الحِوارُ شِعارٌ وعَبَثِيَّةٌ أَمْ ضرورةٌ حياتيَّة؟

Views: 304

الأب كميل مبارك

يعلِّمنا الإرشادُ الرَّسوليُّ في أَكْثَرَ منْ مكان، أَنَّ الحِوارَ في الخُبُراتِ العَمَليَّةِ لمُمارَسَةِ التَّضامُن، ثَرْوَةٌ لجميعِ الشُّعوبِ وخُطْوَةٌ واسِعَةٌ على طريق مُصالَحَةِ الأَفكارِ والقُلوبِ، ومن دونِهِ لا يمكنُ القِيامُ بعملٍ مُشترَكٍ طويل الأَمَد (الإرشاد الرسولي رقم 91).

لا شكَّ في أَنَّ الحوارَ هو الخطُّ الأَوَّلُ الواصلُ بين التَّيَّاراتِ الكَثيرَةِ في الوطن الواحد. والحوارُ لا يعني أَنْ نتكلَّمَ لغةً واحدةً أكثرَ ممَّا يعني الكلامَ على مَوْجَةٍ واحدة، أي انطلاقًا من قواسمَ مشترَكةٍ يجتمعُ عليْها جميعُ المواطنين أَو غالبيَّتُهُم السَّاحقةُ في الأَقل. أَمَّا إذا سقطتِ القواسمُ المشتركةُ وأَصْبحَ الكلامُ على الحوارِ شِعارًا من جمْلَةِ الشِّعاراتِ الفارِغة، واتَّخذتِ الجَماعاتُ مواقِفَ متشنِّجةً وحادَّة، فذلك يعْني ضُعْفَ إمكانيَّةِ الحِوار. أَمَّا الأَسْبابُ الَّتي تُؤَدِّي إلى عبَثِيَّةِ الحِوار فكثيرةٌ، نَذْكُرُ منها:

– غيابَ القرارِ الحرِّ لدى الفرقاءِ أَو لدى فريق من المتحاوِرين. فالقرارُ الحرُّ أَمْرٌ ضروريٌّ وأَساسٌ في مسأَلةِ التَّحاوُر، لأَنَّ الحِوارَ يَطولُ أُمورًا على مسْتوى العلاقاتِ البعيدةِ وعلى مستوى مصيرِ الوطن، فإذا كانت الِإراداتُ مُسَيَّرةً، تبقى المواقِفُ مُعلَّبة، تأْتي إلى طاولةِ الحِوارِ وتعودُ كمَا جاءَت. ومن الدَّلائِلِ الكلاميَّةِ على تعْليبِ الموَاقِف، استعمالُ لغةٍ خَشَبِيَّة، تَنْقُصُها النَّكْهةُ الفرديَّةُ الشَّخصيَّة، وكأَنَّ للكلام حدودًا يُمْنَعُ الخُروجُ عنها، كمَا يَنْقُصُها المَنْطِقُ السَّليم، وتَبْدو من خلالِها أَمائِرُ الخَوْفِ من الحقيقة؛

 -الآراءَ المُسْبَقَة، وهي من الخُطورةِ بمكانٍ في كلِّ حوار، إذ تجعلُ من الطَّرَفَيْن كأَنَّهما يعرفان سَلَفًا نتيجةَ الحوارِ بينهما، أَو يعرفان أَنْ لا إمكانَ لتغييرِ مَوْقِفٍ أَو تعْديلِ فكرة، فيحكم كلُّ واحدٍ مُسْبَقًا على الآخَر، وبالتَّالي يفشَلُ الحوار؛

 -التَّعْميمَ الخاطِئ، كأَنْ تُصَنِّفَ جماعةٌ بكامِلِها جميعَ أَفرادِ الجَماعةِ الأُخْرى بشكلٍ عشْوائيٍّ، وهذا يعني أَنَّ تَبْديلَ الأَشخاصِ المتحاوِرينَ لا جَدْوى منْهُ، فالجميعُ نُسَخٌ «طِبْق الأَصل » بعضهم عن بعض وبالتَّالي أَفكارُهُم واحدة.

 -عَدَمَ تَجْزِئَةِ مَوْضوعِ الحِوار وبالتَّالي وَضْعُهُ برُمَّتِهِ للقُبولِ أَو الرَّفْض، أَو كما يُقالُ اليوم «سلَّةٌ واحدة »، وهذا دليلٌ على عَجْزِ المتحاوِرينَ عن اتِّباعِ سُلَّم صحيح في حلِّ المشاكل. والواقعُ أَنَّ لكلِّ مشكلةٍ خُيوطًا مُتَعَدِّدَة، وبالتَّالي يكونُ الحلُّ تراتُبِيًّا تصاعُدِيًّا، إلَّا إذا انعَدَمَتْ نِيَّةُ الوُصولِ إلى حلٍّ، فنضعَ المشكلةَ تحت علامةِ “مَمْنوعٌ المَساسُ بها”؛

– المُزايَدَةَ في الوَطَنيَّة، وهي تدفعُ المتحاوِرينَ إلى التَّقْليلِ من دَوْرِ الآخَر في عمليَّةِ بناءِ الوطن، وبالتَّالي يَسْهُلُ عَزْلُه أَو إزالتُه، وإذا كانت هذه الأَخيرةُ وارِدَةً، فلماذا الحِوار؟

– الانْطلاقَ من مبدإِ تحصيلِ حَقِّ جماعةٍ مُعَيَّنة، لا تحصيلِ حقِّ الوطن والشَّعْب عامَّة، وهذا يؤَّدِّي إلى السَّعْيِ وراءَ مكاسِبَ، وليْسَ إلى العمل على تحقيق الخَيْرِ العام؛

– التَّصلُّبَ في المَواقفِ، المُرادِفَ للمُكابَرَةِ أَمامَ الرَّأْيِ العامِّ المحلِّيِّ والإقليميّ، والغايةُ إثْباتُ هذه الجمَاعة أَوهذا الشَّخصِ الَّذي يمثِّلُها، أَنَّه «صاحبُ مَوْقف » بقطْعِ النَّظَر عَمَّا إذا كانَ هذا المَوْقِفُ لصالح الوطن أَو لصالح فِئَةٍ من أَبنائِه أَو لصالح طَرَفٍ ثالِث، مجهولٍ أَو معلوم؛

 -الِاتِّهامَ والتَّخْوينَ «بالجمْلَة »، ومحاولةَ إقْناعِ الآخَرِ أَنَّه خَصْم، وليسَ فريقًا في المواطنيَّة له حقوقه، ومنها إبداءُ الرَّأْيِ بصراحة، وعليه واجباتٌ منها الحِفاظُ على الوطن.

 -عدمَ المُسامحة الَّتي تُبْقي القلوبَ مُلْتهِبَةً والعقولَ محدودةَ الإدراك، وتُسَلِّطُ العاطفة والانفعالَ على التَّفكير السَّليم؛

 -الاقتناعَ بالأَمرِ الواقعِ والرِّضى العبَثِيِّ، وتَرْكَ الأُمورِ تجري على أَساسِ «ليس بالِإمكانِ أحسنُ ممَّا كان»، وبالتَّالي التَّأَقلُمَ مع الجَوِّ القائِم والخُنوعِ فيه، ومحاولةَ

-إقْناعِ المُحاوِرِ الآخَر أَنَّ هذا الواقعَ هو لخَيْرِ الوطن، وأَنَّ في الخروج منه خَرابُ الجميع. وكلُّ ذلك بعيدًا عن الحُجَج المنطقيَّةِ السَّليمة، أَو تحت شِعاراتٍ عاطفيَّة؛

 -عدَمُ الاهتمام بالتَّربيَةِ على الحوارِ في المدارسِ والجامعاتِ والأَحزابِ والمُنَظَّمات، وبَثَّ روحِ التَّشَنُّج والأُصوليَّةِ على أَشْكالِها.

لذلك نقول: متى زالت هذه العَقَبات باتَ الحوارُ مُجْدِيًا ومنتجًا.

آذار- مارس 2007

***

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” (2018).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *