شعريَّة تجديد اللُّغة في نصِّ أغنية الأخوين رحباني

Views: 439

د. وجيه فانوس 

 

الشَّعر، وفاقًا للشَّاعر الإنكليزي صموئيل تايلركولريدج (1772-1834) Samuel Taylor Coleridge، هو نتاج الخيال الذي يعمل على موضوعات الحياة والطبيعة؛ ولإنه نشاط خياليٌّ، فإنه يصبح بمثابة نشاط مثاليً يسعى إلى يحقق المثل الأعلى. ويرى كولردج، بما أن الألوان هي فن الرسم، فإن الكلمات هي فن كتابة الشعر؛ ونظرًا لأن مجموعة الألوان تحدد نمط وجودة اللَّوحة التَّشكيليَّة، فإنَّ ترتيب الكلمات يعبِّر جمالياً عن لامشاعر والأفكار والرُّؤى ويقرر، من ثمَّ، نمط جودة الشعر؛ بيد أنَّ الكلمات المرتبة ضمن نمط الوزن والقافية لن تصنع، وحدها، الشّعر[1].

من المتعارف عليه، بين الباحثين في شؤون اللُّغة والمتعمّقين في مجالاتها، أنَّ عملانيَّة اللُّغة تنبني على أنَّها ألفاظ وكلمات وأصوات وتنغيمات ذات دلالات مصطلحيَّة متوافق عليها، ضمناً، بين مستخدمي هذه اللُّغة والعارفين بها. وفي هذا، بحدِّ ذاته، ما يفيد بأنَّ فاعليَّة اللُّغة، في جوهرها، تنهضُ على توافقٍ جمعيٍّ بين ناسها؛ وهذا التَّوافق يؤكِّد ضرورة التزام ناس اللُّغة به، وعدم مخالفتهم له أو انزياحهم عنه؛ إذ، في حال المخالفة أو الانزياح، تتعطَّل الدَّلالة أو تتشوَّه. ولكن، ومن جهة أخرى، فإنَّهُ عند تحقق “المخالفة” أو “الانزياح”، يحصل ثمَّة ما يشكِّل، عند متلقِّي اللُّغة، صدمة استغرابٍ، أو عدم فهم للدلالة التي يقترحها “الانزياح” الحاصل. يتأتَّى من هذه الحال، ما يمكن النَّظر إليه على أنَّه “الجديد”، غير المتوافق عليه بين ناس اللُّغة؛ وهو الأمرً الذي يمكن أن يقود إلى “إدهاش” المتلقِّي، وتالياً، إلى إدخاله في حالٍ من الوجودِ الشِّعريِّ المتأتِّي عن تفاعله مع ما يحصل من مخالفة للمتوافق عليه من اللُّغة أو انزياح عنه.

تحضراللُّغة الشِّعريَّة عبرفاعليَّة الانزياح؛إذ هي مخالفة استشرافيَّة، تعتمد الصَّدمة المبنيَّة على انزياحٍ دلاليٍّ يشير إلى رؤيا شِعريَّة. وتساهم، هذه الرؤيا الشعريَّة، بدورها، في تحقيق جماليَّة تلقٍّ، تقع خارج نطاق المتوافق عليه من دلالات اللُّغة، تدعو إلى إنشاء لتوافق جديد على دلالاتٍ لم تكن من قبل. ولئن كان هذا الحضور للُّغة الشِّعريَّة، يشكِّل خروجاً عن نمطيَّة اللُّغة المتوافق عليها جمعيَّاً؛ فإنَّ فيه ما يؤكِّد فاعليَّة”هدم”ما للُّغةِ، والعمل، من ثمَّ، على إعادة تشكيلهذه اللُّغة. والتَّشكيل “الجديد” للغة، هو ما قد يؤمِّن لمتلقِّيها مجالات من الشِّعريِّ القائم على إيحاءات جديدة وفاعليات، جماليَّة ومفهوميَّة، خارج المجالات البلاغية المعتادة؛ الأمر الذي يقود إلى انطلاق باللُّغة من الدَّلالات المعجميَّة التَّقليديَّة إلى دلالات معجميَّة جديدة.

يمكن، وفاقاً، لكلِّ ما سبق آنفاً، التعامل المفهومي مع جاء به النَّاقد الفرنسي المعاصر، ميشيل رفتير(1924-2006) (Michael Riffaterre)[2]، من أنَّ النصَّ الشِّعريَّ يقدِّم دلالاته، المفهوميَّة والجماليَّة، بغير طريقة تقديم النَّصِّ النَّثريِّ لدلالاته. إنَّ النَّصَّ الشِّعريَّ، بهذا الوعي لفاعليَّة اللُّغة، ينشئ، ضمن القصيدة،  نظاماً لغويَّاً خاصَّاً به؛ ولذا، لا بدَّ، ههنا، من فهم ما يميز اللُّغة الشِّعريَّة عن لغة النثر. يتجلَّى “الشِّعريُّ”،في النَّصِّ، عبر نظمٍ خاصَّة تنبثق من وجوده الذَّاتي، وتنهض على تراكمات شعوريَّة ورؤى انفعاليَّة تقود، جميعها، إلى ابتداعٍ لمفاهيم وتفاعلاتٍ خارج نطاق المتَّفق عليه الجمعي.

أشتُهِر عن النَّاقد الأدبي البلغاري/الفرنسي تزفيتان تودورف (1939-2017) (TzvetanTodorov) تمييزه بين ما يسميه “لغة عاديَّة” وما يسميه، كذلك، “لغة شعريَّة”[3]. ويرى تودورف، في هذا السِياق، أنَّ اللُّغة العمليَّة، وجود موضوعيٌّ مرتبط بما هو من خارجه، ولذا فإنَّها وسيلة وليست غاية؛ ومن هنا، تجد تسويغاً لها وتفسيراً لمراميها خارج وجودها. أمَّا اللُّغة الشِّعريَّة، فيرى فيها تودورف أنَّها مستقلة عن ما عداها، ذاتيَّة الغاية؛ ولذا فإنَّها تجد تسويغاً لها وإشارة إلى دلالاتها، من داخلها وضمن مفاهيمها المتوافق عليها. تُستخدم “اللُّغة العاديَّة” وسيلة اتِّصال وتواصل بين النَّاس؛  بينما “اللُّغة الشِّعريَّة” تقفُ ساحة رحبة للامتاع والتَّأثير الجمالي. تتسم “اللغة العاديَّة”، بأنها مباشرة وتقريريَّة، منطقيَّة وواضحة؛ في حين “اللُّغة الشِّعريَّة” لغة جماليَّة إيحائيَّة، إنها “لغة” غريبة عن كلِّ ما هو مباشر أو تقريري.  ليس من مرامي “اللغة الشِّعريَّة” أن تؤمِّن لمتلقِّيها الإفهام، بل من أهم غايتها تأمين التَّأثير الفنيّ والجمالي. 

تتأسَّسٌ فاعليَّة “الشِّعريِّ”، ههنا، عبر ما يمكن أن يسمَّى بـ”تجديد اللُّغة”، بالمفاجأة بالتَّجديد؛ وتالياً، بالإندهاش من المعنى أو المفهوم الجديدين اللذين يمكن لهذا التَّجديد أن يطرحهما للمتلقِّي. فالدَّهشةُ هي تَغَيُّرٌ من حالٍ مُتَوَقَّعٍ ومعروفٍ، إلى حالٍ آخر غير مُتَوَقَّعٍ وغير معروفٍ. وهكذا، وبهذا التَّغيُّر، يكون على “المتَّلقِّي” أن يُعيد النَّظر في كثير مما كان يعتبره من “مسلَّمات” التَّواصل، ليدخُل في رحاب الجِدَّة وما هو غير مسبوق وغير متَّفقٌ عليه؛ أكان هذا الاتِّفاق من جهته هو و”المرسِلِ”، أو كان مع “اللُّغة” بصورة عامَّة. تتحوَّل الدَّهشة إلى شعريٍّ يتمثَّل فرحاً بالجديد أو خوفاً منه، أو ربما امتحاناً له.

 أنموذج “بيقولوا زغيَّر بلدي

بيقولوا زغيَّر بلدي بالغضب مسوَّر بلدي

الكرامي غضب والمحبِّي غضب والغضب الأحلى بلدي

وبيقولوا قلال ونكون قلال بلدنا خير وجمال

و بيقولو يقولوا شو هم يقولوا شويِّة صخر وتلال

يا صخرة الفجر وقطر النِّدي يا بلدي

يا طفل متوَّج عالمعركي غدي يا بلدي

يا زغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي

      تنطلق جدَّة اللُّغة، في نصِّ “بيقولوا زغيَّر”، وهو نصٌّ بالمحكيَّة في لبنان، من المفهوم الذي يقدِّمه “المٌرسِل”، عبر النَّصِّ، عن لفظ ما هو ” زغيَّر” (صغير). إنَّ “الصَّغير”، في التَّعبير اللّغويِّ التَّقليدي والمُعتاد والمتوقَّع، هو “الضَّئيل”، أكان في الحجم أو في الوزن أو حتَّى في الوجود، وتالياً، في القوَّة. بيد أنَّ “الزغيَّر” تأتي في النَّصِّ لتعطي مفهوماً مفاجئاً على الإطلاق؛ إذ “الزغيَّر”، ههنا، مُحَصَّنٌ، وحصنه هو الغضب! لقد درج النَّاس، عامَّة، أن لا يأبهوا لغضب من هو “زغيَّر”، بل أن لا يحفلوا به؛ فإذا به، عبر هذا النَّصِّ لـ”الأخوين رحباني” يبرز، بلغتهما الجديدة عنه، صاحب حصنٍ، وحصنه سورٌ من الغضب. لقد بات “الزِّغيَّر” ذا شأنٍ، وهو شأن يدعو إلى الاعتداد به والاهتمام له. وهكذا تبدأ معادلة جديدة في الظُّهور انطلاقاً من اللُّغة الجديدة عن “الزغيَّر”. ويتابع مٌرسِلً النَّصِّ لغته الجديدة من خلال طرحة لألفاظ أخرى، ضمن هذه اللُّغة الجديدة؛ فإذا بـ”الكرامة” تتحوَّل من عالم الرِّفعة والتَّرفع، اللذان اعتادت أن تدلَّ عليهما، إلى أنها، هي الأخرى، غضب! وكذلك هو دَيْدَنُ الحالِ مع “المحبَّة”، التي ما اعتاد مفهومها تجاوز التَّسامح والعطف والشَّفقة والألفة، لتصبح، كذلك، وجود غضب! وتكرُّ، على هذا المنوال، سبحة ألفاظ “اللُّغة الجديدة” مُشِعَّةً برَّاقةً بجدَّتها المدهشة على كل صغيرة وكبيرة في النَّص.

        ويأتي أنموذج نصِّ “مضوية مضوية”، وهو بالمحكيَّة في لبنان، ليقدِّم أنموذجاً آخر عن اللُّغة الجديدة؛ بيد أنَّه أنموذج لا يقوم على الإدهاش المباشِر والواضح، بقدر ما يقوم على الإدهاش المستتر وراء كثير من جماليَّة ما يمكن أن يعرف بلاغيَّاً بالكناية أو التَّورية:

 

مزروعة مزروعة جناين داير من دار

وبتضلَّها موجوعة تا تعطي الأرض قمار

مضوية مضوية بالعزّ و بالأشعار

بتموج ومتكية عالزَّنبق ليل نهار

يا بيوت ال بتلالي عاتلال وخلفها تلال

عالي وردك عالي وزراره ما بتنطال

وصِّلني وصِّلني خدني لا تسألني

عاشي نسمة احملني واشلحني بهاك الدار

حلياني وغرقانة بالغيم وبالشَّربين

يا بنيَّة تعبانة بعيونها الحلوين

بكِّتني إيَّامه البيت الحلوي خيامه

بهالباب القدَّاموه في ورد وبنك جرار 

كرمِك الله يزيده اللى مشعشع هون وهون

الخير ال بعناقيده عم بيفييِّ عالكون

فتحتِ لحالِك طاقة عالأرض المشتاقة

يا اللي قلبِك باقة حب وإلفة وقمار

 يابا يابا يابا يابا يابا أوفلاقونا يا أهل الدار

جبنا الورد غمار غمار لاقونا يا أهل الدار

جمَّعناها نجوم الليل لاقونا يا أهل الدار

وسيجنا داير من دار لاقونا يا أهل الدار

دنيي ترفرف ع الميلين

وطير مشوح مدري منين

بعدك يا نبتات العين تودينا وتزق خبار

       يُشْرِقُ “الشِّعريُّ”، ههنا، مِنْ خلالِ لغةِ تَغَيُّرِ الطَّابع التَّقليديِّ والمتعارف عليه للأمور والموضوعات على حدٍّ سواء. من أمثلة هذا، أنَّ الأرضَ، التي هي من تراب وحجر وصخر، تصبح محطَّاً للإحساس ومستقرَّاً للشُّعور، كأنَّها أمرأة حُبلى تُعاني آلام الوضع تمهيداً لتقديم ولادة جديدة تَرْفُدُ بها استمرار الحياة “وبتضلها موجوعة تا تعطي الأرض قمار”؛ وكذلك فإنَّ الأضواء التي تَمْنَحُ النُّور والضَّوءَ، تُضحي مانحةً للعِزِّ والشِّعرِ معاً “مضوية مضوية بالعزِّ وبالأشعار”؛ ولا يمكن إغفال أن الرَّاحة التي هي، عادةً، مدعاة لجمالٍ ما، تُعطي مطرحها للتَّعبِ الذي يُضحي الدَّربَ إلى الجمال والمسبب له “بنيَّة تعبانة بعيونها الحلوين”؛ وعلى هذا المنوال تأتي “الأرض المشتاقة” و”الدِّنيي تْرَفْرِفْ عالمَيْلَيْن” و”نَبْتات العَيْن تودِّينا وْتْزِق خْبار”!

 

خلاصة عامَّة

 الشِّعريَّة العامة في نصِّ أغنية الأخوين رحباني

تشهد مجموعات النَّماذج التي جرى استعراضها، آنفاً، والتي بيَّنت ما يمكن وسمه بـ”شعريَّة التَّناقض” و”شعريَّة توالي العناصر التَّشكيليَّة”و”شعريَّة التَّوازي المتباين”، أنَّ بعض “الشِّعريَّ” في نصِّ أغنية “الأخوين رحباني” يأتي نتيجة عقليَّةٍ هندسيَّةٍ متميِّزةٍ تَعرفُ كيف توظِّفُ التَّشَكُّلَ الهندسيَّ، من خلال التَّناقض والتَّوالي والتَّوازن، لخلق حالٍ تدعو إلى إبداعٍ معرفيٍّ ذاتيٍّ. وأنَّ ما يمكن وسمه بـ”شعريَّة المسكوت عنه من السَّرد” و“شعريَّة تجديد اللغة” يأتي نتيجة معرفة عميقة بخفايا الانفعال الإنسانيِّ، تُحْسِنُ الإفادةَ من واقعي الغِيابِ والتَّجديد، على حدٍّ سواء، لدفع المتلقِّي إلى عيش شعريَّةٍ لما يتلقَّاه، هو المسؤول عنها والمنتشي بها. ولقد تبيَّن من دراسة هذه النَّماذج أنَّ اللغة العربيَّة، فصحى كانت أو محكيَّة، لا توفِّر أيَّ تمايزٍ في فاعليَّة “الشِّعريِّ” في نصِّ الأخوين على الإطلاق؛ بل إنَّ “الشِّعريَّ” واحد في وجوده بغضِّ النَّظرِ عن اللغةِ التي يتزيَّا بها. وقد لا تكون هذه الأمور هي الركائز الوحيدة لقيام ما هو “شعريّ” في نصِّ أغنية “الأخوين رحباني”؛ إذ نصوص أغاني الأخوين كثيرة وعديدة ومتنوِّعة تحتاج إلى درس مسهب وبحث مفصَّل. 

لعلَّ البُعدَ عن التَّكلُّف هو أبرز صفةٍ يتَّسمُ بها “الشِّعريُّ” في نصِّ أغنية “الأخوين رحباني”. ويقوم هذا “الشَّعريُّ”، في نصِّهما، على ألفاظ هي غاية في بساطة البناء ووضوح المعنى، وينهض، كذلك، على تراكيب هي غاية في السَّلاسة؛ حتَّى لكأنَّ متلقِّي هذا النَّصِّ لا يُدرك فاعليَّته البنائيَّة بصورة مباشرة على الإطلاق. يُدْخِلُ نصُّ أغنية “الأخوين رحباني” شِعريَّتهُ إلى دنيا متلقِّيه بطريقة غير مباشرة؛ يبدأ الأمر من تجاوب المُتلقِّي مع فكرة وجود النَّصِّ؛ وإذا بوجود النَّصِّ يصبح مدخلاً مشرعاً على “الشِّعريِّ” هيَّأه مُرْسِلُ النَّصِّ للمُرْسَلِ إليهِ، أو المتلقِّي، ليبتدع هذا الأخير الحال الشِّعريَّ الذي يقدر عليه أو يستطيعه أو يتمكَّن من الولوج إلى رحابه.

إنها تقنيَّة فَتْحُ المجال على مصراعيه أمامَ مُتَلقِّي النَّصِّ، من دون ما إملاءٍ مُسْبَقٍ من المُرْسِلِ؛ أو إيحاءٍ، من قِبَلِهِ، يُسْقِطُ “الشِّعريَّ” وجودَ فَرْضٍ مَيْتٍ، وليس وجود اختيارٍ حَيْ. “الشِّعريُّ”، في نصِّ أغنية “الأخوين رحباني” حيويَّةُ إبداعٍ يُطلقها “الأخوان رحباني”، تاركَيْنِ للمتلقِّي الحريَّة المطلقة في إبداعِ انفعالهِ بها وتفاعله معها.

 


[1]Michael Kent Havens, Studies in Romanticism, Vol. 20, No. 2 (Summer, 1981), pp. 163-183, Published by: Boston University

 

[2]RIFFATERRE, M., Text Production, New York: Columbia University Press, 1983., p. 26

[3]  TzvetanTodorov , The New World Disorder, Andrew Brown (tr.), Polity Press, Cambridge, 2005.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *