​أديب اسحق تنويريٌّ عَمل لوحدة العرب

Views: 154

د. كرم الحلو

رحلَ في العام 1885 قبل أن يكمل التاسعة والعشرين، لكنّ مروره في هذه الدنيا كان أشبه بالشهاب الساطع، فما تبوّأه من مَوقعٍ رياديّ في حركة النهضة العربيّة، وما قدّمه من إنجازات فكريّة وثقافيّة، يكاد المرء لا يصدِّق أنّه استطاع إنجازه في سنوات عمره القصير، حتّى أنّ الأديب الفرنسيّ الكبير فيكتور هيغو قال بعد أن التقاه في باريس: “هذا نابغة الشرق”.

على الرّغم من ذلك، لم يلقَ أديب اسحق ما يستحقّه من اهتمامات الباحثين في الفكر العربيّ الحديث، فلم يتناوله بالدراسة إلّا قلّة من هؤلاء، ولم تنشر مؤلّفاته إلّا استثناء. فمَن هو هذا الرائد وما موقعه في فكرنا النهضوي وفي حركة الحداثة العربيّة؟

وُلِد أديب اسحق في دمشق في العام 1856. تعلَّم العربيّة والفرنسيّة في مدرسة الآباء العازاريّين، ونبغ باكراً فنَظم الشعر قبل أن يتجاوز العاشرة. اضطرّ إلى مُغادَرة المدرسة ليعمل في الجمارك، ودأب خلال عمله على دراسة التركيّة حتّى ملكها؛ ثمّ انتقل من دمشق إلى بيروت لينغمس في جوّها الأدبي ويتعرّف إلى عدد من شعرائها وأدبائها. انضمّ في هذه المرحلة إلى جمعيّة “زهرة الآداب”، ثمّ تولّى رئاستها وكان يلقي الخطب والمُحاضرات والقصائد. كما عرَّب مسرحيّة “أندروماك” لراسّين، وشاركَ سليم النقّاش في تأليف بعض الروايات وفي تعريبها.

جاء القاهرة في العام 1876، حيث التقى الرائد النهضوي جمال الدّين الأفغاني، وانخرط في حلقته، فساعده على إصدار صحيفة “مصر” في القاهرة في العام 1877، ثمّ ما لبث أن نقلها إلى الإسكندريّة ليصدر معها بالتعاون مع سليم النقّاش صحيفة “التجارة” اليوميّة سنة 1878؛ وإذ حملت الصحيفتان على الأجانب، أُوقِفتا في العام 1879 واضطرّ أديب لمُغادَرة مصر إلى باريس، حيث أعاد إصدار صحيفته “مصر” كاتِباً في افتتاحيّتها: “هذه صحيفة مصر، طواها الاستبداد فماتت شهيدة ثمّ أحيتها الحريّة فعاشت سعيدة. ومقصدي أن أثير بقيّة الحميّة الشرقيّة وأهيّج فضالة الدمّ العربي، وأرفع الغشاوة عن أعيُن الساذجين، وأُحيي الغيرة في قلوب العارِفين، ليعلَم قومي أنّ لهم حقّاً مسلوباً فيلتمسوه، ومالاً منهوباً فيطلبوه، ويستميتوا في مُجاهَدة الذين يبيعون أبدانهم وأموالهم وأوطانهم إلى الأجانب. فمَن ماتَ دون دمّه فهو شهيد، ومَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتل دون أهله فهو شهيد. ومَن عاش بعد أولئك الشهداء فهو سعيد”.

أقامَ أديب اسحق في باريس علاقات مع بعض رجال الدولة، وكتبَ في الصحف الفرنسيّة عن الشرق، وحضر جلسات مجلس الأمّة. لكنّه أُصيب بالسلّ فقفل عائداً إلى بيروت، ليُغادرها مجدَّداً إلى مصر، حيث اختير سكرتيراً ثانياً لمجلس شورى النوّاب، ويُعيد إصدار صحيفته “مصر” التي تعطَّلت مجدّداً. فرجع إلى بيروت، وما لبث أن توفّي ورفضَ رجال الدّين الصلاة عليه. (newportworldresorts.com) لكنّ موته أحزنَ أدباء عصره، فرثاه الأفغاني بقوله في”العروة الوثقى”: “غالت نائبة الدهر طراز العرب وزهرة الأدب صفيّنا أديب اسحق”. وقال في رثائه الأديب إسكندر العازار :”كان، والله، فتى لا كالفِتيان، كان زهرة الأدب في الشام، وريحانة العرب في مصر، عاشَ ومات حرّ الضمير فكراً وقولاً وفعلاً، فليبكه ضمير الأحرار ولتندبه الحريّة”.

أديب اسحق القوميّ الإشكاليّ

اسحق من “أعمق كتّابنا صلة بالثورة الفرنسيّة ومبادىء مفكّريها” على حدّ تعبير رئيف خوري في كِتابه “الفكر العربي الحديث”. وهو على عكس الطهطاوي، الذي قدَّم صورة وصفيّة عن فرنسا بعد الثورة مُبدياً حَذَره من توجّهاتها العلمانيّة، يُشدِّد على تبنّي أفكار مفكّري الثورة وآرائهم، حيث نجد في كِتاباته اقتباسات واستشهادات من روسّو ومونتسكيو ولابروير وغيرهم، فضلاً عن إعادة إنتاج تصوّراتهم التنويريّة في الإصلاح والحريّة والعدل والعقد الاجتماعي، وإعلاء الرابطة القوميّة والوطنيّة، وتجاوُز العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والجهويّة. في هذا الإطار أهابَ إسحق بالعرب إلى الاتّحاد قبل فوات الأوان، مُقترحاً لهذه الغاية اجتماعاً عربيّاً منزَّهاً عن المَقاصد الدينيّة، منحصراً في العصبيّة الوطنيّة، مؤلَّفاً من أكثر النّحل العربيّة. إنّ مثل هذا الاجتماع في رأيه “يُزلزل الدنيا اضطّراباً، ويستميل الدول جذباً وإرهاباً، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون والحقوق التي يطلبون”. إلّا أنّ الباحث في فكر اسحق يرتبك إزاء توجّهاته ومَراميه الوطنيّة والقوميّة. فهل إنّ انتماءه العربي يتقدّم على انتمائه العثماني أو الشرقي، أو إنّ ثمّة وحدة وانسجاماً بين هذه الانتماءات؟ هل الأمّة التي يتكلّم عليها هي الأمّة العربيّة أو الأمة العثمانيّة؟ هل إنّ اللّغة واللّسان هُما مقوّما الأمّة العربيّة أو إنّ الأمّة تقوم على “عنصر محوري هو وحدة الجنس” المُراد بها، في رأيه “اتّفاق الجماعة على الاعتزاء إلى جنسٍ واحد” كالجنس الأميركاني لسكّان الولايات المتّحدة، والعثماني لسكّان البلاد العثمانيّة؟

ونرى أنّ إسحق يجمع بين توجّهاته الشرقيّة والعثمانيّة والقوميّة في وحدة تكامليّة، شأنه في ذلك، شأن النهضويّين العرب، إذا استثنينا عبد الرّحمن الكواكبي ورزق الله حسّون، فلم يكُن ثمّة تناقُض بين هذه التوجّهات في إمبراطوريّة عثمانيّة متعدّدة القوميّات والطوائف والإثنيّات. ولنا في دعوته إلى وحدة العرب واستعادة أمجادهم الغابرة مع الحرص على الرابطة العثمانيّة دليل على هذا الجمْع والتلاقي الذي عهدناه عند الشدياق والبستاني والمرّاش وأنطون.

اسحق الإصلاحيّ التنويريّ

انتهجَ اسحق خطّاً تنويريّاً إصلاحيّاً يُغلِّب الاعتدال على التطرُّف. وهو في ذلك سليل الفكر الإصلاحي العربي والمدرسة البورجوازيّة الفرنسيّة التي تؤثِر التطوّر التدريجي على الطفرة والعنف. فالحريّة عنده حريّة رأي وقول وانتخاب، وهي حقوق لكلٍّ منها حدّه “لو تعدّاه لكانت الحريّة فيه شرّاً من القَيد وأشنع من العبوديّة”. من هنا كان نقده لمآل الحريّة في الغرب” ففي حريّتهم استبداد واستعباد، وقد باتت عندهم اسماً بلا مسمّى”.

في هذا السياق عمد اسحق إلى التوفيق بين “الشورى” وليبراليّة الغرب، وذهب إلى إعادة إنتاج مقولة العقد الاجتماعي عند روسّو، إذ رأى أنّ “القانون الحقّ لا ينقض الحريّة ولا يُزيل الاستقلال، وشرط المشروعيّة فيه أن يكون موضوعه الحرص على حقوق الكلّ والحفظ لحقوق الفرد”. فالوطنيّ المَرعيّ الحقوق هو المأمور والآمر، والمحكوم والحاكِم، والمسود والسائد، والعامل بذاته ولذاته. وهكذا إذا كان الأمر شورى بين مواطنين أحرار، فالحُكم يُنفَّذ فيهم بهم “فهُم الآمرون في ما يأتمرون، وهُم الحاكمون في ما يطيعون”.

وثمّة تلازُم لدى اسحق بين الحريّة والمساواة، فلا حريّة مع الامتياز الذي يحظِّر على الجمْع ما يجوز لبعض الأفراد. أمّا حقيقة المساواة فأنْ “تكون الأحكام سواء على مَن هُم بالنّظر إليها سواء … لأنّ الناس سواء في حُكم الطبيعة، وقد أبدعتهم أحراراً لا يتعيّن لأحد منهم الخضوع للآخر، بل كلّ منهم يملك وجوده الذاتي ملكاً مُطلقاً” .

إلّا أنّ المساواة عند اسحق لا تعني محو الفوارق الطبقيّة بين الناس، وهو في ذلك يجري مجرى غالبيّة النهضويّين مُحتذياً بروسّو الذي لا يقصد بالمساواة سوى المساواة الحقوقيّة والسياسيّة، وتجريد النصوص الحكميّة من كلّ ما يجعل بعض الناس فوق بعض. من هذا المنظور دعا اسحق إلى المساواة الحقوقيّة بين الرجل والمرأة، وأيَّد الشورى والنظام الدستوري، إذ لا قوّة للحكومة “إلّا بالأمّة، ولا ثبات إلّا بالشورى، ولا سطوة إلّا بالحريّة، ولا سلطة إلّا بالمساواة”. ومع أنّه ألحَّ على الاستفادة من التمدُّن الغربي، لم يتوانَ عن رفض التدخّل الأجنبي، والدعوة إلى اتّحادٍ عربي “لا نقوم في ذلك بأمر فئة دون فئة، ولا نتعصَّب لمذهب دون مذهب. فنحن في الوطن إخوان تجمعنا جامعة اللّسان، فكلّنا وإن تعدَّدت الأفراد إنسان”.

بهذا تكتمل المَلامح المميِّزة لرائدٍ نهضويّ متنوّر مُلتزِم بنهضة الأمّة العربيّة وحريّتها واستقلالها وبتقدُّم الشرق عموماً. قضى سنوات عمره القصار مُجاهِداً من أجل وحدة العرب وعزّة الأمّة العربيّة في زمن كانت فيه لا تزال ترسف في ظلام القرون الوسطى. وقد كان لإسحق أثرٌ بيِّنٌ في أسلوب إنشائنا الأدبي برزَ عند جميع مَن كتبوا “المقالة” بَعده، ومن هؤلاء: جبران خليل جبران وعبد الرّحمن الكواكبي. وقد ذكره “الزعيم الخالد سعد زغلول في مقدّمة الذين تأثَّر بهم خطابيّاً”، كما يذكر مارون عبّود في “روّاد النهضة الحديثة”. ولعلّ في استعادة سيرة هذا الرائد وأفكاره التحرريّة ما يُحرِّض العرب على تجاوُز فواتهم التاريخي وانقساماتهم الرّاهنة .

****

(*) كاتِب ومؤرِّخ من لبنان.

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *