حكمة أب
د. سناء الحاج
دخلت عميقاً في باطن الأرض.. هناك حيث تعيش نملة صغيرة تعمل مع أقرانها بكد وتعب..يبنون مملكتهم متكاملين متضامنين.. يصنعون مجتمعاً مثالياً فيه من الأسرار والمشاهد ما لم أستطع تصديقه.. ومشهد واحد عالق في رأسي لا يفارقني ما زال يدهشني حتى تمنيت لو كنت تلك النملة التي لديها قرون استشعار ترسل عبرها أحاسيسها بالألم أو بالخوف أو ربما بالفرح إلى رفيقتها المقابلة لها فتتلقاها الأخيرة كما هي مناصفة بينهما بواسطة قرونهما.
يمكن لنا أن نشبه قرون الاستشعار التي تملكها النملة تلك بتقنية الاتصال الذكية اليوم في عالمنا نحن البشر. هي تشبهها لكنها لا تؤدي نفس المهمة لأن الكثير من الحكماء يقولون: “بأن الإنسان لا يمكنه أن يتقاسم ألمه أو فرحه مع الآخرين مناصفة”، ربما لأن لا قابلية لهذا الإنسان بأن يتألم بنفس القدر الذي يتألم به الآخر المقابل له مهما كان عزيزاً عليه، وكذلك الفرح فشعوره بالتأكيد مختلف تماماً.
لذلك يحاول الإنسان أن يصف إحساسه بالألم أو بالفرح قدر استطاعته وقد لا يستطيع لقصوره في اللغة مرة، أو لشدة الألم الذي قد يحوله أبكماً مرات.
من هنا سأكتب إليك يا أبي بقلبي استعيض به عن قرون استشعار تلك النملة، وفي ذات الوقت أتحرر به من قصوري اللغوي. بقلبي الذي انصهر متوحداً بالألم في كثير من الأحيان، إلا أنه ممتلئ بفرح ما وهبتني.
أبي أيها القلق ..
لقد مرّ على رحيلك ثمانية عشر عاماً وما زالت عيناك عالقة بي ترقبني وتتبعني كظلي، وما زالت نظراتك القلقة تطاردني، ولأجل عينيك أتيتك اليوم لأخاطبك وأسألك راجية:
– ألا يمكنك أن تهدأ وتستريح كرمى لقلب من دللت ورعيت؟
– ألا يكفي ما تحملته في حياتك منذ تيتمك طفلاً؟
– ألا يكفيك ما تحملته منذ ألتقت عيناي بعينك لأول مرة.. حين كنت طفلة ضعيفة أصيبت بفيروس شلل الأطفال فحملتني وهرولت بي كمن يحمل الشمس بين يديه؟
حكاياتك معي طويلة جداً وفريدة من نوعها.. مثيرة حد الدهشة.. رسمتها بأناملك كلوحة جميلة.. لونتها بألوان فرحك وعاطفتك.. وصورتها في مشاهد تستحق أن تعرض في مسرح الحياة وتعاش، إنموذجاً استثنائياً كنت،
أبا فقيراً مادياً، لم تدخل مدرسة تقرأ من الصحف التي تقع بين يديك ولا تكتب، حكيماً أكثر من حاملي الشهادات العليا اليوم.
أيا ظلي:
سأذكرك بما كنته في حياتي، وبقصصنا معاً ، وبطرق مشيناها وأوقات فرح أحييناها.. وحدك تحملت آلامي وأحزاني ومرضي من المهد ومشيت بكل هذا الثقل عاملاً بصفات ومتناقضات كونت جوهر شخصيتك ، سلبية كانت أم إيجابية لتحولها إلى جمال.. كلها تلقفتها منك وعشت بها وما زلت.. إنها جيناتك التي انتقلت إلي بالاضافة إلى عاطفتك التي سقيتني إياها بجرعات زائدة حتى أفسدتَ قلبي بدلالك.. ألم تكن تعلم أن صاحب العاطفة القوية يشقى في حياته؟
كنت حين أريد أن أطمئنك وأزيح القلق عن عينيك .. أقوّي جسدي، أكل ما كنت تعده لي من طعام وغذاء لتقوى عظامي الهشة.. أفعل التمارين التي تأمرني بها لأريك بأني قادرة.. كنت أدرس وأجتهد وأنجح..هل تعلم بأني لم أكن أفعل كل هذا خوفاً من غضبك، بل جلّ ما كنت أقوم به لأتلقى منك نظرة رضى واطمئنان.
ألم تكن تستحيل إلى الهواء لأتنفسه؟
ألم تذرف ماء قلبك لأرتوي وأعيش؟
ومهدّت لي جسدك تراباً لأستريح؟
وبظلك رافقتني وما زلت تحيطني مذ كنت تلك الطفلة الضعيفة، كم كان حجم تلك الطفلة بالنسبة إليك حتى كثرتّك إلى هذه الدرجة؟
كم كان حجمي وما كنته كي أخرجك من معادلة قابلية الإنسان لتقاسم المشاعر مع الآخرين مناصفة؟
ومن كنت أنت لتخالف أقوال الحكماء؟ .. وكيف استطعت أن تخرج عن المشهور والمعروف في مشاعر الأب اتجاه ابنته، فتناقض كل ما سبق وذكرته عنك من قوة مشاعرك وفيضانها اتجاهي إلى أن تتمنى موتي أنا ابنتك قبل رحيلك أنت عن هذه الدنيا؟؟؟؟
مرات ومرات كنت تردد وتتمنى داعياً الله بأن أموت قبل رحيلك أنت..، كنت حينها تخفي هذه الأمنية عني.. لكن إحدى صديقاتي أفشت سرّك وأخبرتني، وكان ذلك قبل إصابتك بأول وعكة قلبية. وبالرغم من معرفتي بأمنيتك لم أحزن بل تفهمتها، ودعوت الله بأن يستجيب لك ويحقق أمنيتك .. على أمل أن أنجو بنفسي مما قد يصيبني من ألم فقدك ورحيلك في حياتي.. ومن عدم قدرتي لفراقك .. إلى أن كانت مشيئة الله ورحلت أنت !!!..
هل كنت تخاف عليّ لهذه الدرجة ؟ وتتوقع بأن ليس في هذه الدنيا من يستطيع أن يحيطني ويحميني ويرعاني مثلك؟
فقط أكتب إليك أيها القلق لأطمئنك دون أن تشيح بنظرك عني، ولترى مني كل ما يمكن أن يقرّ عينيك ويفرح قلبك، ولتعلم وتستريح بأن جيناتك بخير وما أورثتني من الحب والقوة ممتلئ لا ينضب، أحاول أن أفيض به على كل من حولي .. وافتخر أمام الجميع بأن كل ما عندي منك، وبأن تلك النبتة الضعيفة التي زرعتها بيديك كبرت وأصبحت شجرة برية صلبة، يتفيئ في ظلها من يستحق أن تبذل له الحياة.
وشكراً لأنك أبي …
ابنتك
سنا أحمد الحاج