العنقاء

Views: 739

د.عبد الله إبراهيم

ما أن يطرق السمعَ اسمُ بيروت حتّى تتداعى إلى الذاكرة سلسلة مُتعاقِبة من أمواج الحياة: مَوجة الحريّة، مَوجة الإبداع، مَوجة الانفتاح، مَوجة التنوُّع؛ فبيروت أشبه بفنار مُضيء لا تني تُرسل نورَها إلى جِهات العالَم الأربع، فنارٌ يرشد الضّالين، ويستقطب الحالِمين، ويُنذر الجائرين، ويتوعَّد الخاطئين، وإلى ذلك..

فبيروت ابنة التمدُّن مهما ساءت أحوالها، وأحدقت بها الأخطار، لا التمدُّن المُستعار الذي يمسخ أهله، بل التمدُّن الفاعل الذي ينقلهم من حالٍ أدنى إلى حالٍ أعلى، التمدُّن الذي يدفع بالناس إلى مَعارِج الرقيّ، ويأخذهم به إلى التحضُّر في عصرٍ صارت الحداثة عنوانه. ومهما نضّدتُ من أوصاف متوالية لبيروت، فصفتها الأولى، هي أنّها مدينة الثقافات الحرّة، والأعراق المُتداخِلة، والمُعتقدات المُتآلفة.

ومع ذلك، فبيروت “بارومتر” العروبة والتحديث طوال القرنَين الماضيَين، فتؤشِّر ازدهارهما أو انحسارهما، وتقيس انتعاشهما أو انحطاطهما، وهُما متلازمان في السرّاء والضرّاء، ومترادفان في وقت الرخاء، وفِي وقت الشدّة، ولا سبيل لفصْم عراهما، وفِي بيروت وقع اختبار نفعهما وضَررهما. وقد رأيتُ أنّ بيروت، وفي نصف القرن الأخير من تاريخها، أعلنت رأيها فيهما بعلامة لا تقبل الخطأ: أحوال العروبة والتحديث في تدهور، وتراجُع، ونكوص، والأصوَب القول إنّهما في حالٍ سيّئة بمنوالٍ مُتراجِع إلى الوراء، إنْ لم يتمّ تدارُك أمرهما، وتحويل اتّجاهِهما.

ولكنْ ما نَوع الانحطاط الشائن الذي حذّرت بيروت منه، ثمّ صرّحت به على رؤوس الأشهاد؟ إنّه حلقات مُتداخلة من الانشقاق، والانقسام، والتناحُر، والاحتراب، والطَّمَع، والجَّشَع، والغَدْر، وبإزاء ذلك توارى التآلُف، والتوافُق، والوِئام، وإن وصفتُ ذلك من غير مُوارَبة، فذلك الانحطاط، هو الفِتنة التي نبّهت بيروت إليها، فما كذبت، وما غالطت في ذلك؛ فقد انحسرَ التمدُّن بين أهله، واهتزّت أركان العروبة في عقر دارها، فمؤشّر بيروت لا يُخطئ في تشخيص حال العالَم المُحيط بها من دون تزوير ولا ادّعاء.

ذكرتُ أنّ بيروت هي المقياس الدقيق لأحوال العالَم الذي تتربّع في مركزه، ويُضاف إلى ذلك أنّها بارومتر التغرُّب، والضياع، والخيانة، ولوجودها في قلب تاريخ الشرق الأوسط القديم والحديث والمُعاصِر، فقد كانت تنفعل بأحداثه، وتتفاعل معها، تتأثّر وتوثّر بها، ومن هذه الناحية فهي مرآة صقيلة انطبعت على سطحها آمال شعوب الشرق الأوسط، وتطلّعاتها، وأحلامها، وارتسمت على صفحاتها إخفاقات تلك الشعوب، وخَيباتها، وعجْزها.

من الصحيح أنّ بيروت شريط يفصل الجبل عن البحر، لكنّ شأنها أكبر من ذلك، فهي والبحر صنوان، وهي والجبل قرينان، إن رجحت هويّتها البحريّة، فذلك من الصواب، وإن رجحت هويّتها الجبليّة، فثمّة حفنة من الأدلّة على ذلك، فلا عجب أن كانت مَهبط الغُزاة القادمين من أعماق البحر، ومَطرح المُغيرين من فيافي البرّ. وسواء أكانوا غزاة أم فاتحين، مبشّرين أم هادين، فبيروت لم تصفق أبوابها بوجوههم، بل صرفت نظرها، بكبرياء، عن ضلالاتهم وهداياتهم، فكانت تلفظهم لفظ النواة ما أن تستعيد زمام أمرها.

لا خوف على بيروت

وقد آن أوان طرْح السؤال الصعب: كيف أصبحت بيروت مؤشّراً على سوء الأحوال أو على حسنها في منطقة تعجّ بالفوضى مرّة، وبالاستقرار مرّة؟ عن هذا أقول إنّ لبيروت قرونَ استشعارٍ طويلة افتقرت لها المُدن الأخرى، وبالأحرى، لها بصيرة كاشفة لا تُوارِب، ولا تُخاتِل، ورثتها، عبر التاريخ، عن مُرافَقة المِحن، ومُصاحَبة الفِتن، فتكون خبرت الأحداث الجِّسام في وجوهها كافّة، وصارت قادرة على الإفصاح عن المُضمَر والخَفي، مثلما هي قادرة على الجهر بالمُعلَن والجليّ، فلا تخشى لَومة لائِم في قول الحقّ. ولكنْ ما القرائن التي ترجّح بعضاً ممّا وَرَدَ ذكره؟ إنّها الشهادة الشخصيّة عن بيروت، وينبغي تدوينها من دون خداع، فقد عاصرتُ كثيراً من أحداثها في النصف الثاني من القرن العشرين،عرفتُها مُزدهرةً ازدهاراً لا نظير له في بلاد العرب، ومتألّقةً اجتذبت المُتطلّعين إلى الحريّة، عرفتُ بيروت مدينة دنيويّة نشطة، وعرفتها، أيضاً، عليلة، مترنّحة، وسقيمة الحال. حدث الأوّل قبل الحرب الأهليّة، ووقع الأمر الثاني خلالها، وبعد تلك الحرب المشؤومة راوحت في مَكانها، قَدَمٌ هنا وقَدَمٌ هناك، خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف؛ وعلى الرّغم من ذلك، ولعلّه من العجب العجاب، فلم تمحض بيروت ثقتها لأحد، وما قبلت بأيّ ادّعاء تقدّمت به الفِرق المُتناحِرة على أرضها، وكلّها، من دون استثناء، تلاعبت بها، وتقاسمتها أشطاراً بدعاوى خادعة، حتّى أنّها رفضت كلّ الفُرقاء من دون أن تُعلن ولاءها لأحد منهم. وظنّي أنّها سترفسهم باحتقار، كالجواد الأصيل، وتنطلق صوب مستقبلٍ أكثر إشراقاً من ماضيها وحاضرها.

من أين لي هذا اليقين من أمر بيروت؟ وما مَصدر ثقتي بعنفوانها؟ عن ذلك أختصر القول: لم تكُن بيروت حديثة عهد بالانعتاق من الطغيان، فهي عصيّة على التملُّك، وخلال تاريخها الطويل، الذي ناهزَ خمسة آلاف سنة، لم تُسلِّم قيادها لأحد على نحوٍ مُطلَق. من الصواب أنّها قاوَمت واستسلَمت، وازدهرَت ثمّ انحطّت، وتطوَّرت ثمّ تدهورت، وما صحت على نازلة إلّا وهجعت على فاجعة، حتّى من شبه المُحال ذكر عدد حملات الغزو التي تعرّضت لها إبّان عمرها الطويل، فقد دكَّت خيول الأعداء أرضَها، وأرفأت سُفن الغُزاة في مينائها، وكلّ قادِم إليها جاءها بدعوة صادقة أو كاذبة، وربّما ما من مدينة وطأ أرضها مثل هذا الوفير من الأعداء الذين تناوبوا عليها بمنوال مُتعاقِب، اللّاحق يطرد السابق، ويحلّ محلّه، أو يتحالف معه، ولَم أعرف عهداً لبيروت عاشت فيه من غير بعْلٍ غازٍ، أو جبّار مُتغطرِس. ومع ذلك، فقد أسفرت عن الوجه الذي دمغته صروف الدهر بالحِكمة، فإذا بها تُلقي الغزاة وراء ظهرها، وترتاد التمدُّن قبل أيّة مدينة في الشرق، فتكون صاغت هويّتها الحديثة، قبل كلّ مُدن الشواطئ الشرقيّة والجنوبيّة للبحر المتوسّط، ونَهجت نهْج الرقيّ، فهي حاضرة الثقافة، وعاصمة الحريّة.

منذ القرن الثامن عشر أعربت بيروت عن هويّتها الحديثة، وخطَت خطوات بعيدة في مضمار التمدُّن خلال القرن التاسع عشر، وفِي نصفه الثاني أمسَت مَركزاً ثقافيّاً مشهوداً له بالريادة في الصحافة، والطباعة، والتعريب، والنشْر، والتعليم، وحرصَت على الطابع الدنيوي لهويّتها الجديدة، ولَم تفرِّط بها، وفِي سجلّها الثقافي بصمات نخبة الكُتّاب الذين جعلوا التحديث غايتهم، فأصدروا الصحف الحرّة، وكَتبوا المؤلّفات الثريّة، وعرّبوا المؤلّفات الأجنبيّة، وأصدروا الموسوعات والمَعاجِم. حدثَ ذلك قبل مدّة طويلة من اهتمام المُدن الأخرى بإشاعة الثقافة ونشْرها.

وي. إذن لستُ بإفرنجيّ

ولعلّي أخصّ بيروت بالخير العميم، والفضل العظيم، ففيها بدأَت ريادة الأدب العربي في العصر الحديث، أي ريادة الأشكال الجديدة، والأساليب الحديثة، وبخاصّة السرد الروائي على يدي رائده خليل الخوري في روايته المبكّرة “وي، إذن، لست بإفرنجيّ” التي صدرت مطبوعة بكِتاب في العام 1860 قبل أكثر من نصف قرن على صدور روايات زعمت الريادة في مصر وغيرها من البلاد.

وفي بيروت، وليس في سواها، توالى صدور الأعمال الروائيّة التي دشّنت عهداً جديداً للسرد العربي، وفيها ظهرت الصحافة بمعناها الحديث، وفيها تأسَّست الجمعيّات الأهليّة، وفيها فتحت أوّل جامعة حديثة، هي الجامعة الأميركيّة في أوّل ستينيّات القرن التاسع عشر، ولكنّ الأهمّ، هو أنّ بيروت اجتذبت إليها عدداً كبيراً من المفكّرين الذين جعلوا من الدنيا هدفهم، فبشّروا بها، ودافعوا عنها، ورغّبوا الناس فيها، فزعزعوا ركائز التصوّرات الموروثة، والمُعتقدات البالية.

وحيثما يُشار إلى التحديث، فبيروت تتبوّأ مَكانتها الرائدة فيه، حتّى ليخيَّل للمَرء أنّها مَثار استفزاز للخاملين، والعاجزين، والمُتقاعسين، الذين يزعمون مَجداً لا يتوفّر لهم، ويتوهّمون دَوراً لا أثر له، فينتقمون من بيروت قبل غيرها، بيروت التي بلغت الأعالي السامقة، فيما هُم راكسون في حضيض الدناءة والرداءة. لا خوف على بيروت وقت الشدائد التي تمرّ بها، فهي كالعنقاء تنبعث بمسمّى وهويّة. وقديماً قال أبو العلاء المعرّي في هذا المعنى:

أرى العنقاءَ تكبرُ أن تُصادا

فعاندْ مَنْ تُطيقُ له عِنادا

***

(*)  ناقد وكاتب عراقي

(*) مؤسسة الفكر العري-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *