“نحو رياض الحَنين” للشّاعرة نَدىَ نِعْمه بَجَاني… كَلِمَاتٌ مَنْظُومَةٌ في عِقدٍ مِنْ  جُمَان

Views: 749

مدريد – د . محمّد.م خطّابي *

قصيدة ”نحو رياض الحنين” من ديوانها الجميل” ملحمة الغرام ”للشّاعرة اللبنانية الرّقيقة صاحبة الصّالون الأدبي والشعري المرموق ”امرأة تحت الشمس”.. كلمات مخمليّة، صافيّة، نقيّة، موفيّة منظومة في عِقدٍ  من جُمان، من خيوط حريرية، سُندسية، رفيعة،وحروف لامعة بديعة، سلسة، سهلة، سامية، ساحرة، آسرة، راقية، بلّوريّة، لامعة،ساطعة، متماسكة، متناسقة، متوافقة، متطابقة، مُنيرة، مُشرقة، مُشعّة، وضّاءة، متّقدة، رقراقة، خصبة، سلسبيلة، مُنسابة، طيّعة، ليّنة، رخوة، وديعة،بديعة، شفيفة، عفيفة، عميقة، مُثقلة بأنبل معاني الحنين،والمحبّة،والطاعة، والرّضى،والتفاؤل، والجمال، والدّلال، والآمال. .. إنها تقول ،بل تشدُو، وتصدحُ، وتتغنّى من الأعماق :

وَحيدَةً أرْحَلُ..مَسْكونَةً بِالحُبِّ..بِأَسْرارِ الدِّفْءِ..بِأُغْنِياتِ المَوْجِ..بِأَحْلامِ الذّاتِ..بِمَلَكوتِ الحُبِّ الرّاحِلِ..بِمَداراتِ الحاضِرِ..بِفَراغاتِ الآتي..وَحيدَةً أَمْضي..أَبْحَثُ عَنْ بَلْسَمٍ..عَنْ سِرِّ السَّكينَةِ..عَنْ مَعنى الكائِناتِ..عَنْ عِشْقٍ قُدْسِيٍّ في الفُؤادِ يَتَرَبَّعُ..وَعَلى شِفاهِ الدُّنْيا اسْمُهُ..أُكَلِّمُهُ عَبْرَ قَوافٍ بِالمَكْتومِ تَئِنُّ..تَصوغُ تَراتيلَ الأَسْفارِ..تَكْتُبُ تاريخَ هَوًى أَوْحَدْ..وَعُيونُ القَلْبِ في سَماءِ التَّنْهيدِ تَهْزَعُ..وَمَواجِعُ الخافِقِ لِمَشيئَةِ الحَياةِ تَخْشَعُ..وَحيدَةً أُآسي شَمَّ العِطْرِ..أَقْطِفُ لآلِئَ الشَّمْسِ..أَطوفُ أَزْمِنَةً بِلا إِسْمِ..أَقْطَعُ أَماكِنَ نَطَقَ فيها حِسّي..وَارْتاحَتْ في دُنْياها نَفْسي..فَهَذا بَعْضٌ مِنْ أَمْسي..وَهذا بَعْضٌ مِمّا في سِرّي..وَهذا بَعْضُ ما وَقَّعَتْهُ بَصَماتُ فِكْري..وَبَعْضٌ مِمّا ذاتَ عُمْرٍ أَنِسْتُهُ..وَفي شَغَفي كَأْسُ هَيامٍ مُتْرَعُ..وَفي روحي نَبْضُ قَلْبٍ..إذا ما تَناهى إلى مَسْمَعي..أُوسْطورَةٌ تُرْوى.. وَما تُطْبَعُ..فَطِلَلُ الرّوحِ في أَرْضِ الحَبيبِ تَصُبُّ..وَياسَمينُ القَلْبِ في رِياضِهِ يَتَضَوَّعُ .

الشّعر هو اللغة في أرقى مظاهرها

إذا كان ”بِرْغْسُونْ” يَنعْيِ على اللّغة قصورَها الشّديد في التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشّعر الحقّ قد فتح البابَ على مصراعيْه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقىَ ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة، وتطويعها، وإعطائها نفساً إبداعياً جديداً، ذلك أنّ الشّعر هو اللغة في أوجها، وفي أرقى مظاهرها، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكلّ ما ينطوي تحت هذه الكلمة من دلالة، وحيرة، وغموض.وتناوش، وتشاكس،إنه الشّعر الصادق الذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا إلى أعلى علييّن عند قراءته، والذي لا يرقىَ إليه سوى القادرعلى إقتحام شعابه، وسبرعوالمه، إنه الشّعر الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغافَ قلوبنا، وقلوبَ المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء.

 الشّعرُ تحدٍّ للوجود وإمتداد له

والشّعر ليس قصّة تُرْوَى، ولا منطقاً يُدرَّس، ولا فلسفة تُناقش، ولا قولاً يجرى على ألسنة قادة كبار العقول، وهو ليس عِلماً محدّداً، ولا غايةً في ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعاً وما وراءها، وما فوقها، وما تحتها، إنه عِلم ما وراء العِلم، وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض، وقلق، وحيرة، وإغتراب، الشّعر تحدّ للوجود ،وعناق لهذا الكون، وإمتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تَسري في أنغامها آهات العشّاق، ولا أنشودة تُفصح عن شكوى المتيّمين، الشّعر ضَرْبٌ من مناوشة الكون،ومناجاة الرّوح، ومناغصة الوجود ومناغاته، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها.

والقصيدة الجيّدة تجسيد أبديّ لصورة الوجود، تتعدّد فيها الدّلالات، وتتشعّب الرّموز، وتختلط وتتداخل في تناوش بديع، هي التي تكاد أ، لا تقول أيّ شيء وهي في الوقت ذاته تقول كلَّ شيء، والشّعراء،والشّاعرات أناس سيزيفيّون، دائمو الحيرة، والقلق، والعذاب، والمعاناة، واليقظة، والأحلام، والسُّؤْل عن كنْه الحياة، وأسرارها، وتناقضاتها، وغموضها وألغازها .

أكتافيُو باث

 

القصيدة باقية بقاءَ الدّهر

 إذا كان الفيلسوف الألماني”هيغل” قد حكم على الشعر بالموت ، فإن الشاعر المكسيكي الكير أوكتافيو باث  (حاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1990) أعاد إليها الحياة في أبهى صورها وأسمى مظاهرها  وقال إنها باقية بقاء الإنسان على هذه الأرض، باقية بقاءَ الدّهر لأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات، وهي ليست وقفاً على حاضر، أو ماض، أو آتٍ، بل إنّها تطوى المسافات السّرمدية طيّاً، لتضرب في عمق حياتنا الأولى، وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطيرَ الأقدمين إلى عِلْم المحدثين، إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس. إنّها – كما يقول كولاريدج وريتشارز – مخلوق يدبّ على قدمين، وليس للشّاعر، أو الناقد أو الدارس عليها هيمنة، ولا سلطة، ولا سطوة، لأنها ليست ذاته، ولا حياته، ولا تجاربه، ولا معاناته، ولا أحاسيسه وحده بل إنها ذوات، وحيوات، وتجارب، ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه،وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود.

حَجَر الشّمس لأكتافيُو باث

 تهانينا القلبية الحارّة للشّاعرة المبدعة الأنيقة، الصّديقة الرقيقة الأستاذة ندى نعمه بجاني عن هذا الإبداع الشّعري الجميل الذي يؤكّد، ويتماشى مع المعنىّ التفاؤلي الذي دعا إليه وتحمّس له ودافع عنه شاعر الأستيك، وعبقريّ المكسيك صاحب (حَجَر الشمس) ”أوكتافيو باث” الذي شاء القدر، وشاء الحظّ أن قيّضَ لي حظوة اللقاء به  خلال عملي بسفارة المغرب بالمكسيك أوائل التسعينيّات من القرن الفارط عندما قدّمتُ في مَحفل أدبيٍّ راقٍ بالعاصمة المكسيكية ترجمتي الى إللغة العربية لقصيدته الكبرى (حَجر الشمس) المُدرجة في صدر كتابي الأنطولوجي حول الشعر الأميركي اللاّتيني الحديث والتي يقول عنها صاحبُها: “إنّها تنتهي من حيث تبدأ، وتبتدئ من حيث تنتهي”، أيّ أنّها وُضعت على شكلٍ دائريّ مثل حجر الشمس نفسه وهو تقويم أزتيكي. عدد أبيات القصيدة 584 بيتاً وهو نفس عدد الأيّام التي يستغرقها كوكبُ الزّهرة ليتزامنَ مع الشمس ورحلة ”كيتزالكواتل” إليها (الإله الطائر الأفعوان الذي يُغطّي جسمَه الرّيش) حسب الأساطير المكسيكيّة القديمة، ولقد شكرني  أوكتافيو باث خلال هذا الحفل الأدبي أمام الملأ عن ترجمتي لقصيدته ولباقات أخرى مختارة من شعره الرّمزي، الرّاقي، البليغ إلى لغة الضّاد، كما شكرني عن وضع عنوان قصيدته عنواناً لغلاف كتابي ”حجر الشمس ثلاثون قصيدة من الشّعر الأميركي اللاّتيني المعاصر” الصّادر مؤخّراً عن المجلس الأعلىَ للثقافة  (المشروع القومي للترجمة)  بالقاهرة  (طيّه صورة الكتاب).

***

(*)كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأميركية للآداب والعلوم –بوغوتا- كولومبيا . 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *