الطوباوية الإلكترونية

Views: 1220

د. ناتالي الخوري غريب

لطالما كنت أتساءل بعد هيمنة العاطفة الالكترونية التي نشهدها في هذه المرحلة الانتقالية، حيث التملّق الالكتروني والواجبات الالكترونية والأدب الالكتروني والادب النقدي والأخوّة الالكترونية والعداوة الإلكترونية والاصطفاف الاكتروني… فهل نشهد اليوم نشوء قيم جديدة الكترونية فرّغت القيم المتعارف عليها من معانيها؟ 

من يسهم في نشرها؟ في تكريسها؟ في تحويلها؟

الإشهار العاطفي العلائقي في مختلف تجليّاته رهن  بالحال الانفعاليّة الآنية عند التعبير عنه.. هو نوع من تبنٍ لأفكار وأحاسيس، يشعر معها الإنسان بأنّها صارت أقوى منه، تشكّل عالمًا فاض عن قدرة احتماله. وقد جاءت مواقع التواصل الاجتماعي في مرآة تعكس صورة هذا الإشهار وصداه، صورة لها من الواقع وجودنا، ومن طوباويتنا التوق إليها.

هل يتحوّل سعينا الدائم إلى أن نكون مثاليين، فخًّا لازدواجيّة تُصوّرنا شريطًا شبيها ب”تلفزيون الواقع” من دون أن نعي؟ حيث يحاول كلٌّ منّا أن يلعب دور ما يريد أن يكون وليس من هو عليه فعليًّا؟

***

هذا نحن، صورتنا، وجهنا، اقتناعاتنا، قراءاتنا، كتاباتنا، أفكارنا، أدباؤنا المفضلون، موسيقانا المفضّلة، أصدقاؤنا، زملاؤنا… نحن في حافظة إلكترونية، تتحكّم بنا مع التيار الكهربائي، ذبذبات الكترونية، ننعدم اذا انعدمت، وننوجد إذا وجدت.

هذا نحن، وجود مرهون باعتراف من آخرين لا ينتمون إلى عالمنا، إلى مشاكلنا، إلى وجداننا، لكنّا مع ذلك نريد أن نمثل أمامهم بمظهر مثالي، لنرى في أعينهم صورتنا الأبهى. هذه الصورة التي ربّما نكون قد هشّمناها في غفلة منّا، فنسعى إلى ترميمها في الآخر.

النزوع إلى الطوباوية موجود فينا منذ نعومة تربيتنا، في التعاليم الدينية والتشبه بالمثال الذي على صورته خلقنا، في تبجيل أساطيرنا ومحاكاة البطل في مختلف مواقفه.

صارت مواقع التواصل الاجتماعي أقرب إلى محطة لا بدّ من المرور بها عند الخروج من منازلنا وعند العودة إليها. 

***

ماذا يمكن أن نسمّي هذا الإدمان على العلاقات الاجتماعية الاكترونية؟ كيف نفسّره؟ هل لانعزال في العلاقات الاجتماعية في واقعنا الحسيّ؟ أم أنّنا صرنا أكثر وعيًا بإعاقاتنا الوجدانيّة التي تحثّنا على المزيد من البحث عن فرص العلاج بمنظور آخر للوجدان؟

كيف لنا أن نتبادل عاطفة مع من لا يهمّنا أمرهم؟ هل هي عاطفة صادقة في لحظتها نقرّ بها لذواتنا؟ أم تراها من باب المجاملة الالكترونية على قاعدة”الكلمة الحلوة أحسن من البشعة؟ 

ربما تكون وهما او ظلًا لحقيقة مرّت ولن تعد..آنيّة صُدقها لا تنفي وجودها، لكنّها لا تلغي بهتانَ صمودِها الا في الذاكرة. 

***

كذلك في العاطفة السلبية، نتساءل، هل يختلف التملّق الالكتروني عن التملّق في واقعنا الفعلي؟ ولم ترانا نتملّق مع أسماء لا نعرف إلا وجوهها معدّلة؟

قد يكون التملّق هو نفسه في الحالين، والشخصيّة المتملّقة هي عينها، والكلام المتملّق هو عينه. لكنّه عبر الشاشة الزرقاء أكثر جهرًا، لأنّه يبعث برسائل على الملأ، فيراه المتملق تذاكيًا، والمملّق وصولية رخيصة، ويراه غير المعنيين تذللًا. 

لماذا نريد أن نظهر في اقوالنا والصور المنتقاة لنشاطاتنا، أنّنا أقرب إلى المثالية؟ هل لأنّ لنا سلطة اختيار الصورة الأنقى كما نرى إليها نحن؟ أم أنّ هذا الاستعراض الاكتروني بات يشكّل جزءا من ذاكرتنا لأنفسنا لكي نستمدّ منها قيمة حاضرنا وتاليا ماضينا؟ 

***

ليس غريبا على من حولنا من أجيال تقدّمت علينا في العمر استعراضها لمآثرها، واستحضارها أمجاد ماضيها في ألبومات ودروع وصور واحتفاءات وو..

فلم نسميّه الكترونيا استعراضًا مقيتًا؟ لم تكن العدالة الاجتماعية يوما محقّقة في حيّز الواقع القريب أو البعيد، لم تُرانا نحاكم هنا من يستعرض جماله وعطاءاته وجولاته السياحيّة ووو؟

إلى أيّ مدى تشبهنا صورنا وأقوالنا؟ وقد صار الجميع حكماء يتناقلون الاقتباسات وكأنّهم عاملون بها، قانعون بنتائجها؟

هل نحاول بذلك تحسين صورتنا أمام أنفسنا؟ لكي نعيد قراءة ذاتنا وفقا لصورة تصبح خارجًا عنّا؟ أم أنّها على قاعدة تلفزيون الواقع، تصبح نوعًا من الرقابة الذاتية لنقيّم أفعالنا وردّات أفعالنا؟ 

ربّما تختبئ الإجابات في الآتي من الأيام…

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *