الثورة اللبنانيّة في أسباب تعطّلها المحتمَل

Views: 759

د. مشير عون

(الخميس 7 تشرين الثاني 2019)

احترامًا للغضب الشعبيّ الصادق ينبغي أن نعترف بهذه الرغبة الملحّة في الثورة تستحوذ على وعي فئات كثيرة من المجتمع اللبنانيّ. فليس من الصواب العقليّ أن يُنكر المرء ما يعاينه في مشاعر الناسمن تحرّق ساخط، واختناق منهك، ويأس سحيق. بيد أنّ الحكمة تقتضي التبصّر في الأخطار التي تحدق بالثورة اللبنانيّة اليافعة. من غير المغامرة باستطلاع مسرى الأحداث المقبلة، أودّ أن أستجلي بضعةً من هذه الأسباب التي قد تحرف الثورة عن مقاصدها وتزجّ بها في أتون الاحتراق.

أسبابُ التعطّل شتّى. منها التباسُ الرؤية الفكريّة التي يستند إليها الثوّار في مسعى التغيير. ولذلك ما زلتُ أصرّ على مضاعفة الجهود من أجل استيضاح التصوّرات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تنطوي عليها طاقاتُ الاعتراض الشعبيّ. فهل يدرك الثوّار مثلًا أنّ التصوّر الثقافيّ المبنيّ على شرعة حقوق الإنسان يُعرِّف الإنسان كائنًا حرًّا في ذاته ومسؤولًا بذاته، وهو تعريفٌ لا تنبئ به إلى الآن وقائعُ المسلكيّة العامّة في الاجتماع اللبنانيّ؟ فإذا أراد اللبنانيّون أن يناصروا هذا التصوّر الثقافيّ الكونيّ، كان عليهم أن يناضلوا نضالًا حثيثًا في توعية ذاتهم وتوعية الآخرين من أجل تطوير البنى الدستوريّة التي بها ينتظم اجتماعُهم الإنسانيّ.

من الأسباب أيضًا التباسُ الخطط العمليّة التي تعتمدها الثورة اللبنانيّة في ابتداع التغيير المنشود في الذهنيّات والبنى والممارسات والوقائع. بعض الثائرين يطلبون الحدّ الأقصى من عنف الثورة، وبعضهم يكتفون بالحدّ الأدنى من ضعط الشارع والتظاهر، وبعضهم يراوح بين الحدَّين. في جميع الأحوال، ينبغي النظر في مسألة التوعية والتربية والتوجيه لأنّ المجتمع اللبنانيّ لم تستقم بناءاتُه استقامةً تتيح للّبنانيّين أن يثوروا ثورةً عنفيّة من غير أن يقضوا على الوجود اللبنانيّ قضاءً مبرمًا. وفي هذا الانعطاب اختلافٌ جليلٌ بين المجتمعات المتأخّرة والمجتمعات المتقدّمة التي تطيق العنف مرحليًّا من دون المسِّ بمبانيها الكيانيّة الصلبة.

من الأسباب أيضًا احتمالُ تفجّر العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة التي تحتقن بفعل السموم الغرائزيّة التي تنفثها ثعابينُ الطوائف حين تحرّض على الاقتتال صونًا لمصالحها الأنانيّة الضيّقة. فالذاكرة اللبنانيّة القديمة والحديثة أثخنتها جراحُ الاحتراب الطائفيّ العبثيّ، وشوّهتها منازعاتُ الغرباء على الأرض اللبنانيّة. ومن ثمّ، فلا عجب أن يتربّص أهلُ السوء بالثورة اللبنانيّة ليقضوا عليها بالضربة الفتّاكة حين ينجحون في إلهاب غرائز التعصّب الدينيّ والتطرّف القوميّ الأيديولوجيّ. 

من الأسباب أيضًا احتمالُ الانهيار الاقتصاديّ الذي قد يضع اللبنانيّين بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر، وقد أضناهم الفقرُ واعتصرهم الجوعُ وأتلفهم التلوّثُ الضاربُ من كلّ حدب وصوب. حين عميت أبصارُ اللبنانيّين عن فساد زعمائهم، سقطوا كلّهم في محنة التواطؤ. فاللبنانيّ الذي ينزّه زعيمَه في خبث ارتكاباته المفضوحة لا يحقّ له أن يقاتل الدولة المسلوبة التي مصَّ دماءها الزعيمُ الفاسد. لذلك يَضطرّه تواطؤه إلى أن يُسقط على شركائه المعذّبين في الوطن جام غضبه. وفي هذا الإسقاط مرضُ الأمراض في الاجتماع اللبنانيّ، إذ يبلغ الخبث بالزعماء مبلغًا يمنحهم القدرة على التلاعب بمشاعر الناس المستعبَدين، فيؤلّبون بعضهم على بعض حتّى الاقتتال والإفناء.

من الأسباب أيضًا التزييفُ الأيديولوجيّ الذي أتقنه وبرع فيه أصحابُ النفوذ السياسيّ والماليّ والدينيّ في الطوائف والأحزاب والتجمّعات. هو حفلُ جنونٍ إعلاميّ يستضيف أسوأ أصناف المنظّرين السياسيّين والأيديولوجيّين الذين يطوّعون الوقائع والحقائق ويَلوونهاويشوّهونها من أجل خدمة الأنظمة المستبدّة التي تحاصر لبنان لتُملي عليه مشيئتها. والناس في لبنان يخلط معظمُهم الحقّ بالباطل، فيطلبون الحقيقة حيث الخداع والتضليل والتدليس.

يبقى للّبنانيّين أن يدركوا خطورة هذه الأسباب وقد التأمت في أحوال حالكة تهدّد ثورتهم بأوخم العواقب. وحده الوعي النقديّ المنزّه المجرّد يؤهّل الثورة للمواجهة العقلانيّة المصيريّة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *