محمود درويش… شَاعِرُ المقاوَمةِ، وشاعرُ الرّومنسيّةِ والحُبّ والحنينِ 

Views: 3551

د. كلوديا شمعون أبي نادر

“أتيتُ ولكنّي لم أَصِلْ… وجئتُ ولكنّي لم أَعُد”. هذا ما قالَه محمود درويش، ولقد بَدَأَتْ حكايتُهُ مع صوتِ المنفى والمقاومةِ والسلامِ، ومع الحُب. هو لا يتكلّمُ بالأَلغاز، فَهو شاعرُ الجرحِ والحياةِ ما بعدَ الجُرح، وهو القائلُ: “أنا مريضٌ بالأمل”، و”أُؤْمِنُ بقوّةِ اليأس”.

        كافَحَ ضِدَّ الاستبدادِ الصُّهيونيّ، إلّا أنّهُ رفضَ مًواجَهَتَهُ باسْتبدادٍ عربيّ. شَاعِرُ المقاوَمةِ، وشاعرُ الرّومنسيّةِ والحنينِ والحُبّ. إِرْتَبَطَتْ بهِ قضايا الإنسان، وقضايا العصرِ الجوهريّة. دَأْبُهُ تَحْويلُ الذّاتيّ إلى جَمْعِيّ، والجَمْعِيّ إلى كَوْنيّ. وقَلَقُهُ الوُجودِيّ حَوَّلَهُ من شاعرِ المقاومةِ إلى شاعرِ الحريّة.

        وإن كانت صُوَرُ درويش، غالبًا، صادِمةً وغيرَ مُتَوَقَّعة، وعليهِ جِدُّ مُؤثِّرة، يبقى هذا الشاعرُ صائغَ الصُّور بامْتياز. ومُفْرداتُهُ البسيطةُ قريبةٌ جدًّا من الأشياءِ والإنسانِ؛ أَمَا قالَ: “سمائي فِكرةٌ، والأرضُ منفايَ المُفضَّل”.

المشاركون في الاحتفال.

 

        جسر “المابَيْنَيْن”

مع كُلِّ بيتٍ وكُلِّ قصيدةٍ، يَعلُو بنيانُ عالمٍ جديدٍ، مُشَتِّتٌ، أحيانًا، بِبِدَع فَزْلَكَتِهِ، وجاذِبٌ بِسِحْرِ تَهَيُّؤاتِهِ، هو من الشّعراءِ القلائِلِ القادرينَ على عُبورِ جسرِ “المابَيْنَيْن”، مُتَرَجِحًا بين معنى الأشياءِ، ومعنى المعنى. زمنُ محمود درويش ماهيةُ الرّوحِ والمُطْلَقْ، هي الحقيقةُ تُنْطِقُهُ، هو الحُلُم يَتَوسَّلُ بِلّوْرِيّةً رهافَتِهِ، بعد أن يَحْتَرِقَ تَشَهبُّاً. قال: “أن تكون فِلسطينيًّا، يعني أن تُصابَ بأملٍ لا شِفاءَ منهُ”.

        محمود درويش، تساؤُلاتُكَ العَبَثيَّةُ تَجلَّتْ في عِدّةِ عناوينَ، وعلى سبيلِ المِثال: “هل كنتُ في يومٍ من الأيام”، أنتَ منذ الآنَ أنتَ”، تَنْسَى كأنَّكَ لم تَكُنْ”، “خُذْ بِيَدي أيُّها المستحيل”، أنا لستُ لي”…

        محمود درويش، حتى عِشْقُكَ يُنَسِّلُ أوهامَنا العاطفيّة، ومِمّا قُلتَه: “هو الحُبُ كِذْبَتُنا الصادقة”… وأضَفْتَ: “لا أريدُ من الحُبِ غيرَ البداية”، وكم رَدَّدْتَ: “يُعَلِّمُني الحُب أن لا أُحِب”.

        أيّها الشاعرُ، تبقى في اللّااْحتِواءْ! بالنسبة إليكَ، هو الواقعُ مُجرَّدُ حُلُمٍ، والحُلُمُ سرابٌ، والسَرابُ متاهَةٌ، والمتاهَةُ ضَياعٌ وفُقدانٌ للحقيقة، تَعْلَمُ جيّدًا أنَّه ما من شعرٍ خارجَ بيتِ قُربانِ الحقيقة! قُلتَ: “أنا حُلْمي أنا، أنا أمُّ أُمّي في الرُؤى، وأَبُ أبي وابْني أنا”.

جانب من الحضور.

 

ثَورَانٌ بُركانيٌّ      

أيُّها الحضورُ الكريم،

هو الهزارُ الشِعريُّ ثَورَانٌ بُركانيٌّ، أمَّا القصيدةُ فهي مُجرَّدُ حِمَمٍ سوداءَ لا علاقَةَ لها بِتَوَهُّجِ انْبجاسِ السَيْلِ الحَراريّ! ومع ذلِكَ فالقصيدةُ قادرةٌ على تَفْضيضِ لَيْلِ الكون! أما قالَ Baudelaire “يَتحدَّى الشعرُ المَوتَ بالكلمة. وَحْدَهُ الشعرُ يَمْلُكُ مُفتاحَ الزَمَنِ، ويُعيدُ وِلادَةَ تَحوُّلاتِ الحاضرِ الأبديّ”.

        محمود درويش، كُلَّما نَهَلْتُ من مَعِيْنِكَ ازْدَدْتُ عَطَشًا: فالإرتواءُ مِنكَ صَعْبُ التحقيقِ، لا أُفُقَ يَحُدُّ شِعْرَكَ. مَعَكَ، يَحلُو السَفَر سِفرًا انْبلاجيًّا. قُلتَ: “لا تَبْكِ إذا ذَهَبَتِ الشمسُ، فدُموعُكَ سَتَحْجُبُ عنكَ رؤيةَ النُّجوم”. وقُلْتَ: “لو يَذْكُرُ الزّيتونُ غارِسَهُ، لصارَ الزّيتُ دمعًا”. وقُلْتَ: “ما أجملَ الصُّدفةَ…. إنّها خاليةٌ من الإنتظار.”

        محمود درويش، قَبَضْتَ بِشِعْرِكَ على القَدَرَيْنِ المتضَادَّيْنِ والمُتكامِلَيْن: الحياةُ والموت؛ وغَدَوْتَ اللّامتناهي بينَ اللّامُتناهِيَيْن. فقصيدةُ “إلى أمي” المُمْعِنَةُ في العَزفِ على حَنينٍ يَسكُنُنا حتى آخر لحظةٍ من عُمْرنا؛ وقصيدةُ “حاصرْ حِصارَكَ” التي تُبقي جِراحاتِنا مُنْتِنَةً بثورةِ مِهْمازِيَّتِها؛ قصيدتانِ تَجْمَعُهما الحرّيةُ، وأنتَ، محمود درويش كاهنُ مَعْبَدِها الأكبر: “حاصر حِصارَكَ لا مَفَرُّ… قاتلْ عَدُوّكَ لا مَفَرُّ… سَقَطَتْ ذِراعُكَ فالْتقِطْها… وسَقَطْتُ قُرْبَكَ فالْتَقِطني، واضْرِبْ عَدُوَّكَ بي…. فأنتَ اليومَ حرٌّ وحُرٌّ وحُرٌّ”.

مشهد من الاحتفال.

 

زمن الشعر

        محمود درويش،

بين “الملوكِ للأبد، والعبيدِ للأبد”، اخْترتَ “أن تكونَ أو لا تكون”. وتَساءَلْتَ: “هل من زمنٍ للشعرِ، في عَصْرِ الهَمَجيّة؟ وهل باسْتطاعَة، الشعر، أنْسنَةَ التاريخ؟”. أيّها الشّاعر، نعم، نحن اليومَ بحاجةٍ، وأكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى الشعر. فالإنسانُ مُهَدَّدٌ بالإنقراضِ، والأشخاصُ الآليّونَ يَحْتَلُّونَ الأَمْكِنَةَ بدونِ هَوادةٍ! ما من حُلُمٍ خارجَ الشِعْرِ، وحُلُم الحُريَّةِ يُعيدُ كرامةَ الإنسانِ، وعِلَّةَ وُجودِهِ على الأرض.

        محمود درويش،

قُلْتَ “ضرورةُ الشعر نابعةٌ من مَهَمَّتِها الأساسيّة: “البحثُ عن المعنى، أو السَعْيُ نحو الحريّة”.

        أيُّها الأحبّاء،

هو الشِعرُ يَكْشُفُ النِقابَ عن سِرِّ الأسرار؛ هو حَجٌّ إلى الينابيع، ويَعْشَقُ إِيقاظَ العالَم بِفِعْلٍ مَجَريّ.

في زمنِ الطُغيان الكونيّ، والغزواتِ البربريّة، وقتلِ الحُريّات، وثقافةِ العُنف، والإنحلالِ الأَخلاقيّ، والغايةِ التي تُبرِّرُ الوسيلة، والماديةِ الغرائِزِيّة، وَحْدَها الكلمةُ قادرةٌ على إِنقاذِ الإنسان. والشعرُ، دائمًا وأبدًا، وسيطُ الوَحْيِ وجَوابُ القُدرةِ الإلهيّة على تَساؤُلاتِ البَشَر!

        “من يَكْتُبُ القصيدةَ يَسْكُنُ البرقَ، ويَغْدو قَلْبَ الأَبديَّة”، كما يقولُ René Char.

        محمود درويش وَحْدَكَ باقٍ، كَكُل مُبْدِعٍ، ونحن زائلون. قُلْتَ: “فإنْ سَقَطْتُ… وكَفِّي رافِعٌ عَلَمي سَيَكْتُبُ الناسُ فوقَ القبرِ. “لم يَمُتِ”.

***

(*) كلمة رئيسة مجلس الفكر، الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر، عضو لجنة كرسي محمود درويش، حول دواوين الشاعر، في  المهرجان الذي نظمه نادي الشقيف في النبطية والجامعة الحديثة للادارة والعلوم – لجنة كرسي الشاعر محمود درويش في الجامعة، في  22- 6- 2019 ، تحية وتقديرا للشاعر محمود درويش.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *