لبنان المئويّة الأولى… من النهضة العربيّة إلى الصحوة الدينيّة

Views: 712

 أ.د. مشير باسيل عون

من الثابت في التاريخ أنّ كلّ شيء متحوّلٌ. القائلون بسرمديّة الوطن اللبنانيّ يعلمون أنّه في الأزل لم يكن لبنان، وفي الأبد لن يكون لبنان. والمعلوم أنّ اصطلاح الأزل واصطلاح الأبد ضعيفان علميًّا، ملتبسان فلسفيًّا، مُربكان شاعريًّا وصوفيًّا. فإذا كانت الأرض كلّها أضحت على مشارف الانحلال البيئيّ والتلاشي الكونيّ، فما بالك بكيان سياسيّ معتلّ مضطرب متفكّك كالكيان اللبنانيّ! غير أنّنا ما زلنا نحيا في الزمن اللبنانيّ. ولا بدّ لنا من التأمّل في مآلات الاختبار اللبنانيّ من بعد أن تصرّم من تاريخ إنشاء لبنان الكبير قدرٌ جسيمٌ من العقود.

يتهيّأ لي أنّ نشأة لبنان الكبير صاحبها إدراكٌ جميلٌ لوعود النهضة العربيّة التي حمل لواءها غيرُ لبنانيّ منتشر في لبنان وسوريا ومصر. جوهرُ القضيّة في هذه النهضة الانتصارُ لمبدإ القوميّة العربيّة العَلمانيّة المنفتحة. فنشأ لبنان على رجاء الاعتصام بهذه القوميّة واستلهام مبادئ التنوير الأوروبّيّ الذي أفضى في طوره الأخير إلى صياغة شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. من جرّاء تفاقم الظلم العثمانيّ، أحسّ بعضُ اللبنانيّين أنّ مقولة القوميّة العربيّة هي الملاذ الآمن للإنسان في المجتمعات العربيّة. ومع أنّ بعضًا من المفكّرين اللبنانيّين كانوا آنذاك يدركون صعوبة تكيّف السلطنة العثمانيّة مع مقتضيات التنوير الأوروبّيّ، وذلك على الرغم من الاجتهادات التشريعيّة والإصلاحات الدستوريّة والتدابير الإداريّة التي اعتمدتها السلطنة احتواءً للانتفاضات واجتنابًا للتفكّك، فإنّ الوعي القوميّ العربيّ كان قد فعل فعله في ثنايا المجتمعات العربيّة وفي المنتديات والمجالس والمحافل.

بيد أنّ الجميع يعلم أنّ زمن القوميّة العربيّة لم يُنصف هذه المجتمعات العربيّة، بل سار على نهجٍ من الاستئثار والتسلّط والاستغلال أفضى إلى افتضاح مقاصد القوميّين الذين تبوّأوا مقاليد الحكم. ليس لي في هذا المقام أن أتدبّر أنماط الحكم القوميّ في كلّ مجتمع عربيّ على حدة. أكتفي بالإشارة إلى أنّ الفكر القوميّ طورٌ من أطوار الفكر الإنسانيّ، تعتنقه الجماعةُ حين تظنّ أنّها في خطر ذوبان الهويّة الذاتيّة الجماعيّة وعلى مشارف الانحلال والتلاشي. قوّته منبثقةٌ من شعورٍ في الهويّة والمنعة والحماية يكتنف الفرد اكتنافًا يجعله في منأى عن منقلبات الدهر. ضعفه ناشئٌ من إخضاع الفرد لمثالٍ في الجماعة لا يطيق تفتّح القابليّات الذاتيّة. فالفرد في الفكر القوميّ خاضعٌ لاعتباراتٍ تعارض مبدأ الحرّيّة الذاتيّة ومبدأ المسؤوليّة الذاتيّة. وقد تبيّن أنّ مقولة العزّة القوميّة لا يمكنها، لا في العالم العربيّ ولا في الغرب، أن تحتضن الذاتيّة الفرديّة الحرّة الخلّاقة المنعتقة من قيود التصوّرات المغلقة. زد على ذلك اقتران الأنظومة القوميّة بتأليه الزعيم القوميّ. هذا في الالتباس الفكريّ اللصيق بالأنظومة القوميّة العربيّة. أمّا الانحرافات التاريخيّة، فتفاقم أثرها في المجتمعات العربيّة الحديثة الاستقلال حتّى اتّضح أنّ القوميّة ضحيّةُ ضروب الأثرة والتسلّط والظلم والفساد في إدارة ثروات الطبيعة والإنسان في هذه المجتمعات. احتربت الأنظمة العربيّة القوميّة احترابًا أفضى إلى انتهاك الحقوق الإنسانيّة الأساسيّة للأفراد والجماعات والأوطان. ولن أستفيض في رثاء ممارسات الأنظمة العربيّة التي تدرّعت بالفكر القوميّ لتسويغ جبروتها العسكريّ وترسيخ نفوذها الاقتصاديّ. وقد عانى لبنان الأمرَّين حين تزاحمت على حدوده مطامعُ هذه الأنظمة تزيّن له الانضواء إلى محاور أيديولوجيّة لم تكن تبحث إلّا عن تعظيم سلطانها.

اختبارات عربيّة ولبنانيّة

في إثر النضهة العربيّة المستندة إلى الفكر القوميّ، اختبرت المجتمعات العربيّة، ومنها المجتمع اللبنانيّ، ثورةً اشتراكيّة طفقت تنادي بمبادئ العدالة والمساواة وتنهج نهج التغيير البنيويّ الجذريّ. اختلط هذا الطور الثاني بالأنظمة الشيوعيّة التي ما أفلحت في التوفيق بين قيمة العدالة وقيمة الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة وما تنطوي عليه من تصوّرات ليبراليّة. فتعثّر الإقبالُ العربيّ على الاشتراكيّة العالميّة بسببٍ من صراع النفوذ بين الولايات المتّحدة الأمِريكيّة والاتّحاد السوفياتيّ. في غضون ذلك، كانت القضيّة الفلسطينيّة قد بلغت مبلغًا خطيرًا من التأزّم والحدّة. فتواطأت القوى الإقليميّة على إجهاضها، وذلك من بعد أن ساندتها الأنظمة الشيوعيّة والاشتراكيّة العالميّة. وقد صُعقت المجتمعات العربيّة بتخلّي الغرب الليبراليّ عن حقوق الشعب الفلسطينيّ وخضوعه الصريح للنفوذ الإسرائيليّ. والحال أنّ التسوية السياسيّة التي أقرّت بها الأمم المتّحدة تقسيمًا عادلًا للأرض بين دولتين مستقلّتين وفرزًا للقدس عاصمةً حضاريّة كونيّة كانت على قدر مقبول من العقلانيّة الواقعيّة.

في الطور الثالث اختبرت المجتمعات العربيّة، ومنها المجتمع اللبنانيّ، الصحوة الدينيّة التي دفعت بالناس إلى الانفكاء الملتبس إلى المحضن الدينيّ، وذلك على رجاء الشفاء من انحرافات الأنظمة القوميّة والأنظمة الاشتراكيّة، وعلى رجاء تجاوز الانتكاسات الخطيرة التي خلّفها اندحارُ الجيوش العربيّة في الحروب التي شنّتها دفاعًا عن فلسطين. مثل هذه الصحوة الدينيّة حملت إلى المجتمعات العربيّة عناصر الاستقواء بالهويّة الجماعيّة الصافية التي تتجاوز التصوّرات القوميّة والتصوّرات الاجتماعيّة الاشتراكيّة. فالإسلام في أمجاد العصر الذهبيّ كان هو اليقين الأوحد القادر على ضمان الغلبة والسؤدد في فتح الأمصار وهداية الناس. لذلك يكفي اليوم أن تستعيد المجتمعات العربيّة أمانة الالتزام الدينيّ الصافي حتّى تفوز بمقامها الحضاريّ في معترك الاحتراب الكونيّ.

أمّا في الزمن الراهن، فإنّ الاجتياح الكاسح لمقولات العولمة الاقتصاديّة أسقط مقولات القوميّة والاشتراكيّة والسلفيّة الدينيّة في مأزق الانسداد المعرفيّ والعقم التاريخيّ. الأرض كلّها غدت اليوم مرتهنةً لاعتبارات الإنتاج المتفلّت والاستهلاك المرَضيّ والشيوع المطلق لجميع ضروب المعلومات والأفكار والتصوّرات والرؤى. الأدهى أنّ النسبيّة الثقافيّة أصابت جميع حقول الوعي الإنسانيّ، ولئن ظلّت بعض المجتمعات منغلقةً على تصوّراتها الصلبة. من جرّاء ذلك كلّه، تضاءلت التمايزات بين أنظومة سياسيّة وأنظومة سياسيّة أخرى، فأضحت معايير الإنتاجيّة والفاعليّة والاستقطابيّة الإعلانيّة الآنيّة هي مُستند التواصل بين هذه الأنظمة، على اختلاف مبايعاتها الرأسماليّة والشيوعيّة والدينيّة. وانتقل الفعل السياسيّ من دائرة التصارع بين تصوّرات فكريّة أنتروبولوجيّة إلى حقل التنافس على الفوز بأفضل الاستثمارات الاقتصاديّة والضمانات الماليّة والغلبة الموهومة في العالم الافتراضيّ.

التصارع والاحتراب

اختبر لبنان في مئويّته الأولى جميع هذه الأطوار. فابتهج بعض اللبنانيّن بوعود النهضة القوميّة، وانخرط بعضٌ آخر في مسالك الاشتراكيّة المجاهدة، وبايع بعضُهم أحكام الإحيائيّات الدينيّة الهائجة، وارتاح آخرون، على قلّتهم، إلى استشراف آفاق النسبيّة الثقافيّة الكونيّة. في كلّ طور من هذه الأطوار، تواجه اللبنانيّون تواجهًا حادًّا قذف بهم في لجّة التصارع والاحتراب. هذا كلّه يعلمه أغلب اللبنانيّين. أمّا الذي قد يخفى على بعضٍ منّا، فهو أنّ هذه الأطوار كانت تولّد في لبنان أوضاعًا شتّى من التحوّل الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ. إلّا أنّ الطور الإحيائيّ السلفيّ الأصوليّ قد يُفضي بالوطن اللبنانيّ إلى تحوّل خطير لا يمكن الانعتاق منه لشدّة الأثر الكيانيّ الذي سيتركه في النسيج الاجتماعيّ والثقافيّ والوطنيّ والسياسيّ اللبنانيّ. أعني بذلك أنّ الصحوة الدينيّة الشيعيّة والصحوة الدينيّة السنّيّة تتقابلان في لبنان على أشدّ ما يكون التقابل حدّةً وتأزّمًا. وإذا ما انضاف إلى هذه المواجهة الإحيائيّة ما ابتلي به الوطن اللبنانيّ من اضطراب في النفسيّة اللبنانيّة، وتنازع في الذاتيّة الأخلاقيّة اللبنانيّة، وخلل في النزاهة التشريعيّة، وانعطاب في المؤسّسات، وفساد في الإدارة، والتواء في المسلك السياسيّ، وأثقال في استقبال اللاجئين الفلسطينيّين والنازحين السوريّين، واضطراب في العلاقات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، وتشنّج في التواصل بين الجماعات اللبنانيّة، واختلال في الميزان الديمغرافيّ، تهيّأ للتحوّل الدينيّ أن يغيّر المشهد الاجتماعي والثقافيّ والسياسيّ اللبنانيّ تغييرًا بنيويًّا خطيرًا.

الظلم الدهريّ

أمّا الظلم الدهريّ الذي وقع على لبنان في غضون هذه المئويّة الأولى، فهو أنّه استقطب إليه جميع ضروب الويلات التي تُبتلى بها المجتمعات الإنسانيّة. فلقد يُبتلى مجتمعٌ بآفة الفساد، أو بأسقام التنازع الطائفيّ، أو بظلم العدوان الخارجيّ، والعدوان الإسرائيليّ من أعتاها في هذا الزمن الرديء، أو بتخلّف المحيط الذي يكتنفه، والمجتمعات العربيّة تعاني أقسى ألوان التخلّف السياسيّ، أو بإعاقات التصارع الأيديولوجيّ بين الأنظومات القوميّة والاشتراكيّة والرأسماليّة والدينيّة. غير أنّ احتشاد جميع هذه المصائب في بقعة واحدة وتواطؤها على إهلاك الإنسان اللبنانيّ يجعلان الانعطاب يصيب عمق الكيان اللبنانيّ وصميم الذات اللبنانيّة وجوهر الوجود اللبنانيّ. أقول هذا كلّه لأبيّن استحالة الإصلاح في لبنان. من أين يمكن الشروع في إنهاض هذا الجسم المتهاوي الذي أثخنته جراح المئويّة الأولى ؟ وكيف يمكن اللبنانيّين أن يفصلوا حقلًا من الحقول ليستهلّوا به الحرث النظيف ؟ كلّ الحقول متشابكة متنافذة متواطئة. أفنبدأ بالفساد ؟ ما إنْ يجرؤ أحدٌ على اقتضاح الفساد الإدرايّ حتّى تسارع الطوائف إلى النجدة العمياء للفاسدين من رعاياها. أفنبدأ بالاستقلال والسيادة ؟ ما إنْ يناصر المرء القرار اللبنانيّ الحرّ حتّى تُحبطه الولاءات الإقليميّة التي ينساق إليها العقلُ اللبنانيّ المنفعيّ. أفنبدأ بإصلاح النظام الطائفيّ ؟ ما إنْ يطرق المفكّر باب العَلمانيّة الهنيّة حتّى ينتفض أصحابُ النفوذ السياسيّ والدينيّ ليتواطأوا على الحراك العَلمانيّ الهشّ صونًا لمصالحهم الأنانيّة. أفنبدأ بترميم الذات اللبنانيّة الفرديّة التي أسقمتها الانحرافاتُ السياسيّة والدينيّة والعشائريّة ؟ ما إنْ يحاول المربّي أن يُلهم الناشئة وعيًا راقيًا بالكرامة الفرديّة الحرّة حتّى تهبّ عليه المؤسّسات التربويّة وتطرده من قلاعها الأيديولوجيّة المتحجّرة حفاظًا على سلامة الهويّة الطائفيّة.

***

من أراد أن يتأمّل في عبَر المئويّة الأولى كان عليه أن يتدبّر جميع هذه الإخفاقات البنيويّة التي انتابت الاجتماع اللبنانيّ. وكان عليه أن يبتدع سبيلًا خلّاقًا يتيح للّبنانيّين أن يتجاوزوا اضطرابات الزمن السياسيّ الكونيّ، وانسدادات الأفق العربيّ في تخلّفاته وفي فواته التاريخيّ الحضاريّ، والتواءات الذات اللبنانيّة السقيمة، وانحرافات الإدارة السياسيّة المحلّيّة وفسادها المستشري. أفيكون الحلّ في ابتداع زمن استثنائيّ يقوده مستنيرٌ مستبدٌّ يقوّم الاعوجاج بالقوّة المستمدّة من شرعة حقوق الإنسان ؟ كثيرٌ من أصدقائي يسترهبون هذا الحلّ لما ينطوي عليه من مخاطر الانحراف. غير أنّ العقل السياسيّ الغربيّ ابتكر مقولة القيادة الاستثنائيّة في زمن الانحلال الكيانيّ. أفيكون هذا الاستبداد المستنير هو الحلّ الوحيد الباقي من أجل صون لبنان في مئويّة ثانية ؟

***

(*) النص نقلا عن “النهار”، صور اعلان دولة لبنان الكبير في قصر الصنوبر نقلا عن “المدن”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *