نعيم تلحوق و ملكة الهندسة الشعرية

Views: 685

محمد زينو شومان

كيف عرفتُ الشيخ نعيم؟

وهنا لا أتحدّث عن اكتشافات علميّة أو فلكيّة أو جيولوجيّة لا أعرف رأسها من رجلها، ولا ألفها من يائها. فهذه يا سادتي ألغازٌ وطلاسم وخوارق فوق طاقتي وحتى تخيّلي.

وبعيداً عن لغة الأبراج البابليّة وناطحات السحاب، وهي كما تعلمون لغة الطوباويين والأرستقراطيين والمنجمين وما نحن من أيِّ منهم جميعاً. بل إننا منعاً للإلبتاس وسوء الفهم والتأويل من ساكني ناطحات السحاب وبيوتنا قبورنا تمشي على الأرض ولا نستطيع خلعها حتى عند النوم.

بعيداً إّذاُ عن هذا وذاك وذيّاك، أذكر أنّ بداية الصداقة بيني وبين الشيخ نعيم تعود إلى ما نسمّيه اصطلاحاً كيمياء الروح.

لكن، تمهّلوا قليلاً ولا يذهبنّ أحدكم في تفسيره لهذه العلاقة الكيماوية تفسيراً دونكيشوتياً إلى حدّ التصوّر أنّنا خبيرا متفجرات مثلاً، أو أنّ لنا باعاً أطول في علم الذرّة والعلوم الدقيقة والغليظة دون علم الشعر.

وهذا إتهام ولئن كان في ظاهره بريئاً وناعم الملمس، إلاّ أن عاقبته مهما أشفقتم ومهما خُفّف الجرم هي في الحدّ الأدنى قطع الرأس، لا أذاقكم الله ولا من هم ظلّه على الأرض هذا الويل.

فرفقاً بنا، أو أقلّه بصاحبي الذي أفديه برأسي مهما يكن فرق الطول والعمر بيني وبينه، فالتضحية هي التضحية.

والشيخ نعيم المنتصب القامة دوماً، تُضاف إليه من العلامات الفارقة، علامة اللحية المخطّطة بدقة وإتقان تخطيطاً هندسيّاً لا أدري كم يستغرق من جهد الشيخ نعيم وصبره وأناته ووقته. وكذلك من صبر المرآة وطول بالها!

وهذا إذا ما اقتفينا أثره ببعض من التركيز الذهنيّ، يقودنا حتماً إلى اكتشاف سرّ الأسرار في عمارة تلحوق الشعريّة.

الشاعر نعيم تلحوق

 

ركّزوا أكثر، تلحظوا أن هذا المعلم الهندسيّ الخارجيّ هو دليلنا إلى ما وراءه من حسّ هندسي أو رياضيّ يكشف لنا خريطة الطريق إلى شعر الشيخ نعيم وتفكيك عناصره الأولى ومكوناته الثقافية وأبعاده الفكريّة والتأمّلية والصوفيّة والوجوديّة والميتافيزيقيّة. ولعلّ هذه الخريطة تعادل خريطة النوع الجينيّة، التي تمثّل لذروة الحبكة الهندسيّة الوراثيّة على غرار ما تعكس هنا حقيقة الحبكة الشعريّة لدى الشيخ نعيم بما ترمز إليه من قدرة على التركيب والمزج وصهر المواد الخام.

لكن، دعونا نرجىء هذا قليلاَ حرصاً على عدم قطع فكرتنا الأولى كما تقطع دورة الربيع من وسطها.

ولولا ضيق المجال والخوف من الإستطراد والإسترسال وتشتّت مجاري الحديث بحيث نفقد السيطرة عليها، لعدنا أو لعدتُ بكم إلى أرشيف الصداقة ورحنا نقلب دفتر الذكريات العتيق الذي يزداد سحراً ومتعةً كلّما تقادم به العمر. ففيه قصص وطرائف ونوادر منها المضحك ومنها المؤلم. ومنها ما له رجل في ثلم الضحك وأخرى في ثلم الألم. وهذا وفقاً لقول المعتزلة قديماً: منزلةٌ بين المنزلتين. أي إنّه خليطُ من عنصرين متناقضين هما الضحك والألم. أجهل طبعاً كيف يمكن تحويله إلى مركب كيميائيّ صالح لأن ننال أنا والشيخ نعيم بموجبه براءة اختراع عالميّة تخولنا عرض هذا العُقّار المستحدث في الصيدليّات لبيعه للمصابين بمثل هذا الداء الهجين أو المهجّن بسعر معقول ومناسب.

ريما خرجتُ على قواعد التقديم المألوفة، فخلطتُ الجابل بالنابل والسكّر بالملح. فأيّ طعمٍ أريدكم أن تجربّوه هذه الليلة للمرّة الأولى في حياتكم؟

غضّ الطرف قليلاً يا نعيم ونم ملء جفونك نوم المتنبيّ غير عابىء بالضجيج الخارجيّ. لا تلتفت إلى اللفظ والثرثرة، ولا تحفل بما في هذا العالم من هرجٍ ومرجٍ. إنّ الشعر لأبقى وكلّ ما سواه فقاقيع هذر وباطل الأباطيل.

ومثلك يا صديقي، لا يحتاج إلى قرع طبول وصنوج ولا يحتاج إلى استنفار العشيرة وأبناء جلدته وذوي القربى ليمنحوك شهادة اعتراف لا قيمة لها وقد لامس صوتك آذان العالم شرقاً وغرباً. ثمّ إنّك أسمى منها وأرفع قامة ومقاماً.

لقد اخترتَ طريقك منذ البدء. ففضّلت الإختلاف على الإئتلاف والمشاكسة على الإنصياع والمحاكاة والتقليد الأعمى الذي لا يتقنه إلاّ المناجذ في حفر السراديب والأنفاق. إيماناً منك بأنّ الطرق المتشابهة مدعاة للملل والغثيان ونوم التنابل تحت شمس البلادة حتى مجيء المنون على ظهر سلحفاة.

ألتشابه موت بطيء أو ضربٌ آخر من الإنتحار.

ألتشابه مكروهٌ مثل النوم طوال العمر في فراش واحد حتى ولو كان فراش الزواج. وهذا ليس زلّة لسان ولا زلّة قدم ولا زلّة قلم. هنيئاً للعصاة والرافضين والخاطئين والآثمين فالحياة أعظمها وأجلّها زلّات حلال زلال!

أقولها ثانية باسمي وباسمك يا نعيم، طوبى للمختلفين فهم وحدهم الهداة ولو على درب الجحيم.

لقد سبحت باكراً في بحيرة الرفض معلناً القطيعة مع الموروث المعلّب فاكتشفت نفسك بنفسك وأدركت أن لا عاصم من الهلاك والبوار والقحط الداخلي إلا بركوب فلك الشعر وإلا كنت من المغرقين.

لكننا نعلم أن لهذه المواقف أثماناً باهظة جداً. ونعلم ماذا يخفي عزيز قوم تحت جذع لسانه تشبثا بحبل الكرامة وحبل الشعر والأدباء. ولتذهب المغانم الماديّة وحاجاتُ الجسد وشروطه الفيزيولوجيّة إلى أعماق البحار وإلى قاع جهنّم.

وكأنّي بنعيم قد ألقى عن كاهليه بهارج الدنيا كلها حباً بالتخفف وطمعاً في حدّة البصر والبصيرة محتفظاً كالحلاّج بخرقة وحيدة هي خرقة الشعر.

قلْ يا صديقي، هل بعد من مزيد؟

لقد طال المشوار يا نعيم.

أجل.. وطال الهمّ أيضاً. طالت الأوجاع كما تطول أظفارنا كل يوم، بل كل لحظة.

لم تجىء أنت على بساط الريح، ولكن على بساط مجموعاتك الشعريّة العشر وكأنّما الشعر حين انقاد لك لم يخفض لك جانحاُ واحداً بل جناحيه الإثنين معاً. بل العشرة دفعة واحدة.

سأقرع كأسي بكأسك يا نعيم ونكرعهما معاً. هؤلاء المحبّون جميعاً أتوا لقرع كؤوسهم بكأسك فدعنا نسكر جماعياً سكرة الشعر الوحيدة.

هلمّ قبل أن ينقطع حبل الليل بنا فنهوي على رؤوسنا إلى حيث لا ندري.

ها أنت قد حللت بيننا عابراً كل هذه البحور المتلاطمة: من بحر العمر، إلى بحر التجربة، إلى بحر التأمل، إلى بحر الحلم، غلى بحر القصيدة الحديثة التي ألقيت بنفسك في عبابها وتياراتها ومجاهلها منذ سن الجنون والخطيئة والمغامرة.

أنظر خلفك قليلاً يا نعيم، هل تتذكر أول الطريق؟ متى رشفت ملعقة المعصية الأولى؟

منذ أن سمعتك أولّ مرّة، خُيّل إليّ أنّك شاعر جوّال لا يسعى خلف غنيمة أو مال، فأنت يكفيك من متاع الدنيا حفنة من أمل وربابتك الوحيدة متنقلا بها تحت النوافذ كحال شعراء التروبادور الذين كنت تذكّرني بهم على الدوام، كلّما أخرجتَ رأسي من نافذتي الجنوبيّة لأطلّ على وجع الأرض والإنسان، وأستمع إلى نشيجك الداخليّ الذي ينساب من أنامل القلب، لا من حنجرتك، ولا من حنجرة الربابة.

فهل نعود مرّة أخرى إلى ملكتك الهندسيّة؟ أجل. كلّما تأمّلت عمارتك الشعريّة الشاهقة إزددتَ يقيناَ على يقين بمهارة البنّاء وروعة مشروعه الهندسيّ الضخم، ولعلّ من شاء أن يتبيّن خصائص هذا المشروع سيكتشف سرّ العدد فيه وتحديداً العدد خمسة.

فهل من العبث أن تقسم مجموعاتك الشعريّة خمسيّتين؟ ولكلّ خمسيّة منهما خمس أضلاع؟ وهكذا تمثّل كل خمسيّة هرماً خماسيّ الأضلاع.

تبدأ سلسلة الخمسيّة الأولى بـ ” قيامة العدم” الصادرة في العام 1986 وتنتهي ب “هو الأخير” ألصادرة في العام 1999.

ولنقرأ عناوين المجموعات الخمس وفقاً لتتابعها الزمنيّ لنكتشف سرّ الخطّة والعلاقة الرحميّة أو السببيّة بين كل مجموعة وأخرى من هذه السلسلة، وهي على التوالي: قيامة العدم، هي القصيدة الأخيرة، لكن .. ليس الآن، وطن الرماد، هو الأخير.

هنا تكتمل حلقات الخمسيّة الأولى لتبدأ الخمسيّة الثانية ب” أظنّه وحدي” الصادرة في العام 2001، وتنتهي بـ ” شهوة القيامة” الأخيرة الصادرة هذا العام.

ولنعاود، بالطريقة ذاتها، ترتيب عناوين هذه السلسلة حسب صدورها: أظنه وحدي، يغني بوحاً يرقص كفراً، لأن جسدها، شهوة القيامة.

وهنا لاحظوا معي كيف أنّ لفظة القيامة قد تكرّرت مرّتين في عناوين نعيم، مرّة في مجموعته الأولى، ومرّة أخرى في مجموعته الأخيرة.

وهذا ما يشير إلى جدليّة الحياة والموت، أو العبث والفناء في تواتر لا ينتهي إلاّ بانتهاء الإنسان والكون والموجودات وأسرار الوجود.

فإلى خمسيّتين أخريين، وخمسيّات أخرى، ولتكثر ذريّتك الشعريّة في الأرض يا صديقي.

                                                                                                                                                     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *