الضِحكةُ الشَافيّة..

Views: 498

 نسرين الرجب

“عزيزي ثيو…. إنني أتعفن مللا….”
بهذه العبارة سحقني وجدان فان غوخ في رسالته لأخيه، تعبت وأنا أفكّر بتشاؤله الحزين؛ “ما الّذي يفعله العقل بنا؟!”،  وتسمّرت طويلا أمام لفظة “العفن”..أن يتعفن المرء يعني ذلك كثيرا، يبدو الأمر مأساويًا، فعادة نُطلق هذا التعبير على الأطعمة الفاسدة، تتعفن إذا ما تُركت خارج المكان المناسب لها، في الثلاجة، أو قد يمضي زمن لا تُستهلك فيه..فتحزن وتتعفّن.. أو قد تنتهي مدة صلاحيتها فلا تعود قابلة للاستهلاك!
تتعفن الجثث عندما تُترك لمصيرها السوداوي، عندما تُهمل. العفن هو علامة من علامات انتهاء الصلاحيَة، بمعنى آخر هو الموت في أشد أشكاله تقزّزا.

فكيف يتعفّن الانسان وهو حي يُرزق، كيف تتخفى تلك البقع الخضراء القبيحة، أو البيضاء كأشواك قطنيّة، خلف نظرته للعالم..ووجوده. أن يتعفن المرء..أن يُهمَل. أن لا يعود صالحا ؟!

هو الملل .. الشعور باللاجدوى الذي يدفع بالمرء للتعفن..فيهمل ذاته ويستسلم لتلك الحالة المريبة!
لقد كانت الريشة هي الحاجز الذي منع العفن من أن يطال الرسام الذي لم تُدرك عبقريته إلا بعد وفاته بعقود، لقد عانى من الرفض الاجتماعي، مستسلما لمزاجه الصفراوي الذي جعله أسيرا للعزلة. فنانا يتعامل بالفطرة مع المرئيات..فإذ به يُتهم بالجنون!.

كثيرا ما نمُر على جمل وعبارات لا تستوقفنا، مهما بلغت جماليتها أو غرابتها، ولكن هناك أوقات تمر بنا نجدنا نستذكرها، مما يعني أننا امتصيناها لحظة مرورها السابق ولكنّا لم نوليها الأهميّة كونها لا تُمثّل حالتنا في ذلك الحين.

هذا ما حدث معي، دخلت غرفتي ، استلقيت على السرير، ثم وقفت فجأة، نظرت في المرآة ، وقلت أيّها الوجه المكرر، يا وجه نرجس القبيح لماذا لا تتجدد؟! تجدّد!!

سخِرت مني خطوط التعب التي راحت تتمطى فوق جبيني، وتتعمد الثبات حول شفتي، تتكور كجنين ميَت أسفل عيني، إنني أتعفّن..قلتها بصوت حزين..وبكيت.

قطع رنين هاتفي النقّال بُكائي الدرامي، ابتلعتُ تلعثُمي، وأجبت..كان المُتحدّث يتثاءب، عندما بادرته بالكلام:

  • نعم، (قلتها بطريقة فجّة)
  • أنعم الله عليك..آنسة نرجس، معك أسعد النعسان
  • واضح ذلك،
  • عفوا..
  • أقصد تفضل أستاذ أسعد كيف أخدمك.
  • نحن من جمعية حماية البيئة، علمنا أنك تحتجزين الكثير من العصافير في قفصك الصدري، ونريد…

أوقفت هذا الأبله عند صوته، وضحكت بطريقة عصبيّة،

  • كانت تنقصني بلاغة مدّجن طيور، اوه يا الهي؟؟ (تمتمت )

ثم ارتميت على سريري ودخلت في غيبوبة الموت الأصغر، وعندما استيقظت كان النهار قد مضى، وتلألأ سقف غرفتي بـضوء أصفر، يوزّع إشعاعه الغريب في أرجاء المكان.. كدتُ أختنق، ففتحت النافذة المطلّة على الشارع..فلم أر غير شجرة سروٍ عالية ، تكاد ترتطم في علوها بخطوط الكهرباء، كانت جامدة، جامدة بشكل مُنفر، تمنّيت لو كان كف يدي يحرز لصفعة ألطمها بها، فتتحرّك..

هبّت الريح ، وسمعت زقزقة حزينة تخرج من فمي، فأحكمت إغلاقه ، ولكنّ الصوت كان يرتطم بأسناني حتى كاد يخرقها, ففرجت عن شفتَي وباعدت ما بين طبقتي أسناني..وكم كان المشهد مرعبا!!

أسراب من الطيور الهزيلة تخرج من فمي، كدت أختنق، حاولت أن أغلق فمي ولكنّها كانت تعلق في البلعوم، ففتحت فمي على اتساعه..والطيور تخرج منه..وهي على هزالها لا تقوَ على الطيران، قسم كبير منها ارتطم بالسروَة المقيتة، وانحدر إلى أسفل، وقسم آخر قاوم حتى اختفى في الظلام..

كانت عيناي جاحظتين، حتى شعرت بأنّ الدم يكاد ينفجر من شرايينها، وكنت أمسك بحفّة الشبّاك، أُثّبت جسدي الذي يكاد يتهاوى وأنا أتقيأ الطيور الهزيلة..حتى وهنت، وسقطت أرضا.

غبت كثيرًا..استيقظت بعدها على صوت ممرض بشاربين كثّين كمكنسة من قش.

  • الحمدلله على سلامتك؟
  • أين أنا؟؟

لقد أحضرك أحد المقربين أمس..

  • والسبب
  • عفونة في المعدة، لقد تقيأت كثيرًا، لا تقلقي..لقد أعطيناك الكثير من الفيتامينات التي ستعوًض ما خسرته.
  • آه..حقا؟؟
  • نعم..ماذا أكلتي؟
  • شحمة أذني
  • ماذا..!(ضحك باستهزاء)
  • بالمناسبة ، هذا الحلَق لك، لا بد أنك شددته بقوّة حتى شققت شحمة أذنك، أو أكلتها..(ضحك كمعتوه لا يدري كيف يرمي نكتته، غادر الغرفة عندما لم يحظ باهتمامي..)

سمعته يتمتم..(معتوهة)، خلف جملة بالشفاء العاجل. أسلمت رأسي للوسادة، وعندما نمت انتبهت..أن كل شيء كان آيلٌ للذبول، وأنّ السبب في ذلك هو قلبي؟

وأن خيالي كان يُهيء لي من كل ذلك سببا، كنت أغوص في سريري، بل كان السرير يبتلعني وحينما حاولت الصراخ وطلب النجدة، متّ.

لا لم أمُت بل شُبِه لي؟ كان الاكتئاب يغزو شرايين يدي، فيصبغها باللون الأزرق الدامي، وكنت أرى نجوما تضيء وتنطفئ على صفحة يدي..سمعت تأنيب الطبيب..

  • لماذا تركت المقص على الطاولة؟
  • لم يبدو عليها أي ملامح للانتحار؟
  • آه.. كان عليها أن تخبرك من قبل؟؟

غادر الطبيب متأفئفًا، كدت أبتسم وأنا أرى وجه الممرض الأخرق، كان يتمتم بكلمات غير مفهومة ، وكان الهم يتآكله، راح يُثبتّ المصل بالقرب من سريري، وعندما اقترب مني كي يتأكد من نومي، أطلقت ضحكة عاليَة  أرعبته، فاحمر وجهه وابتعد فزعًا، كاد يقترب رفع يده عاليا..ثم ابتلع غضبه وابتعد..

فصرخت به؟؟

  • أبالصّفعة تهددني أيها الخائب؟؟

لم يأبه لي..ولكنه قبل أن يغلق الباب..قال بصوت أقرب إلى الرجاء

  • لا تدعيني أخسر وظيفتي؟؟

وقتها شعرت أنني انتصرت..

  • كل شيء عاد إلى وضعه الطبيعي، من المفترض أن تغادر المشفى نهار غد.
  • دكتور أتظنها تحسنت.
  • نعم بالطبع
  • أخاف أن تعاود أذية نفسها..
  • سيتابعها أخصائي نفسي..وهو سيحضر بعد قليل ليخبرك التفاصيل.

حطّ غراب على مقربة من النافذة، نقر الزجاج نقرتين، حدجني طويلا، وسمعته يقول..

  • لن تغادري؟ لن تغادري؟؟ أطلق صوته وطار..
  • غراب الشؤم (قالت أمي ثم ربتت على كتفي).
  • أمي هل سمعت ما قاله الغراب؟
  • ماذا..لا حول لله، الغربان لا تتحدث يا ابنتي.
  • ولكنني سمعته
  • وماذا قال لك؟
  • قال إنني لن أغادر المشفى
  • لا تصدقي كل ما تسمعينه يا ابنتي.

جاهدت نفسي أن لا أصدق، ولكنني صدّقت..ورفضت الخروج من المشفى، أخبرتهم أنّني متعبة، الطبيب النفسي قال إنني أتوهّم، أخبرني أشياء كثيرة، قال إنّ عليّ أن لا أستسلم لأفكاري، قال إنني غارقة في المجاز، وأنه عليّ تقوية ذاتي..حينما كنت أتحدث  كان يُنصت إليّ ويهز برأسه وكأنّه يفهم، وعندما طال أمد الصمت بيننا ضقت ذرعا بوجهه، فنمت..

  • كتبت لها وصفة دواء خاصة بالاكتئاب
  • اكتئاب
  • أعتقد أن ابننتك تعاني من بداية اكتئاب مزمن، هذا الدواء سيُريحها ويخفّف هواجسها
  • ولكن مماذا الاكتئاب، من أين يأتي هذا
  • انه مرض العصر، لا تقلقي تحتاج فقط إلى دعم وقليل من الاهتمام

بل الكثير يا أبله، أتظن أن ما أحتاجه هو قليل من الاهتمام، الكلام يعتصر في نفسي، كنت أتظاهر بالنوم، وعندما حطّ الغراب مرة ثانية على مقربة من نافذتي ، فتحت عياني، واستمهلته، شعرت أن بإمكان روحي التواصل مع روحه، سألته أن يبقى قليلا، فبقي..وعندما غادرت أمي والطبيب الغرفة، ذهبت إليه ، فتحت النافذة، فرفرف عاليا، ونعق في وجهي، قاق قاق، وراح ينقر وجهي نقرا مؤذيًا، حاولت أن أبعده عني، ولكنه لم يبتعد..حتى داهمني الممرض النزق، أغلق النافذة، وأجلسني على السرير.

  • اهدئي اهدئي، لما تخدشين وجهك هكذا؟؟
  • الغراب ألم تره؟ لقد نقر لي وجهي
  • الغراب يعشعش في رأسك، أخرجيه من رأسك

هاااااااا فتحت فمي على اتساعه وصرخت بأعلى صوتي

فوضع يده على فمي ، فعضضتها له

  • آخ، تبا لك..لما صرخت؟
  • كنت أخرج الغراب من رأسي، ألم تقل لي أن أخرجه؟؟
  • أنت مجنونة!!

رحت أنظر كمُتيّمة بلهاء انتبهت لوهلة أن له عينين!! عينيه جميلتين، ولكنني لم أدع نفسي تأنس بجماله فبصقت في وجهه، وقبل أن يتخذ ردّة فعل، ابتلع كلاما كثيرة كان يزخ مع العرق البادي على وجهه، وغادر الغرفة..

بعد قليل أتت ممرضة شابة، عالجت جروح وجهي، وجاءت أمي مهرولة، ما الذي حدث؟ لماذا خدشت وجهك يا ابنتي..

  • الغراب يا أمي
  • لعنة الله عليه..
  • هيا سنغادر
  • لماذا؟؟ أنا ما زلت مريضة!!
  • أنت لا تعرفين ما الذي تفعلينه، الممرض أصيب بانهيار عصبي بسببك، ولقد هشمت زجاج النافذة، إذا بقيت هنا ، سيحولونك إلى مشفى للأمراض العقليّة، االطبيب أخبرني أن حالتك قد تسوء أكثر فيما لو بقيت هنا، هيا قومي؟
  • أريد أن أرى الممرض
  • ماذا تريدين منه، يكفي ما سببته له.
  • أريد أن أعتذر منه
  • لن يقبلوا، فهو في وضع سيء
  • أرجوك قولي لهم..

توجهنا إلى غرفة  الممرض، حينما رآني راح يبكي، لم أعرف ما الذي عليّ فعله، كان موقفًا مضحكا يا الله، لقد ضحكت كما لم أفعل من قبل، ضحكت من ضعفه وشعرتُ بأنني حققت ما أريده من خلاله، أن أسبب الأذى لأحدهم؟؟

غادرت المشفى  وأنا مرتاحة، مرتاحة جدا، لقد داهمني شعورا باللذة كان شافيًا وكافيًا لكي لا أفكر بالغراب مرة ثانية!!

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *