رينيه ديكارت… أبو الفلسفة الحديثة

Views: 632

وفيق غريزي

 

عرف القرن السادس عشر بالثائر المجدد، فقد تجسدت في عباقرته روح النقد البناء، وحب الاصلاح والتقدم المستمر. وكل هذا يعود الى خمسة حوادث تمثل انتفاضة اخرجت الانسان وحررته من بوتقة التقاليد التي كانت تحول دون السير الفكري لسبر اغوار الحقيقة والسير نحوها، وهذه الحوادث او العوامل هي:

1 -اكتشاف الطباعة التي نشرت العلم.

2- سقوط القسطنطينية على ايدي الاتراك ما حمل الاغارقة على الهرب الى ايطاليا وعمموا فيها الفلسفة.

3-اكتشاف العالم الجديد (اميركا) عام 1492 وطريق الهند عام 1498.

4 – الاكتشافات العلمية: فقد عمم الجبر، وقانون سقوط الاجسام، وهذا ما اضعف سيطرت الخرافات على العقل البشري.

5 – ظهور حركة الاصلاح الديني على ايدي مارتن لوثر  وكالفن.

وقد نال العقل قصب الفوز في القرن السادس عشر، وكان ابطال هذا العصر ثلاثة من رجال العلم والفلسفة وهم: بيكون، غاليله، ورينيه ديكارت. فبيكون هو القائل بضرورة الاستناد الى الملاحظة والاختبار، فبقي نظريا اكثر منه عمليا، ولذلك لم يكتشف. أما غاليله فلم

 يترك هذا النقص، فحصر جميع نشاطاته في الحقل العملي، وسمي ابو العلم الاختباري، فكان عمليا اكثر منه نظريا.

 ثم جاء ديكارت ووقف بين ما قصر به بيكون وهو الاختبار، وما قصر به غاليله وهو النظرية، ولذا سمي “ابو الفلسفة الحديثة”.

 

تلميذ نموذجي

ولد رينيه ديكارت في 22 آذار عام 1566 في مدينة لاهاي المعروفة اليوم بـ “لاهاي ديكارت”، عمدته كنيسة سان جورج التي لا تزال قائمة حتى اليوم، في 3 نيسان.

والده يواكيم ديكارت احد النبلاء ومستشار الملك في مجلس بريتانيا، والدته حنة بروشار. كان لرينيه ديكارت أخ اسمه بطرس واخت اسمها حنة. عاش رينيه فيلسوفا محروما حنان الأمومة بعد ايام قليلة من ولادته، بسبب مرض السل الذي اصاب رئتي الأم، وهذا المرض اورثته لابنها رينيه بعد موتها. ولهذا قال: “ورثت عن والدتي سعالا جافا ولونًا باهتا، احتفظت بهما حتى سنتي العشرين، ما جعل الاطباء الذين عاينوني قبل هذه السن يحكمون علي بالموت في ريعان الصبا”.

دخل رينيه ديكارت في الثامنة من عمره مدرسة “لافيش” التي اسسها الملك هنري الرابع، وكان تلميذا نموذجيا، وحين انتقل من دراسة الأداب الى دراسة المنطق والطبيعة والميتافيزيقا، سرعان ما اصيبت اماله بالفشل، جراء طرائق التعليم، وغموض المذاهب، بعد ذلك انصرف الى درس الرياضيات بحماسة شديدة، واهتم بالمعتقدات السرية التي كانت شائعة في ذلك العصر بفضل رعاية ملكة فرنسا ماري دي مديتشي زوجة هنري الرابع. في عام 1613 ترك المدرسة بعدما تعلم اللاتينية والرياضيات بصورة عامة. ثم ذهب الى بواتييه لدراسة الحقوق وحاز شهادة البكالوريوس ثم الليسانس، وفي الوقت نفسه قام ببعض الدراسات الطبية، ثم انتقل الى باريس وانخرط في سلك الجندية، ولكن معاشرته لعامة الناس، والانغماس بالملذات واللهو حمل نفسه احمالا ثقيلة، وفي العشرين من عمره انخرط في جيش الأمير موريس دي ناسو وقضى معظم حياته بالتنقلات والجولات والانخراط في الجندية. وعام 1649 دعته ملكة أسوج ليعلمها مبادىء الفلسفة، فلبى الدعوة بعد تردد.

 من عاداته انه من محبي النوم، بعد ان يستيقظ يبقى ساعات في التأمل مع نفسه. بقي في استوكهولم حتى اصيب باحتقان رئوي ومات في 11  شباط 1650،  ودفن في مقبرة الاجانب. ولكن في العام 1667 نقلت رفاته الى فرنسا واودع في احتفال جليل في كنيسة جنفياف دي مونت، وفي العام 1799 صدر أمر بنبش رفاته واودعت في متحف الاضرحة الفرنسي مع الذين يمثلون امجاد فرنسا.

يذكر ان رينيه ديكارت كان أول من طالب بحقوق العقل البشري، وقد ترك من اثاره الفلسفية: “مقال في المنهج – التاملات – القواعد لهداية العقل – ومبادىء الفلسفة الخ … “.

منزل-متحف ديكارت 

 

الشك طريق اليقين

لقد شك ديكارت بكل شيء: في نفسه، وفي الله، وفي الحواس، والعالم، وفي الاراء القديمة. ولكن شكه منهجي، وليس شكا يقينيا خارجا من القلب، كان شكّه طريقا الى الحقيقة واليقين، لا الشك الحقيقي يبلغ الحقيقة جلية لا تشوبها شائبة، كفر وصوم، فقد اتبع الشك حتى يبلغ الحقيقة، وبرهان على ذلك، أن كل ما شك به آمن به اخيرا.

بدأ شكه أولا بالحواس فقال: “إن الابراج نراها اسطوانية عن بعد، وعندما نقترب نراها مربعة، ففي هذا تكون الحواس قد خدعتنا ولم تعطنا الحقيقة”. وقدّم لنا مثالا آخر عن خداع الحواس هو: “اذا وضعنا قضيبا مستقيما من الحديد في دلو من الماء ترينا اياه الحواس والعين التي نرى بها انه منحن بعكس الحقيقة تماما”.

وبقي ديكارت يشك ويزداد شكا يومًا بعد يوم الى أن رسا على صخرة “أنا أفكر، إذن أنا موجود” وهي التي اصبحت في ما بعد حجر الزاوية في بناء صرح فلسفته المبنية على العقل، العقل الانساني: يقول في مقالته: “فلما رأيت الحقيقة، انا افكر اذن انا موجود، التي هي من الرسوخ بحيث لا تتزعزع ابدًا، ولا تزعزها افتراضات اعظم الشكاكين مهما كان فيها من شطط، حكمت بأنني استطيع ان اتخذها مبدأ اوليا للفلسفة التي كنت ابحث عنها …”. ولكنه لم يستطع ان يشك في انه يشك، انا اشك، اذن انا افكر، وانا افكر، اذن انا موجود، فعندما اكون موجودا بالتوضيح والتمييز والفكر “من سبب وجودي؟” لست انا علة وجودي بالطبع، لأنني ناقص، فلذلك ضروري أن يكون هناك اله كامل هو علة وجودي: “انا اذا موجود، فالله موجود، وفي وجود الله وجود العالم لان الله لم يخلقني وحيدا، يعني في ذلك أن الله علة لوجود العالم والاشياء والحيوانات”.

 الى هنا ينتهي شك ديكارت، فقد رأينا كيف شك بالله والعالم، وذلك يعود لتخوفه من البلبلة السائدة في الاحكام، ولأنه كان يبتغي ان يبني احكامه على صخرة لا تتزعزع، وحقيقة لا تقبل الجدل، وبعدها نشط الى العمل في سبيل تقويم الاعوجاج، وكان بدء مشروعه الى وضع المنهج، مستمدا اياه من الروح الرياضية،لأن الرياضيات هي العلوم الوحيدة التي يتفق جميع الناس وجميع العقول على صحة قولها. فعلى هذه الصخرة “انا افكر، اذن انا موجود” والتي نقضها الفيلسوف الالماني المعاصر مارتن هايدغر بقوله: “انا موجود، اذن انا افكر”. على صخرته تنفس ديكارت الصعداء، وخف لاستشراف اعالي الحقيقة. وقد رفع بناء ضخما ذا ثلاثة اجنحة: الاول خاص بالنفس، والثاني خاص بالله، والثالث خاص بالمادة، وجعل ركائز منهجه اربع قواعد بمثابة دستور لفلسفته وبلوغه الحقيقة..

 

النفس

الكوجيتو -الصخرة “انا افكر، اذن انا موجود”: ان الوجود في انا افكر ليس جديرا الا بالنفس، والوجود الجدير بالنفس هو الفكر باوضح معانيه، الفكر لا ينصرم بتصرم الزمان. ان الحالات النفسية من فرح وسرور، وحزن وكآبة وغيرها بحاجة الى الفكر، هي تشرق تغيب، وهذا دليل على انها طارئة، لان خاصية الطارىء ان يعبر، لذا لا تستحق صفة الوجود الاصيل. إن الوجود الحق هو الذي يوجد على الدوام، ومن هنا كان الفكر، الذي لا ينقطع عن ان يفكر، هو الكفالة لكل حالة في النفس. قال ديكارت: “بديهي كل البداهة، انني انا الذي اشك، وانا الذي ارغب، وانا الذي افهم ولا حاجة الى شيء آخر يزيدني ايضاحا. ومن المحقق كذلك، انني قادر على التخيل، رغم القول إن لا شيء مما اتخيل هو شيء حقيقي، لا تعري من الوجود فيً، ولا تنفك جزءا من فكري. واخيرا انا الشخص عينه الذي يحس، اي الذي يدرك اشياء معينة بواسطة الحواس، لانني ارى الواقع ضوءا واسمع دويا، واحس حرارة”.

اذن ما هي هذه النفس المفكرة؟ وبعبارة اوضح من هو الانسان؟ لا بد لنا من الرجوع قليلا الى الوراء. لنعرف الانسان وما هو؟ وما هي اقسامه؟

 جرى العرف قبل ديكارت ان يقسم الانسان الى ثلاث: الروح والنفس والجسد. ان عالم الروح هو عالم الثوابت اي (الشعور) وعالم الجسد هو عالم الزوال اي (الحساسية). جاء ديكارت وغيّر الاوضاع القائمة قبله، أي انه قسم الانسان الى نفس وجسد فقط، يختلف كل الاختلاف عن فلاسفة الاغريق وغيرهم من الفلاسفة. فبالنفس يحصل الفكر وهي خالدة وبالجسد يحصل الامتداد وهو فان، اذا الفكر في شرع ديكارت واقع اصيل في النفس..

 

الله والوجود

يتعثر ديكارت كثيرا في افكاره حول فكرة الكمال اللامتناهي، وقد استرعت انتباهه اكثر من غيرها، لأنها اكمل وضوحا وتميزا، هي البداهة في اسمى درجاتها، شبيهة ببداهة “انا افكر، اذن انا موجود”، وقد قال ديكارت في التأملات  (التأمل الرابع ما يأتي):

“حين اعتبر نفسي شاكًا، أي حين اعتبرني شيئا ناقصًا يعتمد على سواه، تعرض لذهني، بقوة في التمييز والوضوح، فكرة عن موجود كامل ومستقل عن غيره، اي فكرة الله. ووجود هذه الفكرة في نفسي او كوني انا، موجودا، يجعلني وحده استخلص الدليل على وجود الله، وعلى ان وجودي مستند اليه تماما في جميع لحظات حياتي، ولا اعتقد بأن النفس البشرية تستطيع أن تعرف شيئا ببداهة ويقين اكثر مما تعرف وجود الله “.

وبهذا اختلف ديكارت عن الفلاسفة السابقين كأرسطو على طلب الدليل من الكون لوجود الله، فقاعدة انتقال الفكر عند الاقدمين لمعرفة الله هي “انا -العالم- الله ” أي من الفكر الى الكون الى الله. اما ديكارت فدليله هو: انا-الله- العالم” أي من الفكر الى الله ومن الله الى العالم..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *