طيران في أضغاثِ أحلامٍ “عالَمُ نادين طربيه الأزرق”!

Views: 1055

د. محمّد محمّد خطّابي*

الأديبة اللبنانيّة المبدعة،  الدكتورة نادين طربيه أتحفتْنا، وشنّفت أسماعَنا،  بل فاجأتنا بمقالها الجميل، وعرضها القيّم عن دنيا “الفايسبوك” الطليقة، وفضاءاته الفسيحة،  وعوالمه الأثيرية الزّرقاء..! أفهمتنا بألمعيةٍ فائقة،  وبحسٍّ أدبيٍّ راقٍ أنّ هذا هو الواقع الجديد الذي أمسينا نعيش فيه وننتقل بين كنفه، ونتخبّط بين دهاليزه،  هذا هو العالم الذي كنا في ما مضى من الأزمان نخاله خيالاّ يداعبُ عقولَنا،  وحلماً يدغدغ عواطفَنا، وفكراً يشحذ هِممَنا،  ها قد أضحىَ اليوم واقعاً معاشاً تفرضه علينا سلطتُه، وسطوتُه، وهيبُته،  وجبروته.وصولتُه، وسحرُه،  وبهاؤه..ويلقننا بصولجانه نواميسَه،  وتعاليمَه،  وقواعدَه .. ندخله طائعين، ذاعنين،  خانعين، مسوقين،  منقادين،  من باب الفضول والتطلّع،  وحبّ المعرفة والعلم، والإطّلاع والإستطلاع،  وطمعاً في مزيد من التحصيل،  والتعلّم،  والكسب، والإمتاع والإستمتاع …نغوص في بحوره التي ليس لها قاع، ولا قعر،  ولا قرار.. ونسافر معه عبر مسافات سرمدية ضوئية لا تحدّها حدود.. نتيه في دروبه،  ونضيع في متاهاته،  ونلتوي مع منعطفاته،  وندور مع منعرجاته،  ونستكنه خباياه،  ونسبر خفاياه .. ونستبطن أسرارَه ومجاهيلَه،  ونخوض أدغاله ومفاوزَه،  ونقطع مَهَامِهَه،  ونجوب قِفارَه وصحاريه .

صداقات افتراضية عابرة

 نتيه في شبكاته العنكبوتية المتداخلة والمتعانقة.. وكأننا نطير في خضمّ أضغاث أحلام مبعثرة، منهمرة .. وفى لمحٍ من البصر،  وفى رمشةٍ من العين ننتقل من عالم إلى آخر،  ومن دنيا إلى أخرى،  ومن منظر إلى آخر،  ومن صورة إلى أخرى،  ومن وجه صَبوح إلى مُحيّا أكثر جمالاً وفتنةً.. مُتنقلين بين أياديمه الهشّة،  ومظاهره الخدّاعة، نُملّي،  ونمنّي أنفسَنا بأنواره اللاّزوردية البارقات،  وننتشي بأضواء نيّونه السّاطعات، وننجذب ببريقه الجذاب الذي يجعلنا في هنيهة خاطفة نأسى أو نتأسّى،  أوننسى، أو نتناسى واقعنا الملموس، ومُعاشَنا المحسوس،  ونحلّق في فضاءاته المترامية الأطراف، ونتجاذل بهذه الصداقات الإفتراضية العابرة التي تغمرنا بومضات سعادة كاذبة في غالب الأحيان… إلاّ أننا لا يمكننا أن ننكر أنّ لبعضها وقعَ السّحرعلى أنفسنا، فبعض الكلام في مناكبه، ودهاليزه يصلنا مبلّلاً بدفق العِطر العَبق الفوّاح الآسر،  وبعض الإفصاح فيه يكسوه البيان العذبُ السّاحر..

كلماتٌ تتألق وتتأنّق بهاءً وجمالاً

 كلمات الدكتورة نادين في هذا المقال الرّصين جاءت روعة في إقتناص المكان والزّمان.. وفي أسر اللحظة والهنيهة،  ورسم لوحات،  جاءت إجهاشات فطرية، عفويّة،  طبيعية،  تلقائيّة تتفتّق،  وتتدفّق،  وتتألّق،  وتتأنّق، وترشق جمالاً، ودلالاً،  وتتباهى رونقاً وبهاءً و فتنةً وسناء.. إنه زبد فنّ القول العفوي الموفي البليغ في أعلى مراتبه، وفى أبهىَ صوره.. فنّ طليق رشيق يثير فينا الإعجابَ المُبْهر،  ويخلق فينا الإندهاشَ المثير، والإنبهار المُحيّر،  إنها مصاهرة بين العين،  واللون،  والرّيشة،  والقلم،  والعطاء الخلاّق،  لمحات عابرة، وملاحظات سريعة، وإيماءات مقتضبة موجزة كأيّ شئٍ غالٍ ثمينٍ ونفيسٍ في عالمنا الكبير، إفصاحات رائعة تبيّن لنا بجلاء أنّ الإبداع ليس هذراً طوّلت، ومدّت،  ومُطّطت،  كلماته،  بل هو لمحٌ عابر يكفي البوْح به،  قالها وبصمها قديماً أبو عبادة المَنبجي،  بعد أن بذّ وتفوّق على أستاذه،  ومعلّمه الطّائي عند مَقْدَم النيّروز، وهو يتغنّى بنسائم الرّبيع وطلائعه،  ويطرب لعيون المَها اللاّمعة بين منحنيات الرّصافة،  ومرتفعات الجِسر،  فضُربت له قبّة من أدم في قرض الشعر، كما ضُربت من قبل لبلديّه، وسليل جذوره،  وصاحبه في سماء النقد والبلاغة والإبداع نابغة بني ذبيان في سوق عكاظ .

نوارس طائرة وتساؤلات حائرة

هذه الّلمحات “النّادينيّة” الموفيّة، البلّوريّة،  الصّافية، النقيّة،  الحالمة،  الهائمة، والعائمة،  والعفيفة،  والشفيفة ” تنادينا ” في دلال ” لنتذوّق فنّ القول الجميل،  وحلوَ الكلام العليل،  وتشيع بيننا – وواعجباه… عبر أمواج“الفايسبوك” الأثيرية نفسها..! زخم الإبلاغ والإمتاع،  وعذبَ الإبداع والإشعاع الذي يُنعش الأفئدة الحزينة التي أضناها الشّجن، وهدّها الكدر، وأنهكها الضنك والحيرة والألم .. ومضات نورانية “طربيّه” إستبطانية جوّانية تبعث على الأملَ والتأمّل،  وتُفسح العنانَ للخيالات المجنّحة الفسيحة، وتطلق سراحَ ” قطائع السنونوات ” وتحرّر”أسرابَ القطا” لتحلّق طليقةً في الفضاء اللاّزوردي البهيج،  وبضربٍ من المعاناة، والمكابدة،  والنغوص. تتغنّى، وتترنّحُ وتصدح على التلال العالية راجيةً متوسّلةً مُستعطفةً : ” أسربَ القطا هل مَن يُعير جناحَه … لعليّ إلى مَن قد هويتُ أطيرُ ..” ! وهنا تصبح الكلمات – عند الدكتورة نادين في هذه اللّمحات الفيسبوكية نوارسَ طائرة،  وتساؤلاتٍ حائرة،  ومعانيَ زاهرة،  ومبانيَ باهرة، وتنويعات وتريّة متوتّرة،  وأنغاماً مؤثّرة، وهي وإن قُصُرت،  تظلّ نبعاً رقراقاً، وقبساً ساطعاً منبثقاً من أعماق نفسِ شاعرةٍ رقيقةٍ شغوفةٍ بالجمال الإلهي الباهر، لصيقةٍ به،  وبسحره،  ونفائسه،  مولعةٍ بالخَلْق الإبداعي الجميل،  ولا غرو ولا عجب فهي إنسانة والهة تائهة بين أعطاف الصبّ،  والصّبا،  والصّبابة، والتّيم، والتيه، والجوى والرّبابة، هذه الأحاسيس المُرهفة، والمشاعر المُترفة تقطن في الأعالي،  هنالك في هيادب السّمت البعيد،  جارةً للثريّا والسّماكِ الأعزلِ لإستكناه هذا العالم الأزرق البعيد المدى،  الصّارخ الصّدى….!

 أيّتها النّاسجة لحروفٍ من ضياء، والصّادحة على أرغن الكلمات،  والله لقد أبدعتِ، وأقنعتِ، وأفدتِ، وانثالتْ علينا كلماتكِ رخوةً،  ليّنةً، طيّعةً،  مطواعةً،  رشيقةً، وديعةً،  رقيقةً،  شفيفةً،  عفيفةً،  وأنتِ بعلم البلاغة والبيان والبديع عريفة،  لعَمرى لقد بلغتِ المُنىَ، وحققتِ المبتغىَ والمَطلبَا،  وأدركتِ الغايةَ والمَأربَا،  فكلماتكِ الطليّة بيانٌ مشهود،  وآسٌ معهود،  وزهرٌ منضود، وباقات مزهريّة يشدوان على وقع جمالها،  وفتنتها، وسحرها،  ورقّتها ونداها نايٌ وعُود في أمسياتِ شرفاتٍ ورديةٍ مشربيّةٍ مزدانةٍ بمرمرٍ مَسنون،  وبلؤلؤٍ مَوضون .

****

*كاتب، وباحث،  ومترجم،  من المغرب،  عضو الأكاديمية الإسبانية – الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا .

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *