بَيْنَ تَسْييسِ الدِّين ومَذْهَبَةِ السِّياسَة

Views: 376

الأب كميل مبارك

يتساءَلُ النَّاسُ في لبنان كما في كثيرٍ من دُوَلِ العالَم عن دَوْرِ الدِّين في السِّياسةِ مُحاوِلينَ أَنْ يَجِدوا الرَّابِطَ السَّليمَ بين الِإنْسانِ الكائِن المُتَدَيِّن والِإنْسان الكائِن السِّياسيِّ بطَبْعِه، خاصَّةً أَنَّ هذا الواقِعَ البشَرِيَّ كانَ سَبَبًا وما زالَ لكثيرٍ من الإشْكالاتِ والخِلافات في الرَّأْيِ أَوَّلاً ثمَّ في السُّلوكِ العام، وكَثيرًا مَا يُؤَدِّي إلى العُنْفِ والمَآسي، جَرَّاءَ اسْتِغْلالِ بعضِ رجالِ الدِّين سُلْطَتَهُم ومَوْقِعَهُم، واسْتِغْلالِ بعضِ السِّياسيِّين العَواطِفَ الدِّينيَّة، إنْ لم أَقُلْ الغَرائِزَ المَذْهَبيَّة.

 والسُّؤَالُ المَطْروحُ هو كَيْفَ يُمْكِنُ للدِّين أَنْ يكونَ له مَكانُه السَّليم في المجتمعِ من دون أَنْ يَطْغى على مُكْتَسَباتِ الحَداثَةِ والدِّيموقراطِيَّةِ والعَقْلانِيَّة، فيُشارِكُ في صُنْعِ السَّلام عِوَضًا من أَنْ يكونَ سَبَبًا للخِصام، بخاصَّةٍ في المُجْتَمَعاتِ التَّعَدُّدِيَّةِ الَّتي باتَتْ صِفَةَ العالَم المُعاصِر؟ أَو كَيْفَ السَّبيلُ للتَّناغُم بين الدِّين والسِّياسةِ من دون تَسْييس الِإيمانِ ولا الوُقوع في التِّيوقراطيَّة؟ أَو أَلا يُمْكِنُ للإنْسانِ الفَرْد، قائِدًا أَكانَ أَم تابِعًا، أَنْ يُقيمَ الحُدودَ الواضِحَةَ بينَ الْتِزامِهِ الدِّينيِّ والْتِزامِه الوطني؟ وهل منَ المُمْكِن إقامة حُدودٍ بين هذَيْن الواقِعَيْن المتأَصِّلَيْن في طَبْعِ الِإنْسان؟ وهل مُمْكِنٌ الرُّجوعُ إلى المبْدإِ اللِّيبراليِّ المُتَطَرِّفِ الَّذي يقولُ إنَّ الِإنْسانَ يَبْني مدينةَ الِإنْسانِ أَي الدَّوْلةَ، وإنَّ الله يَبْني مدينةَ الله أي الملَكوت السَّماوِي؟ أَو هل تُمْكِنُ العَوْدَةُ إلى الفِكْرِ المسيحِيِّ في القُرونِ الوُسْطى زَمَنَ كانَتِ الكنيسةُ تُنَظِّمُ شُؤُونَ المُجْتَمَعِ روحِيًّا وسياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا؟ أَو هل يُمْكِنُ التَّفكيرُ بتَطْبيق الشَّريعَةِ على الطَّريقةِ الإسْلاميَّة في المجتمعِ المَدَنِيِّ بأَسْرِهِ فيكون الله، بواسِطَةِ النَّاس، مُدَبِّرًا للنُّفوسِ وحافِظًا للرُّؤُوس، حاكِمًا للبِلادِ وناصِرًا للعِباد؟

نَظْرَةٌ سريعَةٌ إلى تَعْليم الكنيسةِ في هذا المَجالِ تَجْعَلُنا نَصِلُ إلى الخُلاصَةِ التَّالِيَة: إنَّ السُّلطةَ في المُجتمعِ المَدَنِيِّ ترتكزُ أَساسًا على طبيعةِ الِإنْسانِ المُجْتَمَعِيَّة، وإنَّ الشَّعْبَ هو مَصْدَرُ السُّلُطاتِ، وإنَّ الكنيسةَ تخْتَلِفُ بطبيعَتِها ورسالتِها عن الجَماعةِ السِّياسيَّةِ وإنْ كانَ الاثنان يتشكَّلانِ من هَيْكَلِيَّةٍ واضِحَةٍ ومؤَسَّساتٍ مَنْظورَة.

هذا ويُؤَكِّدُ قداسةُ البابا يوحَنَّا بولس الثَّاني في رسالةِ «السَّنَة المِئَة» التي صَدَرَتْ عام 1991، على أَنَّ الكنيسةَ تحترِمُ استِقْلالِيَّةَ النِّظام الدِّيمقراطيِّ الشَّرْعِيِّ، وليْسَ لها أَنْ تتدخَّلَ في المُفاضَلَةِ بين نِظام ونِظام أَو في مَنْح صِفَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَو حَجْبِها عن هذا التَّدْبيرِ أَو ذاك. غير أَنَّ استقلالِيَّةَ المُؤَسَّسَةِ الكنَسِيَّةِ عن المُؤَسَّسةِ السِّياسيَّة لا تمنعُ التَّعاوُنَ والتَّضامُنَ من أَجْلِ خَيْرِ النَّاسِ الَّذينَ هم مشْروعُ اهْتِمام الِاثْنَيْن معًا، وإنْ كانَ لهذا الاهْتِمام وَجْهانِ، واحِدٌ روحِيٌّ أَخلاقِيٌّ والثَّاني قانونيٌّ سياسيّ.

بَقِيَ أَنْ نَسْأَلَ: هل هذا المَوْقِفُ الَّذي يُحدِّدُ دَوْرَ كلٍّ من الكنيسةِ والدَّوْلَةِ، ويَفْصِلُ بَيْنَهما إلى حَدٍّ كبير، يَصْلُحُ لأَنْ يُطَبَّقَ عندنا في لبنانَ التعَدُّدِيِّ حيث التيوقراطِيَّة تُهَيْمِنُ على بَعْضِ العائِلاتِ الرَّوحِيَّةِ لهذا المُجْتَمَع، وحيث لا يَجوزُ الفَصْلُ بين الدِّين والدُّنْيا في بعضِ المُعْتَقَدات؟

ناهيكَ عن أَنَّ المَجْمَعَ الفاتيكانِيَّ الثَّانيَ بالذَّات يَدْعو الكنيسةَ، شعبَ الله، إلى الْتِزام قَضايا الِإنْسانِ في مُجْتَمَعِه، فهي بِطَبْعِها وتَكوينِها واجِبَةُ التَّضامُن مع الجِنْسِ البَشَرِيِّ على مَدَى تاريخِه.

آذار – مارس، 2008

***

 

(*)  من كتاب “حين يكثر الحِصرِم” (2018)، يتضمن افتتاحيات الأب كميل مبارك في مجلة “الرعية” بين 2007 و2017.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *