مقامات المناعة في الوجود الإنسانيّ

Views: 559

أ.د. مشير باسيل عون

يدفعنا فيروس الكورونا إلى التفكّر في معطوبيّة الكائن الإنسانيّ. ثمّة انعطابٌ في الهيكل الجسديّ، وثمّة انعطابٌ في الذات الواعية. من هذه المعطوبيّة نمضي إلى معطوبيّة المعنى الذي يستنبطه الإنسان لحياته. لكلّ انعطابٍ مناعةٌ تلائمه وتليق به، فيما السبيل واضحٌ من معطوبيّة الكيان إلى معطوبيّة المعنى. فالمعطوب لا يملك أن يبتدع معنًى مطلقًا، أي حقيقة وجوديّة، حاسمة، قاطعة، نهائيّة. بحسب هذا التصوّر، يكون المعنى المطلق ممتنعًا. وبذلك نفوز بثلاثة مقامات: مَناعة البنيان الجسديّ، ومَنَعة الذات الواعية، وامتناعيّة المعنى المطلق. وجميع هذه المقامات مقترنةٌ اقترانًا وثيقًا بمعطوبيّة الوجود الإنسانيّ على وجه الإجمال.

حين نظر الفلاسفة في خصوصيّة الكائن الإنسانيّ، نسبوا إليه ما لم ينسبوه إلى الكائنات الحيّة الأخرى، الحيوانيّة والنباتيّة. وقد يظنّ بعضُهم أنّ ثمّة تواصلًا خفيًّا بين جميع الكائنات الحيّة، إذ إنّ مصدر الحياة هو السلسلة الجينيّة الواحدة والحوامض الأمينيّة عينها، ولئن تفاوت ترتيبُها من كائن إلى آخر. لا ريب في أنّ أرقى ما نسبه الفلاسفة إلى الإنسان هو وعي المعطوبيّة الذاتيّة. فالمعطوبيّة قسمةٌ عادلةٌ بين جميع الموجودات، الجامدة منها والحيّة. أمّا إدراكها واستبصارها وتدبّرها، فخصائصُ تعقّليّة ينفرد بها الإنسان، ولئن ما برحنا نجهل درجات الوعي المتقلّص الذي تنعم به الكائناتُ الحيّة الأخرى، الحيوانيّة والنباتيّة. تجدَّد اليوم ظهورُ الكورونا في حلّة عدوانيّة جامحة ليذكّرنا بأنّ الإنسان هو، في صميم معطوبيّتّه، كائنٌ فيروسيّ على الإطلاق، يترجّح وجودُه بين التيقّن الحذر من مناعة تركيبته البيولوجيّة والاستوثاق الرجائيّ من حصانة عمارته المعنويّة. ذلك بأنّ البحث عن معنى الوجود لا يمكن أن ينشط إلّا من خلال التفكّر في مناعة الهيكل الجسديّ الذي يحتضن مثل هذا الوعي التائق إلى طمأنينة اليقين.

الفيلسوف الألمانيّ هيغل

 

بيد أنّ معضلة الكورونا تكشف لنا أنّ الوعي الإنسانيّ شقيٌّ في بنيانه، قلقٌ في وجوده،منجرحٌ في صميمه، مكسورٌ في ذاتيّته. أبدأ بشقاء الوعي، والعبارة للفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770-1831) الذي كان يعتقد أنّ الوعي الذاتيّ يختبر من الحرمان والإهمال ما يجعله يبحث عاجزًا عن موقعه في الكون وبين نظرائه البشر. الوعي الشقيّ هو الوعي الذي يعجز عن تعيين موقعه في الوجود لأنّه لم ينجح في التوفيق بين الصورة التي ينحتها الإنسانُ لذاته وضرورات الانتظام في أحوال الزمان. كلُّ إنسان يتصوّر نفسَه في أبهى الهيئات وأرقى الملامح. غير أنّ انسلاكه في مسرى الوجود الواقعيّ يضطرّه إلى الخضوع لأحكامٍ وقواعدَ وتدابيرَ وإكراهاتٍ ومساوماتٍ لا تناسب الحلّة البهيّة التي تَدثّر بها وعيُه الذاتيّ.

الفيلسوف الألمانيّ هايدغر

 

من هنا ينشأ في الإنسان قلقٌ كيانيٌّ عظيمٌ ربطه الفيلسوف الألمانيّ هايدغر (1889-1976) بالإمكانات اللامحدودة التي ينطوي عليها كيانُ الإنسان في انخراطه الضروريّ في مجاري الزمان. فالإنسان كائنُ الصيرورة، لا كائنُ التلبّث والتجمّد والتصلّب. ولكنّ الصيرورة، على سحر جدّتها، تُلقي الرعب في فؤاد الإنسان لأنّها تشرّع كيانَه على احتمالات وجوديّة لم يألفها حتّى الآن. الاحتمال الوجوديّ يعني أنّ الإنسان لا يعرف المصائر والمنقلبات والمآلات الآتية عليه. وهو ما يذكّرني بقول القدّيس أوغسطينوس (354-430) في اعترافاته الشهيرة : “أين أنا ممّا هو حالٌّ بي؟”. ذلك بأنّه ما من أمر يُرعب الإنسان على قدر المجاهل التي يُضطرّ إلى الخوض فيها. مجموع هذه الاحتمالات اللامحدودة هي، في نظر هايدغر، قوامُ الكينونة التي يبحث الإنسان عن معناها. فالكينونة هي المنفسحات الرحبة التي ترتسم في أفق الوجود التاريخيّ المضبوط على إيقاعات الزمان المنبسط. وما قلق الإنسان سوى التعبير عمّا يختلج في وعيه من استرهاب متفاقم أمام عظمة الكينونة التي تحدق به من كلّ حدب وصوب. بحسب هذا المعنى، يحمل الإنسان في ذاته همَّ الكينونة بأسرها، أي همَّ الانفتاحات الرهيبة، الشاسعة، الفائضة، التي يتمخّض عنها الزمانُ في جريانه المتعرّج.

القدّيس أوغسطينوس

 

أمّا الانجراح الصميميّ، فهو بحسب فرويد (1856-1939) مثلّثُ الإصابات. الانجراح الأوّل أصاب مركزيّة الأرض في الكون، حيث أثبتت الكوسمولوجيا أنّ الأرض كوكبٌ مسيَّرٌ خاضعٌ لنظام المجرّة التي تستغلق عليه. وهي مجرّةٌ من مئات مليارات المجرّات التي تستوطن الكون الرحيب. الانجراح الثاني نال من عنفوان الصدارة الإنسانيّة حين برهنت البيولوجيا التشاركَ العظيم في بنية الكائنات الحيّة. أمّا الانجراح الثالث، فأثخن الوعي الذاتيّ باستدماء عميق حين أظهر التحليلُ النفسيّ أن الذات الإنسانيّة خاضعةٌ في قراراتها لشبكة شديدة التعقيد من الاعتبارات الملتبسة، والرغائب المكبوتة، والتشنّجات الأليمة، والأحلام المجهضة، تلتئم كلّها التئامًا خفرًا في قاع اللاوعي.

فرويد

 

من جرّاء هذا الالتباس النفسيّ الباطنيّ، أرسل الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور (1913-2005) قولته الشهيرة التي أعلن فيها أنّ فعل التفكّر هو فعلٌ متكسّرٌ تكسُّرًا لا ترميم له. فالإرادة التي تدّعي أنّها تمتلك الحلّ والوضوح والاقتدار والفعل التغييريّ يشوبها تناصرُ ثلاثة عناصر بنيويّة تثبّطها تثبيطًا، ألا وهي الطبعُ الإنسانيّ الذي يؤثّر في انبثاق الفعل الإراديّ، واللاوعي الثاوي في الأعماق والمحرِّك قوى التدافع في الرغبات المتناقضة، والحياة التي تتقدّم على الفعل الإراديّ وتتجاوزه وتغمره بتجلّياتها المتنافرة وانبثاقاتها المتضاربة. تكتُّلُ هذه العناصر الثلاثة المثبِّطة يرسم بحسب ريكور البُعد اللاإراديّ المطلق في الكائن الإنسانيّ.

الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور

 

وعليه، فإنّ فعل التفكّر هو في أصله متكسّرٌ لأنّ كلّ مسعًى إراديّ يصاحبه مَكبحٌ لاإراديٌّ. فالرغبة في الإنسان هي غيرُ القرار الذي تُفضي إليه، والحركة هي غيرُ الفكرة التي أطلقتها، والضرورة هي غيرُ الإرادة التي رضيت بها. وعليه، فإنّ الرغبة هي موطنُ كلّ الملابسات والإيهامات والتضليلات، تهيمن هيمنةً على مدارك الإنسان. لذلك لا بدّ من فِسارة فطنة تتناول الرغبة الإنسانيّة في إقبالها على اللغة وانسلاكها في تعابير اللسان، إذ إنّ الإنسان لا يستطيع أن يدرك ذاتَه إدراكًا حدسيًّا مباشرًا، بل يحتاج إلى التفكّر الصبور في الكيفيّات التي تتلبّس بها رغبتُه في الحياة والوجود، وقد تنوّعت إفصاحاتُها بتنوّع الوساطات الرمزيّة التي يلجأ إليها.

أظنّ أنّ أزمة كورونا تجعلنا نستكشف جميع هذه الأبعاد المنطوية في خبرة القلق الوجوديّ. حتّى الآن لم تستطع العلوم الطبّيّة الاستدلال على طبيعة التفاعلات الخفيّة التي يستثيرها انغلال الكوفيد التاسع عشر في باطن الجسم الإنسانيّ. بعضُهم يذهب إلى أنّ الإصابة الأولى لا تمنح المناعة المنشودة، فيما بعضهم الآخر يشكّ شكًّا مربكًا في هويّة الأجسام المضادّة التي يفرزها جهاز المناعة من أجل احتواء الفيروس والقضاء عليه. ويبلغ الخيالُ العلميّ المشروع ببعضهم الآخر حدودَ القول بالتساكن الإكراهيّ بين الإنسان والفيروس بحيث يسقط يقينُ المناعة الجسديّة التي يعتصم به الإنسانُ سياجًا حاميًا يقيه الانهيار العصبيّ النفسيّ المتأتّي عن ضرورة مواجهة خطر الموت صبيحة كلّ يوم.

ذلك بأنّ الكوفيد التاسع عشر يعيد إلينا خبرة الوعي الشقيّ الذي حلَّله هيغل لأنّه يضطرّنا إلى أن نفصل فصلًا حادًّا بين أمرين: صورة المناعة التي يحلو لنا أن نعتصم بها أمام ذواتنا وواقع المعطوبيّة الذي يزجّنا فيه الفيروس عند انبلاج كلّ صباح. وهو أيضًا يعيد إلينا خبرة القلق الكيانيّ الذي استكشفه هايدغر لأنّه يشرّع همَّنا الوجوديّ على آفاق المجهول المقبل علينا من جرّاء انعدام اليقين الطبّيّ العلميّ في شأن الآثار المحتملة التي سيخلّفها الفيروس في أجسادنا، وفي وعينا، وفي بيئتنا العلائقيّة. وهو كذلك يعيد إلينا خبرة الانجراح الكيانيّ الصميميّ الذي تحرّى عنه فرويد لأنّه يعرّينا من مركزيّتنا الإنسانيّة، ويجرّدنا من يقينيّاتنا الوجوديّة، ويسلبنا الأوهام التي نخلعها على الآتي من الأيّام. وهو أخيرًا يعيد إلينا خبرة الانكسار في فعل التفكّر لأنّه يصدمنا صدمًا مؤلمًا بالأبعاد اللاإراديّة التي تباغتنا بها الحياة عند كلّ منعطف وفي كلّ اتّجاه.

فما المعنى الذي يمكننا، والحال هذه، أن نسبغه على وجودٍ إنسانيّ أطبقت عليه جميع هذه الانعطابات البنيويّة السحيقة؟ وكيف لنا، بعد الآن، أن ندّعي الإمساك بمعنًى مطلق نُصرّ إصرارًا مَرَضيًّا على استنباطه من جوف المعطوبيّة الكيانيّة التي تدمغنا دمغًا مأسويًّا؟ من فضائل الكوفيد التاسع عشر أنّه يذكّرنا بالانجراحات الأصليّة التي نعانيها منذ تفتّح الوعي فينا. فالدخول إلى الحياة يجرح الإنسان جرحًا لا اندمال فيه لأنّه يقتلعه من سكينة انعدام الوعي الذاتيّ. يدخل الإنسانُ في حيّز الإمكان بجرحٍ ينزف في لجّة الحبّ الإيلاجيّ، وينبعث إلى الحياة بجرح ولاديّ، ويخرج من الحياة بجرح اقتلاعيّ، ويحيا حياته كلّها مجروحًا بالتباسات رغائبه الوجوديّة. 

الفيلسوف الفرنسيّ سارتر

 

يدخل الإنسان عنوةً وبالإكراه إلى الحياة، ويخرج عنوةً وبالإكراه منها. بين الإكراه الاستهلاليّ والإكراه الاختتاميّ يحاول أن يحيا حرّيّته مُكرهًا، على حدّ قول الفيلسوف الفرنسيّ سارتر (1905-1980). حتّى الكلمة التي هي في الأصل قوامُ إنسانيّة الإنسان، بما هو حيوان ناطقٌ، هي أيضًا في أصلها جرحٌ وكَلْمٌ، يَكلُم الإنسان بها الوجود والموجودات حتّى يكلِّمها،فيجعلها تتكلّم وتنطق بالمعنى. ولن تُكلِّم الموجوداتُ الإنسانَ قبل أن تَكلُمه، فتجرحه جرحًا عميقًا يستأصل منه كبرياءه وغلواءه وجبروته. 

رأيي أنّ الكورونا هي من جراح الحياة النازفة التي تجعلنا نتكلّم من بعد أن تَكلُمنا كَلْمًا سحيقًا موجعًا. ومن ثمّ، لستُ أظنّ أنّ المعالجات العلميّة المبنيّة على حسابات الاقتصاد النفعيّ تستطيع أن تشفي فينا مثل هذه الانجراحات الكيانيّة. إذا كانت أعظم التأمّلات الفلسفيّة لا تقوى على إعتاقنا من معطوبيّتنا الكيانيّة، فكيف يدّعي أهل الإيديولوجيات الدِّينيّة والقوميّة والسياسيّة والاقتصاديّة أنّ حقائقهم هي وحدها التي تستطيع أن تبرئ الإنسان من انجراحات الفيروس الناشبة فيه؟ فهل يساعدنا التفكّر في معطوبيّة الهيكل الجسديّ ومعطوبيّة الذات الواعية ومعطوبيّة المعنى الإنسانيّ على التحرّر من أوهام المناعات المزيّفة التي نزيّن بها وجودنا طمعًا بقيلولة هادئة في البرزخ الفاصل بين الحياة المرئيّة والحياة غير المرئيّة؟

إذا كنّا نرفض الإيديولوجيات الدِّينيّة والقوميّة والسياسيّة المزيّفة، فهل يجوز لنا اليوم أن نقبل بإيديولوجيا الاقتصاديّات المعولمة التي تشيّئ الإنسان وتسلّعه، وتجتاح رغائبنا طولًا وعرضًا، وتستبيح فينا حرمة الوعي الذاتيّ المركون في أعمق أعماق كياننا؟ تزيّن لنا اقتصاديّاتُ السوق وهمَ السيطرة على هذه الضروب الأربعة من الانجراحات الكيانيّة، وتَعدنا وعدًا مضلِّلًا بالقدرة على الشفاء منها شفاءً تامًّا. وهي لا تتورّع عن إعادة تصوير الرغبة فينا ورسمها رسمًا بلوريًّا ناصعًا، وذلك لكي تحرمنا من حرّيّة معاناتنا الإنضاجيّة، وسحر التباساتنا المخصبة. هو الزيفُ بعينه حين تُعلن هذه الاقتصاديّات في نهاية المطاف أنّ الإنسان قابلٌ التحليلَ والتفكيكَ والمعالجة والإرضاء الكيانيّ الأشمل. والحال أنّ فرادة الإنسان بلغزيّته المتمرّدة، وضبابيّته الجذّابة، وغوريّته الفاتنة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *