إِذْ يَتَجَلَّى “جورج شَكُّور” في “مَسِيحُنا المِثال”

Views: 389

د. وجيه فانوس

        أن تَكْتُبَ، يَعْني أَنَّكَ مُرْسِلٌ لِرِسلَةٍ ما؛ وأَنْ تَكونَ مُرْسِلاً، فهذا يَعني أنَّكَ تَسْعى إلى مَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِ؛ وأنَّ غَايَتَكَ أن تَصِلَ رِسالَتُكَ إلى هذا المُرْسَلِ إلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كانَ المُرْسَلُ إِلَيْهِ أَنْتَ بالذَّات!

        وأَنْ تَكونَ مُرْسِلاً شاعِراً، فَيَعني أَنَّ في رِسالَتِكَ احْتِفاءً بِالجَمالِ والاِبْداعِ، فاعِلِيَّتا تَأْثِيرٍ وتَوْصِيلٍ، يَكْتَنِفانِ الرِّسالةَ؛ لِتَصِلَ إِلى مَنْ سَتَصِلَ إِلَيْهِ، بِأَبْهى مَا فِي شاعِرَيَّتِكَ مِنْ رَوْنَقٍ وأَلَقٍ وغِنَىً في الفِعلِ وبَذْخٍ في إغْنائِها لِلقَلْبِ والعَقْلِ وفيوضاتِ الإِحْساس.

        لكِن أَنْ تَكُونَ، يا صَاحِبي، في كُلِّ هذا، “جُورج شَكُّور”؛ فهذا يَعْني أَنَّكَ نَذَرْتَ كُلَّ ما فِي وُجُودِكَ، مِنْ جُذورٍ وأُصولٍ وتارِيخٍ ومَعارِفَ وثَقافاتٍ ورُؤىً وآراءٍ وَصِلاتٍ وآمالٍ، لِجَمْعِ شَمْلِ إِنْسانِيَّةٍ؛ فَرَّقَتْ بَيْنَ فَلِذاتِ أَكْبادِها هَلوَساتُ مُتَشدِّقي أدْيانٍ وصَرَّافي سِياسَةٍ ومَصَالِحَ زائِلَةٍ. وهذا، يَعْني أَيْضاً، أَنَّكَ أَوْجَبْتَ عَلى ذَاتِكَ جَبْرَ ما انْكَسَرَ مِنْ رَوابِط التَّلاقي الإنْسانِيِّ جَهْلاً؛ كما أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ إِغْناءَ هذه الإِنْسانيَّةَ، بِما ينسَكِبُ مِنْ أَنْوارِ إِشْراقاتِ جمالاتِها في عَطائِكَ الشِّعريِّ.

        وأَنْ تَكونَ “جورج شَكُّور”، أَيْضاً وأَيْضاً، فأنتَ صاحِبُ الرُّؤيةِ الحَضارِيَّةِ، المُلْتَزِمَةِ بِالعَرَبِيَّةِ لُغَةً وتُراثاً وحُضوراً وحَضارَةً ورَأْياً ورُؤْيَةً؛ فأَنْتَ مَنِ تَشَبَّعَ، حَتَّى الثُّمالةَ، مِنَ عَطاءاتِ الثَّقافَةِ العَربِيَّةِ، وتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيعابِ دقائقَ وجودِها ومُحَفِّزات اسْتِمرارها وخَفايا مَعاوِلِ الهَدمِ فيها. نَعْم، أَنْتَ من قَرَّرَ، عَبْر تارِيخِهِ، أَنْ يَتَجلَّى وجودَهُ، بعِلْمِهِ بأَسْرارِ العَرَبِيَّةِ وأُصولِها، سادِنَ عَطاءٍ في رِحابِها؛ وينبلجَ بِوَعْيِهِ الحَضارِيِّ، حَامِياً لِحِماها، ويَبْزُغَ بِمَنْطِقِهِ، ذائِداً عَنْ حِياضِها، ويَسْطَعَ بِشِعْرِهِ، مُحَيِّياً الأفذاذَ ذَوي العَطاءِ مِنْ أَنوارِها.

        وأنْ تكونَ هذا الـ”جورج شَكُّور”؛ فهذا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ مَسْعاكَ، يومَ أَبْدَعَتَ شِعراً راقِياً رائِقاً، في ما أَسْمَيْتَهُ، أَنْتَ، “ملحمة الرَّسولِ”؛ مُتَناوِلاً فَيهِ سِيرةَ النَّبيِّ العَرَبيِّ، الرَّسولِ مُحَمَّدٍ بن عَبدِ الله (ص)؛ مِنْ حِينِ وِلادَتِهِ إِلى حِينِ وَفاتِهِ؛ وِفاقَ تَتَابُعٍ زَمَنِيٍّ دَقيقٍ، اسْتَعَنْتَ فِيهِ، وَأَنْتَ المَسيحِيُّ الدِّينِ بِالوِلادَةِ، بِكَثيرٍ مِنَ الآياتِ القُرآنِيَّةِ والأحادِيثِ النَّبويَّةِ والرِّواياتِ الإِسْلامِيَّةِ، مَصْدراً لِما يَتَضَمَّنُهُ هَذا الشِّعرُ، وشَرْحاً لِما تَسْعى إِلَيْهِ كَلِماتُكَ فيهِ رامِيَةً إِلى جَمْعٍ أَلْمَعِيِّ للشَّمْلِ الإِنْسانيِّ. بَيْدَ أَنَّكَ، وأَيْم الحَقّ، لم تَكْتَفِ بما فَعَلَتَ، فإذا بِكَ واضِعُ مَلْحَمَتين إنسانيَّتينِ إسلامِيَّتَين أُخْرَيين؛ واحدةٌ خَصَّصْتَها لـ”الإمامِ عليٍّ بن أبي طالبٍ”، وثانيةٌ آثَرْتَها لـ”الإِمامُ الحُسين”.

        اليَوْمَ، نَتَكَوْكَبُ حَوْلكَ، أَيُّها المِعْطاءُ الجَميلُ، وأَنْتَ قَمَرُ الشِّعرِ الوَضَّاحِ، لِنَتِلَقَّفَ مِن سَنا شِعْرِكَ المُتَأَلِّقَ مَلحَمةً جَدِيدَةً، هِيَ، هَذِهِ المَرَّة، عَنِ “السَّيِّدِ المَسيحِ”: “مَسِيحُنا المِثالُ”. فَمَنْ أَنْتَ، يا أَمِيراً لِلشِعرِ، هَهُنا؟

        قَرَأتُ “الملحمةَ”، يا عَزيزي “جورج”؛ وفي بالي طَلْعَتُكَ الَّتي رأَيْتُ وُجُودَكَ فِيهِا، مِن جَامِعِ شَمْلِ إِنْسانِيَّةٍ: فَرَّقَتْ بَيْنَ فَلِذاتِ أَكْبادِها هَلوَساتُ مُتَشدِّقي أدْيانٍ وصَرَّافي سِياسَةٍ ومَصَالِحَ زائِلَةٍ؛ فَكُنْتُ أَتَرَقَبُّ في “مَسيحِنا المِثال” ما أعَهِدْتُكَ قَدْ أَنَطَّتَ نَفْسَكَ بِهِ مِنْ جَبْرٍ لِما انْكَسَرَ مِنْ رَوابِط التَّلاقي الإنْسانِيِّ جَهْلاً، وَمِن إغْناءٍ للإِنْسانيَّةٍ، بِما ينسَكِبُ مِنْ إِشْراقاتِ جمالاتِ تَجَلِّيَّاتِها في عَطائِكَ الشِّعريِّ.

        تُنْشِدُ، أَيُّها البَهِيُّ، دَالاً على نَسَبِ “السيِّد المسيحٍ ابنِ مَرْيَمَ العَذراءَ”:

يا سائلاُ عن أصلهِ

وَلِمَن مِنَ النَّاسِ انْتِسَب؟

مَنْ كانَ مِن روحِ الإِلَهِ

فَلَيْسَ يُسْأَلُ عَن نَسَب

ولا أَجِدُ نَفسي، أَنا المُسْلِمُ، إلاَّ سابِحَةً في بَحْرِ اللهِ، سُبْحانَهُ وتعالى، إذ يقول في الأية 45 من سورة “آل عُمران”، في مُحْكَمِ تَنْزيلِهِ، عَنِ السيِّد المسيح: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.

        وتُنْشِدُ، أَيُّها الغالي، في مُفْتَتَحِ الملحمة:

باسمِ المَسيحِ، صلاةً الشِّعرِ أَفْتَتِحُ

وَهُوَ البِدايَةُ، فَلْتَصدَح بِهِ الصُّدَحُ

وَكَلِمَةُ اللهِ أَلْقاها لِمَرْيَمِهِ

وَرُوحُ رَبِّكَ كَمْ تَحْلو لَها السُّبَحُ

فلا أَجِدُ المُسْلِمين، مِنْ أَمثاليَ، إلاَّ وقد ذَكَروا الآية 171 من سورةِ “النِّساء” في “القرآن الكريم”: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ}.

        وأُتابِعُ، يا أيُّها المُشرِقُ؛ فأسمَعُكَ تَشدو، على لِسانِ “المَسيحِ”:

وإذْ رُفِعْتُ إلى السَّماءِ، فإنَّني

أَهْلٌ لِأَجْذِبَكُمْ إِلَيَّ، تَقَرُّبا

فأَذكُرُ، بِكُلِّ وُضوحٍ وصَفاءٍ وإِشْراقٍ، الآية 55 من سورة “آل عُمْران”: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

        نَعَمٌ، أَيُّها العَلَمُ الحَضاريُّ، والقُطْبُ الثَّقافِيُّ، والقَيِّمُ العَرَبِيُّ، والقيدوم في عالَم الشِّعر؛ هذا هو أنتَ، صافٍ صفاءَ فَرْحَةِ حُبٍّ بِكْرٍ، نَزيهٍ نزاهَةَ لإطلالَةِ فَجْرٍ واعِدٍ بِكُلِّ خَيرٍ، وإنسانيٍّ مُخْلِصٍ لإِنْسانيَّتِهِ إِخلاصَ نَبِيٍّ لِدَعْوَةِ رَبِّه التي دعاهُ إِليها.

        لَمْ ينتهِ الكَلامُ، يا سيِّدَ الكلامِ؛ إذ كَيفَ تُحِيلَ السَّردَ الإنْجيليَّ المُقَدَّسَ إلى نَظْمٍ وشِعْرٍ، فلا تخون، في إحالَتِكَ الشِّعريَّةِ هَذِهِ، ما فِيهِ مِنْ عَظَمَةِ المُقَدَّسِ، بما فيها مِنْ أصوليَّةَ رسالِيَّةٍ دِينيَّةٍ وصَلابَةٍ في الدَّعْؤَةِ الإِيمانِيَّةِ، بَلْ أَراكَ تُسَرْبِلهُ بِغِلالَةٍ مِنْ فَنِيَّةٍ جَمالِيَّةٍ وروحِيَّةٍ شِعْرِيَّةٍ أَخَّاذَةٍ؛ فَهَذا شَأنٌ هُوَ أَهْلٌ لِدِراسَةٍ أَكَّادِيمِيَّةٍ مُعَمَّقَةٍ، قد يكون هذا المقامُ مَطْرَحاً للدَّعوةِ إِلَى القِيامِ بِها، لكَّن هذا المقامُ قَد لا يفيها حَقَّها، في هَذِهِ العُجالَةِ، مِنَ العَرضِ والتَّحليلِ والاستنتاج، ومِن ثمَّ التَّقعيد.

        دُمْتَ، يا أَخي “جورج”، رائِدَ رُؤْيا حَضارِيَّةٍ، وفارِسَ رأيٍ عَرَبِيٍّ صَميمٍ، وقائِداً مُبارَكاً لِمسيراتِ الشِّعرِ الرَّصينِ والجَميلِ والأصيلِ والمُبْدِع.

***

(*) ألقيت يوم السبت 29 حزيران (يونيه) 2019، في حفل إطلاق ملحمة جورج شكُّور “مسيحنا المثال” في قاعة البطريرك الحويِّك-مدرسة مار يوسف، جبيل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *