رُمُوزٌ أَدَبِيَّة وإبداعيّة في “أَدِيب” طه حسين

Views: 1771

د. محمّد محمّد خطّابي* (مدريد – إسبانيا)

-2-

( تابع للقسم الأوّل من هذه الدراسة عن واحدٍ من أهمّ كتب الدكتور طه حسين التي تفضّلت بنشرها مشكورةً مجلةAleph-Lam الزّاهرة بتاريخ September 1, 2019 تحت عنوان : “أَدِيب” لعميد الأدب العربي د طه حسين… بين السِّيرَةٌ الذَاتِيَّة وفنيّة القصّة”):

إننا إذا حكمنا على أيّ عمل أدبيبالنظرة الخاطفة، أيّ على صورته الظاهرة فلابدّ أننا غافلون – لا محالة – عن جوانب هامّة تختفي وراء هذا الظاهر، ولكي نبدّد هذا الضّباب دعنا نلقي بعضاً من الأسئلة التي تنبثق من خلال العمل الأدبي نفسه، منها: لماذا مدّد الأديب إقامته في مرسيليا أياماّ أخرى وهو قاصد باريس؟ لماذا يعترف لنا بتوقّد عاطفته بسهولة وبسرعة نحو فتاة تعمل خادماً في الفندق الذي نزل به؟ لماذا أباح لنفسه شربَ الخمر والنبيذ المعّتّق بهذه السّرعة المذهلة أي إثر وصوله من القاهرة، وهو الشيخ الأزهريّ التقيّ النقيّ؟

جَفْوَتُه لِحَيَاة التّعَاسَة وَالبُّؤْس!

إننا إذا حكمنا على أيّ عمل أدبي بالنظرة الخاطفة، أيّ على صورته الظاهرة فلابدّ أنّنا غافلون – لا محالة – عن جوانب هامّة تختفي وراء هذا الظاهر، ولكي نبدّد هذا الضّباب دعنا نلقي بعضاً من الأسئلة التي تنبثق من خلال هذا العمل الأدبي نفسه، منها: لماذا مدّد “الأديب” إقامته في مرسيليا أياماّ أخرى وهو قاصد باريس؟ لماذا يعترف لنا بتوقّد عاطفته بسهولة وبسرعة نحو فتاة تعمل خادماً في الفندق الذي نزل به؟ لماذا أباح لنفسه شربَ الخمر والنبيذ المعّتّق بهذه السّرعة المذهلة أي إثر وصوله من القاهرة، وهو الشيخ الأزهريّ التقيّ النقيّ؟، ماذا نحن واجدونإذن من رموز، وإشارات، وإيماءات أدبية بين دفّتيْ كتاب ” أديب” للمرحوم الدّكتور طه حسين…؟

هذه التساؤلات تبدو بديهية لأوّل وهلة، غير أننا إذا تعمّقناها لألفيناها عكس ذلك، “فأديب ” هذا الذي نزل كما ينزل عامة الناس في فندقٍ من فنادق مرسيليا ليقضي ليلة أو بعضها ثم يواصل طريقه إلى باريس، كيف حدث له أن هام حبّاً بأوّل فتاة يلتقي بها وهي خادمة الفندق “فرنند” ؟! هل كان محروماً من الجنس اللطيف أثناء إقامته في القاهرة ؟ أم هي صورة منصور جنونه وخلاعته كما فسّرها بعض النقاد؟ الحقيقة لسيت هذه ولا تلك، ذلك أنّ طه حسين على الرّغم من أنه أورد في هذا الكتاب أنّه كان متزوّجاً، فإنّ الحقيقة تتعارض وهذا القول، ذلك أنه ليس هناك ما يثبت تاريخياً أنّ طه حسين كان متزوّجا قبل سفره إلى فرنسا، وما إشارته إلى تطليق زوجته “حميدة” سوى رمز إلى جفوته لنساء مصر اللاّئي كنّ يمثّلن في نظره في ذلك العهد صورة من صور الرّجعية والتأخر والجهل، ويتأكد لنا هذا الرّمز، ويتجلّى بشكل أكثر وضوحاً بالمقابل في إقباله المنقطع النظير على الحياة العصرية الجديدة في فرنسا، فما أن وطئت قدماه مرسيليا حتى أقبل على شرب الخمر بشراهة، كماتمثّل في إقامته علاقة حبّ محمومة مع فتاة الفندق “فرنند” هذا الإقبال، وهذا الشّره، وهذا الإنفتاح، وهذا الإنغماس في الوسط الجديد، إن هوفي الواقع إلاّ تفسير، أو كناية عن الشّوق الذي كان يعتمل في نفس طه حسين منذ كان في القرية في مصر، كما أنه يفسّر طموحه نحو حياة أفضل وعالم جديد، وتعطشه لحياة راقية حافلة بشتى أسباب النّعم والبذخ، ففي شربه المفرط، وإقباله على الحياة الجديدة بهذا النّهم كأنّما كان “يشرب” الحياة التي طالما تاقت نفسُه إليها، كما أنّ في طلاقه من زوجته بهذا المعنى ليس سوى ” تطليق” لحياة التعاسة والبؤس التي كان يحياها على مضض في مصر في ذلك الإبّان .

شَرَابُ الأخْطل!

“ولكني على كل حال، قد دخلتُ النومَ حماراً وخرجتُ منه إنساناً يحسّ ويشعر ويتصل ويتذوّق الجمال، ويعرف كيف يستمتع بسحر العيون، أصبحتُ إنساناً، وتذكّرتُ قصّةَ الأخطل فعفتُ شرابَ الحمار، وآليتُ ألا أروي الظمأ إلاّ بمثل ما رواه الأخطل”، فكأنّما صاحبنا وجد ” إنسانيته” في فرنسا حيث بدأ ” يُحسّ ويَشعر ويتصل ويتذوّق الجمال! ولنتمعّن معاً هذه العبارة “لعلك تنكر أيّها الصّديق إقبالي على الشّراب خالياً، وعلى الشراب بعد أن كذب الظنّ، وخاب الأمل، ولكن ما رأيك في أن كذب الظنّ وخيبىة الأمل هما اللذان دفعاني إلى الشّراب دفعاً، فقد أبيتُ أن أذعنَ لمكر الأقدار، وغدر الظروف، وأقسمتُ ألاّ أتذوّق النومَ حتّى أرى وجههَ هذه الفتاة المشرق ثغرُها”.

هذا التطوّر السّريع المفاجئ الذي طرأ على صاحبنا أو أديبنا إثر وصوله إلى مرسيليا،وقبل أن يتغلغل في الحياة الجديدة الصّاخبة لا ينبغي لنا إغفاله، بل لابدّ من الوقوف عنده لنتعرّف على دلالاته وأبعاده،إنه لمن الخير أن نترك أديبنا يسائل نفسَه بنفسه :” كيف إنتقلتُ من طوْر إلى طوْر،وكيف تغيّرتُ من حالٍ إلى حال،إنّني لفي حيرةٍ لا أعرف لها حدّاً،ولكنّني مع ذلك كلِّه راضٍ على نفسي بعض الرّضى،بل كلّ الرّضى”.

لقد أعلنها صراحة ً،إنه راضٍ على نفسه كلّ الرّضى، وقد وجد راحةَ البال وإطمئنانَ الخاطر،وهوالآن في بلدٍ كلّه نعومة وظرف ولين..ألا تنتظره إلين..؟! يسوق لنا طه حسين هذا الصّراع الداخلي في أسلوب سلس شيّق شفّاف يتضمّن أفكاراً ورموزاً هامّة تُفصح عن نفسية المؤلف،وتصوّر الصراعَ الذي كان يعيشه في تلك الفترة من حياته، ولن تتضح لنا هذه الأفكار، ولن تنكشف هذه الرموز ما لم نتتبّع بتؤدة وتانٍ كلّ سطر من أسطر هذا الكتاب.

بديهي أنّه ليس في إمكان الجميع إستكناه المعنى الكامن في هذا العمل أو ذاك، فقد يختلف القرّاء في الحكم على عملٍ، ولكنّ قيمته الحقيقية لا تُمسّ بأذىً، وكم من أدبٍ نال من الطعن، والقدح الشيء الكثير، ولكنه تبيّن مع ذلك أنّه أدب قيم وجيّد وباقٍ، لذا لا ينبغي الإسراع في الحُكم على عملٍ ما لم نتفحصه جّيدا، ونبذل فيه من الجهد والكدّ ما هو قمين به، بعد ذلك يجوز لنا التساؤل على هذا المنوال: أين تكمنُقيمة “أديب” من حيث البناء الفنّي؟

إنّ طه حسين ليس ممهندساً بارعاً أو هو كذلك ! ولكنّه لا يريد أن يبني أو يخطط، إنّه لا يعبأ بالوشي، والتنميق للوجه الخارجي للعمل بقدر ما يهمّه ما بداخله من كنوز حتى إذا خالفه الكثير في هذا الصّنيع، إنه لم يقدّم قصّته أو تجربته “أديب” هذا في عملٍ روائيّ متسلسل مُحكم البناء، له بداية ووسط ونهاية وإنما قدّمه لنا بوسيلة أقل تعقيداً في نظره، فعمد إلى الإسترسال في الكتابة على سجيّته دون قيد من أيّ نوع، إنّ صدق هذا الإدّعاء جاء تلبية لرغبة في النّفس الغارقة في نشوة الفكر والذكرى أثناء كتابته لهذا العمل أو إملائه، لقد جعل طه حسين من “الوسط” بدءاً، ولكن يبدو أنّ هذا لا يهمّهفي شيء بقدر ما يهمّه الإخبار أو الإسترسال في سرد هذه الأخبار عن صديقه ( عن نفسه)الأديب وعن مغامراته الطريفة في مصر وفرنسا.

وفيما يتعلّق بالجانب الفنّي، فالحقّ أنّ طه حسين ليس بارعاً في هذا المضمار، ولقد أوضحتُ من قبل أسبابَ ذلك وقلتُ إنّ دراساته النقدية، والتحليلية تسمو كثيراً فوق هذه القصّة أو غيرها من أعماله القصصية الأخرى بإستثناء “الأيام” لعوامل متعدّدة منهاكما تقدّمأنّ طه حسين لا يهمّه البناء بقدر ما يهمه الإخبار، إن صحّ هذا التعبير، وهو لا يعنيه أَرَضِيَ قارئُه أم لم يرض، والبناء الفنّي عنده، أو التكنيك ليس أمراً ذا أهميّة كما هو ملموس في مختلف أعماله القصصية، وفي هذه الحال لا مجال للمقارنة بين هذا البناء لدى طه حسين وبين غيره من كتّابنا الذين برعوا في هذا الفنّ، وعُرفوا به، أعني به الفنّ الروائي، أمثال توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، على سبيل المثال وليس الحصر، ولكن، على الرّغم من هذا التكنيك المهلهل، والبناء المخلخل فإنّ أيَّ سطرٍ يكتبه طه حسين لهو جدير بالقراءة، والإهتمام لأنه أبداً حافل بالمتعة، زاخر بالعلم، والحِكَم، والطلاوة والسّحر. وماذا عن النواحي التاريخية والإجتماعية في هذاالعمل.؟

جدير بناأن نلقي نظرة عجلى على بعض النواحي التاريخية والإجتماعية والبيئية في هذا العمل وغيرها من الجوانب التي أغفلت من طرف الكثيرين على الرّغممن تعرّضهم لهذا المؤلَّف. “فأديب” إن هو في الواقع إلاّ إمتداد “للأيام”، وطه حسين يقصّ علينا هنا شطراً من حياته عاشه بعد أن إنتقل إلى القاهرة، ثم باريس بعد أن غادر القرية التي نشأ وترعرع فيها، ففي الجزء الأوّل من ” الأيّام” – كما يقول مترجماه إلى اللغة الفرنسية ” Jean Lecerf et Gaston Wietإنّه يحكي لنا أعوامه الأولى من طفولته، حتىّ الثالثة من عمره،إنها قصّة هادئة وبسيطة،ولكنّها مؤثّرة غاية التأثير، إنها محاولة لإكتشاف العالم الخارجي الذي كان يعيش في كنفه الطفل طه”.

وأمّا في الجزء الثاني من “الأيام” فإننا نجد “الإبن الصّغير، الإبن الضحيّة الذي لم يجد كبيرَ عناية ممّن كانوا يعيشون حوله، والذي فقد النظر منذ أعوامه الأولى، هذه المواقف المؤثّرة تفجّر فينا شحنةً من الإنفعال لا يقف عندحدّ “. وإذا كان هذا هو حال طه حسين في كتابه “الأيام” في جزئيه الأوّل والثاني، فإنّ “أديب” لا يسمو إلى مرتبة “الأيام”.

طه حسين

هَجْرُهُ لِلأَزْهَر وَالأَزْهَرِييِّن

إنّنا نجد طه حسينيصل إلى القاهرة ويختلف إلى الأزهر الشريف، ويطلعنا عمّا يدور فيه من شؤون، ويحكي لنا كيف تركه غاضباً غير راضٍ عنه، وينتقل بعد ذلك إلى الجامعة العصرية مع صاحبه الأديب! فيصف لنا الحياة في هذه الجامعة التي كانت حديثة العهد، ويصوّر لنا تلك الحقبة التاريخية أصدقّ تصوير،أضف إلى ذلك وصفه للأزهر وللأزهرييّن حيث أعلن طه حسين بجرأة وحزم ثورته عليهم .. “إذن فأيّ فرق بيني وبين هذا الشّيخ العتيق الذي كان يعرض بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فيتغنّى في بعض دروسه بهذه الجملة التي شاعت والتي كنّا نتندّر بها ونضحك منها، وكنت أنا أشدّ الناس تندّراً بها:” ومن ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق، كذلك قال الشيخ وبذلك كنا نتندّر في الأزهر، ومن ذلك كنّا نضحك في أنديتنا الحرّة التي كان الأزهريّون يرونها أندية إبتداع وضلال” !.

يُضاف إلى هذه السّخرية التي تصوّر مقدار ما وصل إليه بعضُ الازهرييّن من التزمّت والإنغلاق، وصف المؤلّف الشيّق عندما كان في باريس عن أخطار الحرب، والهلع الذي سبّبه النازيّون في أوربّا، وخوفه من الدمار والقضاء على أروع ما أنتجته العبقرية الإنسانية من إبداع في الفنون،وروائع الأدب، فقد أفاض المؤلّف في وصف تلك الفترة وصفاً ودقيقاً.

إنّ كتاب “أديب” لا يصوّر حياة أفراد بعينهم، بقدر ما يلقي الضوءَ على حياة فرد واحد، وهو أديب، لذا فقد خلا الكتابُ من قيم ذات بال تتعلق بالنّواحي الإجتماية إلاّ القليل مثل إشاراته لحياة البؤس، وشظف العيش، وقلّة ذات اليد، والظروف القاسية التي كان يعيش عليها المصريّون في البوادي على وجه الخصوص، كما نقلفي الكتاب بعضَ مظاهر الحياة العامّة المحافظة في مصر، بالقياس إلى الحياة المتحرّرة في فرنسا فقدّم لنا وسطين متباينين.

وإذا لم يصل طه حسين في هذا الكتاب المستوى الفنّي الذي بلغه في كتبه الأخرى، فإنّنا واجدون فيه مقابل ذلك كثيراً من الجوانب المُشرقة منها الأسلوب الذي عُرف به طه حسين،إنك لتشعر بحقّ وأنت تقرأ الكتاب أنك أمام كاتب ليس كباقي الكتّاب لأنّ مقدرته البيانية الهائلة المتّسمة بالسّهولة واليُسر والوضوح يضفي على هذا الكتاب قيمة أدبية هامّة، إنك لا تجد نفسك أمام تعقيدات في اللفظ، أو إخلال في المعنى، بل أمام أسلوب هادئ، وعبارات رشيقة، أمام سهولةٍ لا تسفّ، وعمقٍ لا يجارَى، ولقد سبق لكثير ممّن درسوا طه حسين وتتبّعوا أعماله أن لاحظوا هذه الظاهرة في كتاباته، ليس فقط في أعماله القصصية وحسب، بل حتى في أعماله النقدية، والتحليلية كذلك التي أخرجها منذ بداية عنايته بشؤون الأدب، والنقد، والإصلاح. هذه البساطة في التعبير لا تتأتىّ عفواً وإنّما تأتي بعد طول عناء ومران، وما إختلاف أساليب كبار الكتّاب في مختلف العصور، وتفرّد بعضهم بأسلوب مميّز إلاّ الدليل القاطع على صدق هذه الملاحظة، كما يرى بعضُ النقاد أنّ الكاتب لا يُعَدّ كاتباً حقّاً ما لم يأتِ بأسلوب جديد يميّزه عن غيره من الكتّاب الآخرين، والدكتور طه حسين واحد ممّن كان لهم أسلوب ممّيز قائم الذّات .

وتأثير الكاتب في هذا الكتاب بما درسه من علم أو معرفة أو أدب واضح للعيان، فهو تارةً ينقلنا معه في رحلة شّيقة عبر الأدب العربي، وطوراًينهل من مَعين الآداب اليونانية، ومرّة ثالثة يستشهد بالآداب الغربية، وهكذا. ويمكننا أن نضرب أمثلة سريعة لذلك بما يلي: يقول في حوار له مع صاحبه بعد طول نقاش: “إنني من أنصار الحُسن الطبيعي الذي لا يُجتلب، ولا يشترى، هذا الحُسن الذي تحدّث عنه المتنبّي أتذكر بيته؟ إنّه مشهور: حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ…وفي البداوة حُسْنٌ غيرُ مَجلوب. وهكذا نلتقي بين صفحة وأخرى بيت أو ببيتين مشهورين، أو حكاية عربية طريفة أو نظرة نقدية رائعة.. ويظهر تأثيره بالأدب اليوناني بشكلٍ جليّ في هذا الكتاب عند وصفه للنّهر: “إنّها لجميلة حين تتقدّم في رشاقةٍ وخفّةٍ بما تحمل من زهرٍ وتمرٍ وورقٍ نضرٍ، وأغصانٍ لدنةٍ إلى القناة، كأنّها تريد أن تهدي هذا كلّه إلى هذا الماء حين يجري فيها قويّاً هادئاً موفور النشاط كأنه إله شاب من آلهة الاساطير”، هذا التشبيه يكاد لا يوجد له نظير في العربية بقدر ما هو موجوود في الآداب اليونانية، وأما تأثير المؤلف بالثقافة الفرنسية فأمر لا يحتاج إلى دليل لأنه بيّن أيضاً في العديد من صفحات هذا الكتاب، أو سواه ممّا ألف طه حسين، نخصّ منها بالذّكر كتابه” صوت باريس”. وهناك أوصاف وتعابير أخرى في الكتاب قد يعجز عن تصويرها المبصرون.

Gaston Wiet

“أديب” بلغة مُوليير

غير أنّنا واجدون في هذا الكتاب بعض الصّور المكرّرة، والإستطرادات المملّة، ولنضرب لذلك مثلاً سريعاً يقول: ” ولم أكد أسمع هذه الجملة حتى إنحنيتُ إلى حذائي أريد خلعه”.. وهكذا يمضي في الحديث عن الشّيخ، والدّرب الأحمر، وعن أحذية الشيوخ، والأفندية وسواهم، ثم يعود إلى قوله الأوّل ساعة أن طلب منه صاحبُه أنْ إخلع نعليك، فيقول: ” فلا أجد إذن غرابة في أن يطلب منيّ صاحبي أن أخلع نعلي حين بلغنا غرفته هذه”.! ويتجلّى لنا هذا الإستطراد عند حديثه عن ذكريات الشيخين، والنخلتين، والقناه في الرّيف..إلخ بالإضافة إلى إستطرادات أخرى، غير أننا إذا وضعنا في الإعتبار مدى ما كان يجده طه حسين من متعةٍ عند حديثه عن هذه الذكريات قَبِلنا منه هذا الأسلوب،بل ربما غدا أسلوباً جميلاً،وممتعاً في أعيننا!

وكما تُرجِم الجزءُ الأوّل من “الأيام” إلى الفرنسية سنة 1934 على يد المستشرق الفرنسيJean Le Cerfوكذلك الجزء الثاني منه على يد المستشرق الفرنسي Gaston Wiet فقد تُرجم أيضا كتابُه أديب عام 1960والذي قام بترجمته إلى الفرنسية هما نجلا الكاتب أمينة ومؤنس طه حسين. وقد وضعا لهفي الفرنسية العنوان التالي: “Adib ou L’AventureOccidentale ,Dar el MaarifLe Caire1960.، وقد جاءت ترجمتهما لهذا الكتاب سهلة ومبسّطة غير أنّهما أسقطا من الترجمة مقدّمة الكتاب الأصلي أو الإهداء الذي تصدّر الكتاب، وكان حريّاً بهما أن يثبتاه لأنه يلقي بعض الأضواء على الكتاب نفسه، جاء في هذه المقدّمة مثلا:”كنتُ اوّلَ المعزّين له حين أخرجه الجور من الجامعة، وأوّلَ المهنّئين له حين ردّه العدلُ إليها”. فطه حسين هنا إنّما يعزّي، ويهنّئ نفسَه بنفسه، لأنّه هو الذي أخرجه الجورُ من الجامعة، وهو الذي ردّه العدلُ إليها !.

ويشير الباحث جميل حمداوي: ” إن” أديب” لطه حسين رواية فنية تعتمد على التخييل، والالتفات، والتشويق، والإستطراد، والإهتمام بنصاعة البيان وبلاغة التصوير؛ وهذا ما يجعل طه حسين من رواد المدرسة البيانية في الأدب العربي الحديث. كما أنّ هذه السيرة إدانة لجيل من المثقفين العرب الذين قصدوا أوربّا بحثاً عن العلم وإستكمالاً لدراساتهم العليا، فانبهروا بحضارة الغرب، ولكنّهم بدلاً من أن يستفيدوا من العلوم والمعارف والآداب سقطوا في الغواية والرذيلة وفتنة الخطيئة. وبالتالي، فرطوا في أعزّ ما يملكون من قيم، وفي كلّ ما يمتّ بصلةٍ إلى الشّرق”.

هذا ما قصدنا إليه في هذه الدّراسة بجزئيهْا التي سلّطت الضوءَ على بعض رموز هذا المؤلَّف، وعلى جوانب أُخرى لم يتفطن لها بعض الدّارسين لطه حسين في هذا الكتاب الذي إتّضح لنا أنّه لا يسمو إلى بعض أعماله الأخرى، وتبيّن لنا أنّ طه حسين إنّما كان يُترجِم لنفسه في هذا الكتاب بطريقة غير مباشرة، لم تتخذ صبغة التراجم أو السّير الذاتية المعروفة،وإنّما توارت وراء قوالب فنية معّينة. ورأينا كيف أنّ “أديب” يقترن بأهمّ كتب طه حسين وهو كتابه “الأيام” إلاّ أنّه لم يرقَ إلى مستواه، ولا إلى أعماله الأخرى مثل دراساته النقدية، والأدبية، والتحليلية، والتاريخية المشهورة.

****

(*) كاتب،وباحث، ومترجم من المغرب/ عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا – (كولومبيا) .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *