شِعْرِيَّةُ التَّوازي المتباين في نصِّ أغنية الأخوين رحباني

Views: 777

د. وجيه فانوس

أوَّلاً: “التَّوازي”و”التَّوازي المتباين”

“التَّوازي”، وفاقاً لما يرد في “معجم لسان العرب” لابن منظور، هو ما يفيد المقابلة والمواجهة[1]. ومصطلح “التَّوازي”، بحد ذاته، مصطلح رياضيُّ، انتقل مع توسُّع مفاهيم العلوم إلى مجالات الدَّرس النقدي؛ وظهربمثابة بديل لساني، حل محل المفاهيم التي تختزل كل أشكال التوازن والتناظر البلاغية[2].يستخدم التوازي في الأدب، للإضاءة المشعَّة على موضوع ما،جذباً للقارئ من جهة، وتسهيلاً لانزراع الفكرة في ذاكرته ووجدانه من جهة أخرى؛ وغالباً ما يكون استخدام التوازي في النص الأدبيِّ في الخُطَب والأمثال؛ إذ عادة ما يتمُّ تلقيها مشافهة. ومن أمثلة التوازي الساطعة، في هذا المجال، خطبة قس بن ساعدة، “أيها الناس من عاش فات”، باللغة العربية، وخطبة مارتن لوثر كينغ، “لدي حلم”، باللغة الإنكليزية.[3]

“التَّوازي المتباين”، هو “توازٍ” ولكن قد غابت عنه عناصر التَّوازن والتناظر؛ إذ هو بنية تنهض على مكونات أو عناصر متباينةغير مترابطة أو حتَّى منسجمة؛ فتبدو، ظاهريَّاً، وكأنَّها غير منتظمة أو متباينة. بيد أنَّ هذه المكوِّنات، برمَّتها، إذا ما كان لها أن تنتظم ضمن تشكُّلٍ بنائيٍّ وموضوعيٍّ يتمكَّن من الجمع بينها، فإنَّ إيقاعاً مضمونيَّاً وبنائيَّاً قد يُظهر انتظاماً لها يشير إلى تجانسٍ ما في تجاورها أو تلاحقها. يؤمِّنُ هذا “الانتظام”  ظهور فاعليَّة شعريَّة، تتحول بها هذه البنية من محدوديَّة التقرير الجامدة، إلى فاعليَّة التفاعل الشعري المطلقة.

قد تقدِّم لوحة “حذاء الفلاح” لفنسنت فانكوخ (1835-1890)، أنموذجاً طيباً في هذا المجال. لقد قام هذا الفنان بوضع عدد من اللوحات خصَّهابرسم لحذاء قديم مهترئ لفلاح. واقع الحال، الحذاء القديم المهترئ، بحد ذاته، أمر قد لا يكون جميلاً أو حتَّى شِعرِيَّاً؛ لكن ما الذي دفع بلوحة فنسنت فانكوخ، هذه، لتحظى بما حفلت به من إعجاب لافت للفنانين ونقاد متلقين؛ إلى لدرجة حملت كثيرين إلى التهافت على اقتنائها والسعي إلى شرائها بمبالغ طائلة؟

واقع الحال، إن في هذه اللوحة بنية فنيَّة تنهض على فاعليَّة شعريَّة قوامها تباين فجٌّ بين التفاهة الشكليَّة للحذاء القديم والمهترئ، وبين القدرات الفنيَّة للتعبير التَّشكيلي المستخدمة في رسم هذا الحذاء. أصبح الحذاء، موضوع اللوحة، بتفاهته، مستوعَباً لجماليَّة الطاقات الفنية للرسام؛ ومن هنا، فإن الجمع الإبداعي في اللوحة، بين هذين المتباينين، “وجود الحذاء” و”جماليَّة التشكيل الفنِّي للرسَّام”، أدَّى إلى انبثاق لفاعليَّة جماليَّة (شعريَّة) ميَّزت اللوحة.

 

 

ثانياً: نصُّ الأخوين رحباني

كثيراً ما اعتد الأخوان رحباني بنائيَّة “التَّوازي المتباين” في وضع نصوص الأغاني التي قدَّماها؛ خاصَّة وأن عبر هذا التوازي المتباين ما يؤمِّن للنَّص فاعليَّةً شعريَّة تفتح أمام المتلقِّي مجالات واسعة من فضاءات التلقي الشعريِّ الحر، التي يقف واضع النص فيها وكأنَّه يقدِّم للمتلقِّي مفاتيح الدخولِ إلى ما يمكن اعتباره، ههنا، “حصن النَّصِّ”، تاركاً لهذا المتلقِّي حريَّة التفاعل الحيِّ مع كل واحدة من مكونات هذا “الحصن” وفاقا لما لدى هذا المتلقِّي من قدرات وطاقات لعيش الشِّعري.

أنموذج “القُدس العتيقة

مرَّيت بالشَّوارع شوارع القدس العتيقة

قدَّام الدَّكاكين البقيت من فلسطين

حكينا سوى الخبريِّة وعطيوني مزهريِّة

قالوا لي هيدي هديِّة من النَّاس النَّاطرين

ومشيت بالشَّوارع شوارع القدس العتيقة

اوقف عباب بواب صارت وصرنا صحاب

وعينيهن الحزينة من طاقة المدينة

تاخدني وتودِّيني بغربة العذاب

        يتجلَّى “الشِّعريُّ” في نَصِّ “القُدسُ العتيقة“، عبر العربيَّة المحكيَّة في لبنان،عبر تشكُّل بنائيٍّ للصُّوَرِ والمفاهيمِ، قوامُه إنشاء التَّوازي بين هذه الصُّور والمفاهيم، من جهة، وإظهار التَّبايُن الصَّارخ في ما بينها، من جهة أخرى. يظهرُ التَّوازي، في هذا النَّصِّ عبر نهوض متواليتين تُقابِلُ إحداهما الأخرى؛ أولاهما مُتَوالِيَةٌ تتألَّف من “الشَّوارع والدَّكاكين والخبريَّة والهديِّة والشَّوارع والأبواب والحزن والحركة”، في تقابل مع المُتَوالِيَةِ الثَّانية المؤلَّفة من “شوارع القدس وما بقي من فلسطين والمزهريَّة والنَّاس المنتظرين وشوارع القدس والأصحاب فضلاً عن نافذة المدينة وانتهاءً بغربة العذاب”.

 

        إنَّ هذه الفاعليَّة للتَّقابلِ المتوازي، بين هاتين المتواليتين، التي وضعها مُرْسِلُ النَّصِّ، سرعان ما تتحوَّل، مع قيام المُرْسَل إليه بعمليَّة تَلَقِّي النَّص، إلى فاعليَّةٍ انفجاريَّةٍ صارخةٍ ليست ضدَّ أيَّاً من المتواليتين بقدر ما هي انفجارٌ صارخ في وجه الحال التي نتجت عن قيام المتواليتين معاً. تقف، ههنا، “الشَّوارع”، من المتوالية الأولى، مقابل “شوارع القدس”، في المتوالية الثَّانية؛ وتقف “الدَّكاكين” من المتوالية الأولى، مقابل “ما بقي من فلسطين”، من المتوالية الثَّانية؛ وكذلك هو الحال بين سائر عناصر كلِّ واحدة من المتواليتين، إلى درجة تكتمل معها صورة ما تبقَّى لناس”القدس” من مدينتهم المحتلَّة التي ما برحوا يحيون ضمن بقاياها حاملين الحُزن في قلوبهم مع حكاية الغصب ومع مشاعر المودَّة والتَّقدير لكلِّ من يزورهم متفقِّداً لأمورهم ومطمئنَّاً عن أحوالهم ومشاركاً لهم في هموم العذاب.

       هوذا “الشِّعريُّ” الذي ينطق به تشكُّل نصِّ أغنية “القدس العتيقة”، رغم أنَّ أيَّاً من كلماتهِ لا تشير إلى هذا “الشِّعريِّ” مباشرة؛ بيد أنَّها قدرة “الأخوين رحباني” على وضع نصٍّ قابلٍ للتَّلقي، من قِبَلِ المُرْسَلِ إليه؛ وقادرٍ، في الوقت عينه، على تحفيز طاقات هذا المُتَلقِّي على استقبالٍ للنَّصِّ فيه من الإبداعِ الذَّاتي ما فيه.

        وتحمل نصوص أغانٍ عديدة لـ”الأخوين رحباني” شعريَّة “التَّوازي المتباين”، وإن كان ثمَّة تشكُّلات عديدة لإنبناء هذا “التَّوازي” مارسها “الأخوان رحباني” في هذه النصوص. ومن هذا القبيل ما في نصِّ “أنا لحبيبي“، بالمحكيَّة في لبنان:

أنا لحبيبي وحبيبي إلي

يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي

لا يعتب حدا ولا يزعل حدا

أنا لحبيبي وحبيبي إلي

حبيبي ندهني قلِّي الشِّتي راح

رجعت اليمامة زهَّر التِّفاح

وأنا على بابي النَّدى والصَّباح

وبعيونك ربيعي نوَّر وحلي

وندهني حبيبي جيت بلا سؤال

من نومي سرقني من راحة البال

وأنا على دربو ودربو عالجمال

يا شمس المحبِّة حكايتنا إغزلي

       تنهض شعريَّة النَّصِّ، ههنا، أيضاً على متواليتين، إحداهما متوالية قوامها “أنا لحبيبي ويا عصفورة بيضا”، ثمَّ “أنا لحبيبي وأنا على بابي، وبعيونك ربيعي وندهني حبيبي ومن نومي سرقني وأنا على دربو”، في مقابل متوالية “حبيبي إلي وقلِّي الشِّتي راح وزهَّر التِّفَّاح والنَّدى والصَّباح ونوَّر وحلي وجيت بلا سؤال وراحة البال ودربو عالجمال وحكايتنا اغزلي”.

 

عِلماً أنَّ هذا قد لا يختلف، بل يزداد فنيَّة ورشاقة مع نصِّ من مِثل “غالي الدَّهب غالي”، وهو نصٌّ بالمحكيَّة في لبنان ينهض على بنائيَّة من التوازن المتباين قائمة على ثلاث متواليات:

غالي الدَّهب غالي وضحكت عناقيدو

عالي الورد عالي وشو طالع بإيدو

غالي الدَّهب غالي وعالي الورد عالي

ويا حبيبي يا دهب الغالي

ما سألتو علينا عْتِبْنا كتير

وعا قد المحبِّة العتب كبير

يا أهل الدَّلال يا ساكنين البال

قلبي ع بواب الحبايب ضيَّع مواعيدو

فستان وإسوارة وعقد جديد

والحلق الفضَّة ليوم العيد

يرجِّع لي الزمان والهوى اللي كان

ويا حبيبي عهد اللِّي لنا نعيدو

 

ومن النَّماذج الكثيرة الأخرى، ما قد يحلو النَّظر فيه من نصِّ “نسَّم علينا الهوا”، بالمحكيَّة في لبنان، والقائم على عددٍ من المتواليات؛ كلُّ واحدة منها تعرض عالماً قائماً بذاته، مع ذلك فإنَّها تشكِّل مجتمعةً، عبر هذا “الاستقلال الذاتي” لكل واحدة منها، حالاً من الشِّعريِّ هي لبُّ هذا النَّصِّ للأغنية:

نسَّم علينا الهوا من مفرق الوادي

يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي

يا هوا يا هوا يللِّي طاير بالهوا

في منتورة طاقة وصورة خدني لعندن يا هوا

فزعانة يا قلبي أكبر بهالغربة

وما تعرفني بلادي

خدني على بلادي

شو بنا يا حبيبي شو بنا؟

كنت و كنا تضلو عنا وافترقنا شو بنا

وبعدا الشمس بتبكي عالباب وما تحكي

يحكي هوا بلادي

خدني على بلادي

 

 ****

 

[1]– ابن منظور، معجم لسان العرب، باب الياء/فصل الواو: مادة (وزي)

[2]– ينظر:

-Delas., J.Fill, Linguistiqueetpoétique, langue et language, Larousse, Paris 1973, p.73.

[3]– مما يقوله قس بن ساعدة في خطبته هذه: يا أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا إنه من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات وآيات وأرض ذات رتاج ,وبحار ذات أمواج، ألخ.

– ومما يقوله مارتن لوثر كينغ في خطبته هذه:

I have a dream that one day this nation will rise up and live out the true meaning of its creed: “We hold these truths to be self-evident; that all men are created equal.”

I have a dream that one day on the red hills of Georgia the sons of former slaves and the sons of former slave owners will be able to sit down together at the table of brotherhood.

I have a dream that one day even the state of Mississippi, a state sweltering with the heat of injustice, sweltering with the heat of oppression, will be transformed into an oasis of freedom and justice.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *