أوكتَافيُو بَاز رائد القصيدة الحسيّة في أميركا اللاّتينيّة

Views: 1207

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي*

شَاعِر لحُبّ وَالمَتَاهَات وَالأَحْلاَم

 يُعتبر الشّاعر المكسيكي أوكتافيو باز Octavio Paz (حاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1990) من أكبر شعراء أميركا اللّاتينية من دون منازع، إنّه مُبدع كلمات، ناثر صمت، كاتب شفّاف، شاعر المتاهات، والحبّ، والحرب، والمرايا، والأحلام، عمِلَ باز على مدّ جسور واصلة بين السياسة والثقافة، ولم يترك الغلبةَ لأيٍّ منهماعلى الأخرى عليه، إنه يقول:

أن تُحبّ معناه أن تُحارب

إذا تحابّ إثنان

العالمُ يتغيّر

وتتجسّدُ الرّغبات

وينسجمُ الفكر

وتخفقُ الأجنحة

الخمرةُ هي الخمرة

والخبزُ يغدو له طعمَ الخبز

والحبّ يعني أن تُحارب

وأنْ تفتح جميع الأبواب (**)

قصائد باز وأفكاره هي مزيج وإتحاد بين ثقافتين إثنتين يصعب التلاقي بينهما، ولكنّهما مع ذلك أعطيا ثمارهما، إنهما الثقافة الهندية الأصلية السّابقة للوجود الكولومبي، والثقافة الإسبانية المعاصرة الغربية، كلّ ذلك نجد صداه في مختلف أعماله الدراسية، والإبداعية الشعرية على وجه الخصوص. شعره مبطّن بتيّارات وشطحات صوفية ومشرقية. أمّا وصفه وتحليله ومعالجته لهويّته “كمكسيكي” وأميركي لاتيني فقد ضمّنها في كتابه ” متاهات الوحدة”(1950)، كما أنّ شعره مفعم بأرقّ معاني الحبّ وتباريح الجوى والصّبابة، وهو ذو نزعة إنسانية وغنائية في أسلوب قشيب، رشيق العبارة ذي موسيقى متميّزة. إننا نجد في آخر قصائده الكبرى التي تحت عنوان “حديث الشجرة”(1987) تأمّلات عميقة حول الحياة والموت، وتطلي أشعاره ألوان سوريالية زاهية واضحة ومبهمة في آن واحد تقوم على وحدة بنيوية متراصّة ومتينة.

د. محمّد محمّد خطّابي

 

 

“الأبيض” والقصيدة الحسيّة

تاريخ الشّعر في أميركا اللاتينية في القرن العشرين، كما يقول الناقد المكسيكي “إدواردو ميلان”: “إنّما هو قصّة التناوش والتداخل في أشكال الحياة في هذه القارّة المتعدّدة الوجوه”، لقد جعل الشعراء من هذه القارة خاصّة في العقود الأخيرة من اللغة شغلهم الشاغل، وأصبحت إشكالية اللغة عندهم تحتلّ مكانة أولوية ليس في تحليلاتهم ودراساتهم اللغوية والنقدية وحسب، بل في الشعر ذاته بشكل خاص، لقد عملوا على تفجير اللغة، وإستغلال إمكانياتها المخزونة، إنّ الشّعراء في هذه المنطقة من العالم تناولوا اللغة الشعرية في ذاتها بشكل مبهر.

رامبو

 

لقد كان لرامبو وبودلير وملارميه تأثير كبير على شعراء أميركا اللاتينية، وفى مقدّمتهم باز، وقد برز هذا التأثير في ظهور حركة شعرية أطلق عليها” القصيدة الحسيّة” التي ظهرت في الخمسينيات من القرن الفارط في ساو باولو بالبرازيل، أسّسها ثلاثة شعراء هم: أوغوستو دي كاميو، وديسّيو ليبغناتاري، ورولدو دي كامبوس. وقد أحدثت هذه الحركة الشّعرية تأثيرات بليغة في مجموع الشّعر الأميركي اللاتيني، كان من نتائجها ما أطلق عليه فيما بعد الشّعر أو النثر الملغومين، ووصف أحد شعرائه وهو رولدو دي كامبوس بالشّاعر الذي ليس له نظير بين شعراء أميركا اللاتينية .

بودلير

 

إنّ مغامرة هؤلاء الشعرية خلقت إتجاها فكريّا جديدا في هذه القارة، ويعتبر النقاد المكسيكيون شعر أوكتافيو باز إمتدادا لهذا التيّار المؤثّر، بحيث أنّهم لا يستغنون عن شعره لدراسة هذه الحركة، ولقد تجلّى هذا التأثيرعنده بشكل خاص في قصيدته المشهورة ” الأبيض” التي يعتبرها الناقد المكسيكي إدوارد ميلان أعلى مراحل التنوير الشّعري الأميركي اللاتيني الحديث، ففي هذه القصيدة تظهر تجلّيات باز اللغوية، إذ تصبح القصيدة إنعكاسا للغة ذاتها، بحيث تفوّق فيها باز على الشعراء السابقين المذكورين، وإرتقى إلى مصافّ مالارميه في المزاوجة بين اللغة والقصيدة.

مالارميه

 

ترويضُ اللّغة

كتب باز هذه القصيدة عام 1966فى الهند، وفيها ينبش عن جذور حضارة عريقة وتراثها، فالشاعر في هذه القصيدة كمبدع، وكأنّ لسان حاله يقول: ” أتحدّث فيبدع العالم، ” ولكن الذي يبدع في الواقع هي القصيدة .إن ترويض اللغة يعني ضرباً من الإنسحاب أو الإبتعاد عن العالم. حينئذ يفسح المجال للمجاز ليقوم مقامها كجسر أو كنوع من التصالح والتقارب لفهم العالم وتفسيره. كان ” هايدغر” ينبّهنا إلى الحقائق الواقعية أو الوقائع الحقيقية في الإقتراب من المجاز الذي يغدو فخّا لقنص العالم أو إصطياد “لحظة” منه. ويحدث هذا كما يشير الناقد الفرنسي” جيل دولوز” في لحظة إشراق ووضوح، يكون التناقض الظاهري حسب هايدغر هو أنّ ” المقدّس” أو ما لا يمكن قوله هو ذلك الضوء الذي سبق الضوء الذي يريد الشّاعر أن يتعرّض له وهو يكمن بالضبط في الظلام، ولذا على الشّاعر الذي يبحث عن الظلام في عزّ النهار أن يعمّق رؤيته في النهار، أيّ تحويل الضوء أكثر بريقا من تلقاء نفسه. إنّ ذلك الضوء الذي يسبق الظلام يعني نوعا من التوتّر أو الهاوية، حيث نجد الرؤية أكثر خفوتا، وأكثر شفافية، وفي هذه الشفافية والتوتّر نجد قصيدة ” الأبيض” .

 

تصالحُ الأضداد

لا يمكن النظر إلى المجاز كصورة من صور التقارب والتصالح بين الأضداد . الإستعارة، المجاز، الكناية تظهر في القصيدة أو تجتمع في العبارة التالية : نهر من الشموس، إنها تنصهر إلاّ أنّها لا تفضي إلى التواتر والمقابلات. كما أنّها لا تؤدّي إلى أيّ طباق أو مقابلة بين حقائق متغايرة، إنّ الإستعارة أو المجاز في قصيدة ” الأبيض” هما إنعطاف أو ميل أو إزورار للّغة، هما قفزة في الهواء للإنفلات من صمت النهاية، ومن الصّمت الأصلي، فالأبيض جزء من الصّمت الأصلي، إنه فجر الإبداع، وكلما إزدادت القصيدة تصاعدا وتناوشا يزيد معها ضمير ” باز” في الغليان، الصّمت الأصلي الذي يعبّر عنه باز بالأبيض يكمن في النهاية أو الغرض، وهو ضمير القول الشّعري، وإنّ إستمراريته وتصاعده يتصادمان مع أمر مستحيل وهو تجسيد الكلمة والعالم معا . وإنطلاقا من هذه البدهية فإنّ التبليغ الحقيقي لا وجود له سوى في اللّغة، وتأسيسها على هذا المنظورفإنّ العالم كمخلوق هو مجلوب، والقصيدة تغدو بمثابة مغناطيس له.

 

إنّ القصيدة في هذه الحالة تغدو تقييما للعالم كوحدة مجازية، وهي تخلق موازنة ظاهرية أو مصطنعة بين القصيدة والعالم، وهنا يحدث أنّ كلاّ من القصيدة والعالم في لحظة مّا يدخلان في حوار بينهما . ولم يتوفّر هذا المعنى لدى مالارميه الذي كان يعتبر العالم رمزا للّغة. فلدى مالارميه نجد اللغة تبتلع أو تحتوي العالم، فى حين أننا واجدون في ” الأبيض” اللغة هي التي تخاطب هذا العالم.

يعتبر “باز” العالم منذ البداية كوحدة مجازية . إنّ العالم يصبح مجازاً في لحظةٍ بيضاء، لحظات صمت.ذلك أنّه في الحين، أيّ بمجرّد إنطلاق دينامية اللغة تبدأ الحركة، ولهذا فإنّ القصيدة تبتدئ هكذا:

البَدْء

الأسَاس

البّذْرة

كامنةٌ مُضْمَرَة

والكلمةُ على طرف اللّسان

يبدأ العالم في ” الأبيض”باللغة، إنّ وضع المجاز واللغة والعالم على قدم المساواة في هذا المعنى يجعل القصيدة لا تواجه العالم بل إنها تحتويه كمخلوق جديد، حتى وإن كان العالم سابقاً للقصيدة، إنّ النصّ الشّعري لدى باز هو تأسيس للصّورة، أيّ إيجاد ما يوازيه ويقابله، وإيجاد طرف لا يعني إلغاء الآخر، بل يعني نوعاً من التعايش أو التعاطف أو التقارب بينهما.

اوكتافيو باز

 

جَمْرَةُ الكِتابة

إنّ العاصفة في قصائد ” باز” تغدو جمرةً متّقدة، أو قبساً ساطعاً لحظة الكتابة، وهنا يبدو لنا ضمير “باز”، ضميراً يعلم عن نفسه أكثر ممّا يعرف عن العالم الخارجي.

إنّ كلّ قصيدة في مواجهتها للعالم هي تجربة لغوية، إنّه يمكننا ضياع التاريخ، ولكن لا ينبغي فقدان العقل أو التمييز، ليس هناك فرق بين تقليد قديم وتقليد قائم، إنّ الصّورة التاريخية للإلياذة تعمل على تأسيس الماضي من جديد، إلاّ أنّ ذلك لا يمكن تحقيقه إلاّ إنطلاقا من حاضر، إنّ قصائد ” باز” مثل حالة العديد من القصائد المكتوبة باللغة الإسبانية اليوم، هي عودة إلى أشكال شعرية قديمة. هناك إتّجاه لعودة جنونية إلى عنصر الحكيّ في القصيدة للتواصل مع الماضي، أيّ تأكيد الهويّة ومدى إلتصاقها بالتراث.

إنّ البحث عن وسائل تعبيرية جديدة، وأغراض مبتكرة ليس فقط في أميركا اللاتينية بل في العالم الناطق بالإسبانية على العموم أمام ماض زاخر بالعطاء من كلّ نوع، يجعل شعراء هذه الأيام يشعرون بمرارة في أفواههم، وهم يتخبّطون في سديم الظلام، وفى خضمّ هذا الظلام، ينقشع خيط رفيع أو بصيص من نور خالص ونقيّ، هو ” الأبيض” لأكتافيو باز.

 

 

من أبٍ هنديّ وأمٍّ أندلسيّة

كان جدّه ذا ملامح هندية ينحدر من السكّان الأصلييّن للعالم الجديد، وكانت أمّه إسبانية تنحدر من أصل أندلسي، بدأ يقرض الشّعر منذ سنّ السابعة، بفضل الجوّ الثقافي الذي عاش في كنفه، في عام 1934 تعرّف على الإسباني”رفائيل ألبرتي” والتشيلي ” بابلو نيرودا” اللذين وجّها له الدّعوة للمشاركة في أوّل مؤتمر مناهض للفاشية في إسبانيا 1927، حيث عايش فيما بعد أهوال وظروف الحرب الأهلية الإسبانية التي سجّلها في قصيدته ” لن يمرّوا” (1936)، وقبل ذلك التاريخ نشر كتابه” أصل الإنسان” و”تحت ظلّك الواضح”.

يقول عن ذكرياته خلال لقاءاته المبكّرة مع بعض الشّعراء الكبار : “لقد تأثّرت كثيرا عندما شاهدت وتعرّفت على بابلو بيرودا الذي كنت معجبا به أشدّ الإعجاب”. عاد “باز” إلى بلاده المكسيك 1938، وشارك بحماسة في الحياة السياسية للبلاد، وأسهم بقسط وافر بمقالاته وشعره في جريدة” الشّعب” وسواها من المجلاّت الأخرى الأدبية بالخصوص.

 

من كتبه ودواوينه المعروفة: “متاهات الوحدة”، “الحاشية”، ” الماضي في وضوح”، ” حديث الشجرة”، “سحر الضحك”، “الشعر يتحرّك”، “بين الحجرة والزّهرة”، “على ساحل العالم”، “صقر أم شمس”، “حَجَرالشمس”(***)، “الماء والرّيح”، “سالاماندرا”، “الرّيح الخالدة”، ” الأبيض”، “أبناء الهواء” وغيرها من الأعمال الإبداعية الأخرى معظمها شعراً، بالإضافة إلى أعمال أخرى عديدة في مجالات الدّراسات والنقد، والإجتماعيات، والفنون وهي كتابات تتّسم في مجملها بالعمق والرّمزية العميقة البعيدة الغور، والتحليل البليغ، ومن الكتب التي وضعها باز قبل رحيله كتاب”أخبار قصيرة حول أيام كبيرة” و هو يحلل فيه فشل الأيديولوجيات الإشتراكية في أوربا الوسطى والشرقية.

يقول عن السّوريالية في خطاب إلى الناقد والمترجم الفرنسي “كلود كوفون”:”إنّ تأثير السّوريالية عليّ كان حاسماً كمذهب وليس كموقف، لقد وجدتُ في السّوريالية فكرة التمرّد، وفكرة الحبّ والحرية وعلاقتهما بالإنسان، إنّ طبيعتها الغامرة والروحية الجماعية ومحاولاتها المتوالية لتجسيد الزمن وقرض الشعروجعل موضوعها الإنسان قد أخذت بمجامعي”، إنه يقول:

أبحث ولا أجد شيئاً- أكتب وحيداً- ليس معي أحد- يجنّ الليلُ – يمضي الحَوْلُ – وأهوى مع اللحظة – أسقط إلى القعر- دون أن يراني أحد – أدوس المرايا التي تعكس صورتي المهشّمة – أطأ الأيام – أطأ اللحظات – أطأ أفكارَ ظلّي – أطأ ظلّي – بحثاً عن هنيهة.

 

ويقول في غنائيته المكسيكية الشهيرة : إنّ شعبي عندما يحتسي القهوةَ – يحدّثني عن ” خْوَارِيثْ” و”بُورْفِيريُو” – وتحت اللّحاف تفوح رائحة البارود – وَالِديِ عندما يحتسي كوبَ نبيذٍ – يحدّثني عن ” إميليانُو سَاباَتَا” و” بَانشُو فييّا ” – وتحت اللّحاف تفوح رائحة البارود – تُرى عمّن كان بإمكاني الحديث أنا…؟!

ولقد إحتفلت الأوساط الأدبية منذ بضع سنوات في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس ( إسبانيا والعالم الأميركي اللاّتيني) وخارجه بالذّكرى المائوية الأولى لميلاد الشاعر أوكتافيو باز (الذي كان قد وُلد في المكسيك في 31 مارس 1914، وتُوفي بها في 19 أبريل 1998).

—————————

* كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأميركية للآداب والعلوم- بوغوتا- كولومبيا.

**أشعار أوكتافيُو باز الواردة أعلاه من ترجمة صاحب المقال عن لغتها الأصلية الإسبانية.

 *** أدْرِجَتْ ترجمةُ هذه القصيدة المُطوّلة كاملةً في كتابي أنطولوجيا( حَجَرالشّمس:ثلاثون قصيدة في الشّعر الأميركي اللاّتينيّ المعاصر)الصّادرعن المجلس الأعلىَ للثقافة(المشروع القوميّ للترجمة) -القاهرة-عام 2000 .

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *