرائيّة، وكيفيّة الانتقال فيه من المستوى التنظيريّ إلى المراحل التطبيقيّة بأيسر السبل وأوضحها.

 والنقد الأدبيّ هو فعل قراءةٍ مناقِشة ومحاوِرة ومسائِلة للمنجز الإبداعيّ. فالمعنى لا يكتمل في النصّ إلّا بالمـــُحاجّة بين فعل الكتابة المراوِغة وفعل القراءة الخلّاقة، غيرِ النهائيّة في مطلق الأحوال، لأنّها تخضع لطبيعة النصّ ولمختلف الظروف الزمانيّة والمكانيّة والمزاجيّة والسياقيّة للقارئ.

وجديرٌ بالذكر أنّ رؤية الإنسان المعاصر للمجتمع ولدوره فيه تغيّرت على نحوٍ واضح، فصار يميل نحو نمط حياةٍ جديدٍ يفترض استكناهأنماطٍ تعبيريّة جديدة، تستوجبُ بدورها مقارباتٍ نقديّةً ملائمة ومتطوّرة يستلهم منها الناقد التصوّرات في قراءة النصوص وفي الكشف عمّا يستترفيها من حمولات دلاليّة تختبئ تحت عباءة الجماليّ، وذلك كلّهعبر الغوص في متاهة البحث عن الجوهر انطلاقًا من تأمّلاتٍ لامتناهية متمرّدة على التقعيد والحدود.

المشاركون في الندوة.

 

الخروج من دائرة النصّ

ولعلّ أبرز ما يطبع الكتابة الإبداعيّة الراهنة، البعيدة بنظري ممّا يُشاعُ حولها من تُهَمالاستسهال، هو الخروج من دائرة النصّ (النثريّ أو الشعريّ) للانحسار ضمن إطار الجملة المركّزة،المتكاملة،المكتفية بذاتها إيحاءً وترميزًا ودهشةً، الكفيلةبتصوير مشهدٍقائمٍ على ومضاتٍ خاطفة، مكثّفةومختزلة، تتّفق مع النِظرة الجديدة لإنسان العصر الذي تحكُمه السرعة في كلّ شيء. وعلى هذا، لا بدّ من أن ينتفض النقد ويتأهّب لمداعبة الجمل/ الومضات/المشاهد، على نحوٍ يتلاءم مع تكوينها الفنّيّ الجديد. فالتكوّر داخل حدود المقاربات النقديّة التقليديّة المعياريّة السائدة لم يعد مقبولًا، وبات لزامًا علينا تحسّس عمق الأزمة النقديّة في المشهد الثقافيّ العامّ،فضلًا عن ضرورة الإقرار بافتقادنا التشخيص الدقيق لجوهر عقم معظمِ الكتابات النقديّة المنشورة، البعيدة من محاورة النصوص بجدّيّة وعمق.

وهذا ما هيّأ الشروط لصوغ إشكاليّة تتعلّقبالأدب الوجيز وآليّات النقد الجديد، توخّيًا لترسيم حدود هذا النقد، استنادًا إلى طرح أسئلة عن كيفيّة مقاربةهذا النوع الإبداعيّ الجديد بأسلوب نقديّ معاصر.فهل يمكن لنا أن نركنَ إلى مجموعة الأفكار الذهنيّة والخطوات العمليّة والإجراءات النقديّة ونسلّم بها من دون السعي إلى بذل جهد في سبيل تحديثها وتطويرها وبثّ روح التجديد فيها؟ ومن ثمّ،إلى أيّ مدى يمكن العمل على تجديدها وتفعيلها؟

بدايةً، لا بدّ لنا من التسليم بأولويّةِتمتّع الناقد بالجرأة والخيال والثقافة واليقظة التي تليّن النصوص وتكشِفها وتحييها.فالناقد، على حدّ تعبير بارت، “يتحمّل، عن قصد، مخاطرة إعطاء معنى خاصّ للعمل المنقود”. لذلك، فإنّ القياس على المناهج النقديّة المستوردة التي تجعل الناقد يكتفي بالبحث عمّا يسميّه عبد الدائم السلامي في كتابه “كنائس النقد” (كرّاس الشروط)،والذي يجعل الناقد يتلهّى بالكشف عن بنية النصّ وما يتّصل بها من زمان ومكان وشخصيّات ومنظور ونمط ورؤية، وعتبات وتبئير ومربّع سيميائيّ، وما إلى ذلك من تفاصيل أسهب في التحدّث عنها كلٌّ من جينيت وغريماس وتأثّر فيها وفيهما عدد من نقّادنا العرب، لم يعد مقبولًا. إذ إنّهم فرّغوا بتطبيقاتهم العمليّة النصوصَ من جوهر قيمتها الدلاليّة وتلهّوا باتّباع خَطَوات متلاحقة ومتدرّجة،كانت كفيلة بالإساءة إلى النصّ والجني عليه، بدلًا من جني ثماره الفنّيّة القيّمة.

د. مهى خوري تسلم الشهادة للدكتور منصور العمر من الأردن ويبدو إلى اليمين مؤسس الملتقى الأستاذ  أمين الذيب.

 

خفوت النقد العربيّ

ما يتناهى إلينا اليوم من أصواتٍ نقديّة لا يخلو من بعض المحاولات الجدّيّة الرائدة والمجتهدة، إلّا أنّ خفوت النقد العربيّ يبقى سيّد الموقف في ظلّ شيوع قراءاتٍ متعدّدة، عاجزة عن الفهم الصحيح للنصوص، تعمل على إرغامها على قول ما لا تريد قوله، استنادًا إلى نظريّات مقولبة تحكُمها التألية، ما يجعل الناقد غافلًا عن خصوصيّة النصّ، لا سيّما الوجيزِ منه، غيرَ آبهٍ للمحاورة والمساءلة والمناقشةوالتأويلالذي يتوعّدبتذوّق الإبداع وتوليد المعنى، ويهدّد بإبداء الجوهر وإفشاء السرّ.

       فالمناهج النقديّة السائدة،تجعل عددًا لا بأس به من النقّاد أشبهَ بفصيلةٍ من العسكر تنفّذ الأوامر الموجّهة أو الموفدة إليها من سلطاتها العليا،على النصّ، من دون اعتراض أو مساءلة، استنادًا إلى المبدإ الراسخ في الأسلاك العسكريّة: “نفّذ ثمّ اعترض”، والظاهر أنّهم اعتادوا التنفيذ المطمئنّ مع تسليمٍ كلّيّ، وتركوا الاعتراض، لأنّ أوهامًا برمجت عقولهم على خوفٍ راسخٍ يحذّرهم من وجود ألغام مزروعة داخل هذا النصّ،ولأنّهم استساغوا التنفيذ متّكلين اتّكالًا مطلقًا علىالعقل المدبّر، قائدِ خَطَواتهم، راسمِ تحرُّكاتهم، على نحوٍ آليّ مبرمج، ما جعل النصوص جثثًا لا خصوصيّة فيها ولا حياة، والأدهى أنّها أصبحث ثانويّةً في العمليّات النقديّة لأنّ الأولويّة تتركّز في سلطة المنهج الذي سيمارس سياسته القمعيّة والتقييديّة في آن، وسيُلزم الناقد باتّباع خَطوات عمليّة لا يجوز الحياد عنها خوفًا من تلمُّس ألغامه وانفجار معانيه.

هذه الخطّاطة النمطيّة والمواقف المكرَّسة والسخافة المكلِّسة لا تليق بإنسان العصر وبنصوص العصر وأقدس قضاياه الراقية..فالقراءة النقديّة التي تُعنى بالعام في النصّ ولا تتطرّق إلى الخاصّ فيه، والتي لا تسعى إلى نسج خيوطٍجدليّة قائمة على التعدّد والتنوّع، كفيلةٍ بتحليل النصوص تحليلًا داخليًّا، بعيدًا من المقاييس الجاهزة والأحكام المعلّبة، ليست قراءة، ولا تمتّ إلى النقد بصلة، بل هي تجارة نقديّة، لا حِرفيّةَ فيها ولا صناعة،لا خلقَ فيها ولا إبداع.

دكتورة لارا ملاك تسلم الشهادة للدكتورة مهى خوري، ويبدو  إلى يسارها  أمين الذيب.

 

ما هو البديل؟

وقد يسأل سائل، ما هو البديل؟ وما الحلّ؟

هذا السؤال يحيلنا إلى ضرورة إعادة النظر في النظريّات النقديّة الوافدة إلينا، مع الإشارة طبعًا إلى محوريّتها وإلى عدم القدرة على ادّعاءالرغبة في إغفالها أو إسقاطها أو التنكّر لها، بل على العكس، علينا الانفتاح عليها، ولكن مع التشديد على أن يكون الانفتاحُ حرًّا، يسعى إلى تجاوزها وتخطّيهاوالعمل على تلقّفها بديناميّةٍ متجدّدة واعية، تتيح لنا إدخال ذواتنا الناقدة في حالةٍ من المحاورة والمجادلة والتفاعل والتبادل مع الذات الكاتبة، وتفسح لنا المجال لتحقيق مفهوم “المعادل الموضوعيّ” الذي تحدّث عنه إليوت،وتسمح لنا إذّاك بنزع قفّازات التنميط والتبعيّة والتقليد والرتابة، لنلامسَ نسيجَ لغةِ النصوص”الثابتة والمتحوّلة”، ببصمة فرديّة حقيقيّة متميّزة صادقة، تصنع معنانا نحن، وتُنجز خِطابنا المبدَع بالمقروء.

 وبذلك، فإنّ الناقد المعاصر مدعوٌّ إلى اختبار عمليّة كيميائيّة تصهر المادّةَ الأصليّة الخام وتدمُجها وتشكّلها فتحوّلها إلى مركّبٍ إبداعيٍّ جديد، على نحوٍ تفاعليّ يقوم على تكثيف الجمل لتكون قادرة على محاكاة التكثيف في نصّ الكاتب وعلى تحديد ملامح الأدب المعاصر وتفعيل دوره، واستنادًا إلى الإيجاز الموحي القائم على استعارات فاعلة تضارع فعاليّة الأدب الوجيز ذي “الهندسة التشكيليّة المضغوطة” في”قولبة المعانيوتنظيمها… وفي تقطير العالم بأشيائه وأحيائه” على حدّ قول عبد الدائم السلامي في مقالته :”الجملة التي تقول العالم”، وانطلاقًا من ومضات إبداعيّة تشاكل ومضات النصّ المكتوب وتعمل على تفكيكه لفهم مضمونه ومقاصده وصولًا إلى رؤيةِ ما لا تراه عين الأديب، واعتمادًا على خيال خلّاق يضاهي خيال الكاتب ويحاكيه ليكشف عن مظاهر الجمال في النصّ وعن مكامن الاتّصال مع بيئة الكاتب وتركيباتها الطبيعيّة اتّصالًا مباشرًا.

 

دور الوعي

وفي هذا الإطار لا بدّ أيضًا من التركيز على دور الوعي المقرون بالصبر والتجلّد والشكّ المتوقِّدفي ممارسة العمليّة النقديّة، ما يؤدّي دورًا فاعلًا في إمكانيّة تجاوز ما يطغى على النقد من أحكام استنسابيّة، ذوقيّة، انطباعيّة، يقع في شركها أحيانًا الناقد العربيّ حين يكتفي بقراءة الظاهر والخارجيّ من أشكال كتابة النصوص، من دون محاولة الغور في أشكالها العضويّة، الفطريّة التي تشكّلت مادّتها أثناء تطوّرها من الداخل، كما يقول إحسان عبّاس في كتابه “فنّ الشعر”… وذلك كلّه، انطلاقًا من أفكار مسبقة تراءت له ممّا يعتمل في رأسه وليس ممّا ينضح به النصّ، وأحيانًا استنادًا إلى مقولات ونظريّات قد تجاوزها أصحابها وتخلّوا عنها، وأحيانًا أخرى انطلاقًا من مناهج علميّة يستحضرها من خارج إطار ثقافته العربيّة ويطبّقها بنزاهة وأمانةٍغير آبهٍ لمبدإ استثمار الأبعاد الحضاريّة اللغويّة والثقافيّة والزمانيّة والبيئيّة في كلّ نصّ، ولاختلاف سلطة ذاكرة النصوص في الشعريّة العربيّة، ولعامل تفاعل الأنظمة الأسلوبيّة، ولعالم التناص الذي يُبتنى من ذاكرة مختلفة، أي من دون أن يلتفت الناقد إلى منطق الحياة والكشف عن العالم،فيقع في التشتّت والفوضى والمزاجيّة،بفعل التناقض الواضح بين الدلالات المستلّة غصبًا وواقع البنية الفنّيّة، ما يُفقد العمق النقديّ علميّته وموضوعيّته، ليصبح جاهزًا وصدى لما سبقه، أو قل ليصير أشبهبلباسٍفضفاضٍ يناسب كلّ الأجساد الإبداعيّة، ويسترها، من دون أن يفضحَ مكامنَ الجمال فيها.

 

نهضة المبدِع

تثير هذه المداخلة مجموعة إشكاليّات (إشكاليّة المصطلح/ إشكاليّة المناهج بين التنظير والتطبيق…) وتفتح المجال على العديد من التساؤلات فتجعلنا نقرّ بأنّنا لا نمتلك القول الفصل في موضوع كيفيّة تطوير آليّات النقد المعاصرة على نحوٍ عمليّ واضح ومتكامل يتلاءم مع عناصر الأدب الوجيز وخصائصه، ولكن، ممّا لا شكّ فيه، أنّ نهضة المبدِع، وفي أيّ وقت وعصر، لا بدّ من أن تترافق وتتلازم مع نهضة الناقد فنّيًّاواجتماعيًّا وحضاريًّا، وأنّ هذا الأخير، لا بدّ له من أن يتمتّع بقدراتٍ فنّيّة وطاقات تجسيديّة، وأن يملِك رؤيةً شاعريّة وحسًّا وجدانيًّا مرهفًا وذكاءً فاعلًا في مخاطبة النفس الإنسانيّة، وفي التقاط زوايا الأحداث وصورِها للكشف عن التجربة التي استحالت شكلًا. فالنقد إبداعٌ جديد للنصّ على مستوى علميّة التوصيل، وإنتاجٌ له على نحوٍ ممتعٍ وموسّع ودقيق. هو عمليّةٌ ثنائيّة متدفّقةتحقّق الفهم والإفهامَ معتمدةً على تهيئة النفوس وتلقيح الأفكار وتغذية العواطف على نحوٍ أصيلٍ كفيلٍ بفضح الذوات المنتجة والمتلقّية. هو مخاض ولادةِ روحٍ إبداعيّة حيّة على نسائم الحرّيّة وخيوط اللّذة التي تحمل معنى الحياة وطعمها، بعيدًا من أخشاب النعش النقديّ المنضّدة، الثابتة، العقيمة التي لم ولن تزهرَ يومًا…

***

برعاية وزارة الثقافة اللّبنانيّة، وبالشراكة مع كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللّبنانيّة، وبمشاركة أدباء ونقّاد من مختلف الدول العربيّة، عُقد المؤتمر التأسيسيّ للأدب الوجيز في بيروت، بعنوان “الأدب الوجيز هويّة تجاوزيّة جديدة”، وذلك في ٢٠ و ٢١ حزيران ٢٠١٩.

(*) مداخلة أ.د. مهى الخوري نصّار في الجلسة الثانية من محور “الأدب الوجيز ومفاهيم النقد الجديد”، بعنوان “الأدب الوجيز وآليّات النقد المعاصرة”، ستُدرج قريبًا في كتيّب خاص بالمؤتمر.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *