قراءة نقدية لنماذج من قصص قصيرة جدًا

Views: 572

د. درية فرحات

عرفت القصّة، خلال تاريخها الطويل، أنواعًا من القصّ عديدة، ففي كلّ مرحلة من التّاريخ كان القاص يجسّد تجربته ويرشح برؤيته إلى عالمه، وينهض بأداء مهمّات الأدب في المرحلة التّاريخيّة التي يتشكّل في سياقها، فكانت في القديم الحكاية بمختلف أشكالها والأسطورة والحكاية الخرافية والأمثال وحكاياتها والأسمار، والسّيرة والمقامة…، وفي العصر الحديث القصّة القصيرة والرّواية.

وبما أنّ وتيرة الحياة دائمًا في تغير وتقلّب فإنّ الأدب يتأثر بهذه المتغيّرات، ما يسهم في ابتكارات أدبيّة، وفي ظهور أجناس أدبيّة تنطلق من الموجود لتصنع جديدًا. وهذا الجديد يحتاج إلى نقد تجاوزيّ يفتح آفاقه على أبعاد مختلفة.

من هنا فقد ظهر في العالم العربيّ منذ منتصف القرن الماضي القصة القصيرة جدًا كجنس أدبيّ مستحدث، متأثرًا بمجموعة من الظّروف الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وكل جديد لا بدّ أن يواجه مواقف نقديّة متعدّدة، فهو يبدأ حييا خجولًا إلى أن يثبت مكانته، ومن الملاحظ أنّ هناك ثلاثة مواقف نقديّة تواجه أي جديد، الأول موقف مدافع، والثاني موقف سلبيّ، والثالث موقف متردّد وحذر.

ولم يسلم ظهور القصة القصيرة جدا كجنس أدبيّ من هذه الاتّجاهات الثلاثة، وبدأت المحاولات في تحديد هذا الجنس الأدبيّ، ويحضرني الآن أن أشير إلى ملتقى الأدب الوجيز الذي يسعى إلى أن يفتح الآفاق على هذا المفهوم وتبيان خصائصه ووضع الأسس النقديّة له. ولذلك عندما وصلتني دعوة القاصة ميشلين بطرس إلى هذه الأمسية الكريمة رأيت أنّها تحقّق ما بدأناه في ملتقى الأدب الوجيز، وقد أسعدني أيضًا أن نعقد أمسيات تتمحور حول القصة القصيرة جدا.

واختيار تسمية القصة القصيرة جدًا يرتبط بخصائص هذا النّوع الذي يتميّز بالحفاظ على الطبيعة السرديّة، من خلال اعتماد عناصر السرد أيالحدث والشخصية والمكان والزمان وما فيه من استرجاع واستباق والحوار أوالمونولوج ولغة وأسلوب وسارد وزاوية رؤية أو تبئير. كما يتّصف هذا النوع بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف، بالإضافة إلى سمة التلميح والاقتضاب، واعتماد النفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار، أمّا لغة القصة فقد تميل إلى لغة فيها الإنزياح والصورة والخيال.

وتجدر الإشارة إلى أنّ القصة القصيرة جدًا التي تعتمد على هذه العناصر، فإنّها لا تشترط توافرها بأكملها في القصة نفسها، إنّما يمكن أن تركّز على عنصر منها أو على عدّة عناصر، وما يهمّ هو التكثيف والإيجاز، والأهم هو قيامها على مبدأ الإدهاش.

وقد كان لنا جولة مع نماذج من ابداع يراع المبدعين الأفاضل، فكان في بعض منها ما يتناغم مع القصة القصيرة جدا، ومنها ما كان أقرب إلى فنّ القصة القصيرة. وبالإجمال فإنّنا إذا بدأنا مع العتبة  النصية  التي تحمل إمتداد  (الزمكان)، نجد أنّ جُل العناوين في هذه النماذج  لم تخرج عن ظلال الواقع الاجتماعي والسياسيّ، وكل ما يحمل من مرادفات لمشاعر إنسانيّة وأبعاد حياتيّة ونصوض تحيلنا على بعض أدوارنا في الحياة. تلك الأدوار التي يفرضها التّمظهر الاجتماعي، أو أحياناً نوع من النّفاق الذي تمليه حالات وتصرفات وأوضاع حياتية.

فإذاما قرأنا النّصوص بعيداً عن عمق الدّلالة، وغاية القصد، ستكون نصوصًا عادية،ولكنّ أغلب النّصوص على غير ذلك، فمثلا في نصّ “ويرشح ..الغباء” لميشلين بطرس  نتلّمس مشهد يزخر بحالة إنسانية موجعة، يعبر عن امرأة لم تهنأ بزفافها فيموت عريسها في ليلة الزّفاف، لكنّ ما برز هو مواقف الناس منها، وقد اختلف موقف المجتمعين وكلّ منهم يراها بوجهة نظر ترتبط بالجنوسة، فباتت بعرف الرّجال شؤمًا، وتسأل النّسوة عمّا توارثنه في مجتمعهم، وهو مبدأ العذريّة. أو تقدّم لنا صورة التّكبر في المجتمع، لأفراد يشمئزون من تصرّفات الآخرين ويغفلون ما يقومون به من أذية للبيئة، وما يلفتنا في قصة “مؤمن” موقفها الاجتماعي المهم من النّفاق الدّيني الذي يطبّق من الدّين مظاهره وطقوسه من دون الغوض في الجوهر وحقيقة الدّين.

ولم تكن سمية تكجي بعيدة من هذا البعد الاجتماعي، وتصوير الدّلالات الإنسانيّة ففي قصة دفلى صورة حيّة واضحة لما تخلّفه الحروب وما تسببه من دمار، فكلّ الأسماء تُمحى ولا يبقى إلا النّقاء والصّفاء المتنثل بالطّبيعة، فما الأسماء التي دُثرت على الشّواهد إلّا إشارة إلى أعمال الإنسان وماديّاته التي أنتجها في الحياة، وما شجرة الدّفلى التي دلّت الفتاة على قبر أبيها إلّا دلالة على فطرة الحياة، وأيضًا على عاطفة الفتاة المحبّة الصّادقة. وتقدّم لنا صورة جميلة عن الصّراع الدّائم في الحياة بين الجسد والعقل، فالجسد قد هلك وتعب، بينما العقل يحث على البقاء والاستمرار. أمّا في قصة منقوشة وكتاب، فتصوير لمبدأ تربوي مهم وهو أنّ الطّفل يتعلّم بالمحاكاة، فالفتاة قلّدت أمّها في استعمال الورق للفّ المناقيش، لكن التّناقض برز عندما رفضت أمّها هذا التّصرّف، ولعلّ ذلك ينطبق على مبادئ الحياة، فما نعلّمه لا نطبقه.

وكما عادت سمية تكجي إلى الطّفولة، نجد القاص محمد اقبال حرب يعود إلى هذه المرحلة الأساسية التي تعد بحسب التحليل النّفسي هي المكوّن الأساسيّ لشخصية الإنسان، فيقدّم لنا صورة إنسانيّة مؤلمة، وفيها تصوير للعلاقات الإنسانية  المتشظية التي تجلت في أكثر من صورة أولاها مع نفسه – الأنا  وهي ثيمة  نجدها عند معظم القاصين، يحاولون فيها العودة إلى دواخلهم وسط الضجيج والحياة الصاخبة التي تدنو إلى الخراب، فينقل صورة هذا الطّفل الذي تركت تجربة والده في تربيته أثرًا أليمًا فلم يكن اجباره على مسح أحذية أقاربه إلّا حقدًا على البشر وحقارتهم. أو يرسم صورة العلاقات الأسريّة الزّوجيّة، وبالتّلميح يرسل رسالته التي تشير إلى أثر الأمّ السلبي على ابنتها في علاقتها مع الزوج، في قصة رائقة تستوقفنا،من حيث نسيجها السّردي، و تقنية الأسلوبفي هذا النّص البديع، فنحسّ بروح التّشكيل الأدبي، وحساسية التّعبيرالفنّي.

ولم يغفل مبدعونا عن الإشارات السّياسيّة المهمة كما في قصة (هدير الليل) لميشلين بطرس أو (الشّوك ملك) لسمية تكجي أو (أنا وهو وعنزتي والتيس) لمحمد اقبال حرب، وجميل استخدام الرّمز لتصوير الواقع الطّائفي والأزمة في لبنان حيث يسيطر علينا الانتماء الطّائفي. وأيضًا كان للقاصين موقف تأمليّ في قضايا الوجود والكون كما في قصة (شعلة وألهة الأرض والقمر) لمحمد اقبال حرب أو (إعادة نظر و انفصام) لميشلين خليفة.

إنّ الإشارة إلى الأبعاد الدّلاليّة للقصص تطول وتطول، وتدفعنا إلى الإسهاب والتّفصيل ونحن على منبر نحتاج فيه إلى الإجمال لا التّفصيل حفاظًا على الوقت، لهذا سأنتقل إلى نقطة جوهرية ترتبط ببعض أسس القصة القصيرة جدًا، ومنها أوّلًا الميل إلى توظيف الجمل القصيرة، وإلى المجاز الاستعاري ونسقية الحذف والاضمار الذي تحقّق بشكل بارز مع استخدام علامة الترقيم الحذف (…)، وهي من اسمها تدلّ على ما يحمله النّصّ الوجيز من تأويلات وتخييلات، فهذه العلامة مكوّن أساسيّ يحقّق التّواصل مع القارىء أو المتلقي، قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله وذهنه لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله؛ لأن توضيح دلالات المضامين ومقصدياتها لايمكن توضيحها أكثر من اللازم.

وما يميّز القصة القصيرة جدًا هي القفلة الجيدة التي تميل إلى الرّمزية في مقابل القفلة الإخباريّة التّقريريّة التي تفتقد عنصري المفاجأة والتّأمل، ومن القفلات المفاجئة الرّمزية ما رأيناه عند سمية تكجي في قصّتها “الشّوك ..ملك) فهي تترك المتلقي أن يكتشف ما أرادته من منح الشّوك تاج السّلطان، وما هذا الشّوك كما رأيته إلّا ما ارتضيناه نحن من حكام فاسدين بعد أن ارتضينا الطائفية والتّقوقع ضمن انتماءاتنا ومذاهبنا. أو كما رأيناه في قصة (الأرض تموت) لميشلين خليفة فقفلتها تنفتح على دلالات متعدّدة، منها أنّ الإنسان من الأرض وإلى الأرض يعود فلا بدّ من الحفاظ على ما نقدّمه لها، وإن كانت إشارتها إلى السّموم بامرأة تسعينيّة التي قد تحمل خبرة السنين أو قهرها أو وجعها.

ومن القفلات الرّمزية ما جاء عند محمد اقبال حرب في قصته (خيوط العنكبوت) التي جاءت مكثّفة معبّرة عن اهتمامنا بالمظاهر، وإذا أخذنا البعد الدّلالي لكلمة (لم يصل) فنرى إنّها دلالة على مدّعي الدّين، فلن تكون النتيجة إلّا سيطرة خيوط العنكبوت بما تحمله من دلالة على التّخلّف والجمود.

أمّا الكتابة وفق أسلوب التّناقض المفاهيمي، فقد تحقّق عند محمد اقبال حرب في قصة شكر، والمفارقة بين موقف الطير والإنسان ليشير الكاتب إلى الطّبيعة البشريّة، أو قصة السيدة في مقتبل العمر لسمية تكجي ففيها إشارة إلى الأثر الذي يبقى ولا يندثر وإن انتهى الموقف.

وللإحاطة بما يتعلّق بالقصة القصيرة جدًا علينا البحث بتقنياتها وأركانها، وهو ما لا يسمح له الوقت والمجال، واسمحوا لي أن أدعوكم إلى متابعة الزّاوية الأسبوعية لملتقى الأدب الوجيز في جريدة البناء، حيث سيكون لنا وقفات في قراءات لقصص قصيرة جدًا.

***

(*) ألقيت في الأمسية القصصية الموسيقية “عودة طائر الفينيق” التي شارك فيها الأدباء: سمية تكجي، محمد إقبال حرب، مشلين بطرس، موسيقى مع العازف أمير عيسى، تقديم الإعلامية منال الربيعي. 

(*) الصورة الرئيسية: د. درية فرحات متوسطة الأدباء: سمية تكجي محمد إقبال حرب ومشلين بطرس

(Ambien)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *