التَّبعِيَّة الثَّقافِيَّة والهُوِيَّة

Views: 451

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

ليس موضوع التَّبعيَّة الثقافيَّة بجديد على الفكر العربيِّ على الإطلاق؛ ولعلَّ في “الصِّراع”، الذي انبثق قديماً، انطلاقاً من فكرة “الشُّعوبيَّة” في العصر العبَّاسي، وكذلك في “المعارك” الفكريَّة التي خاضها كثير من المثقفين العرب، إبَّان القرن التَّاسع عشر وعبر عقود عديدةِ من القرن العشرين، حول تغريب الثقافة العربيَّة؛ وما أحدثه ذلك “الصِّراع” وتلك “المعارك” من صخب إعلاميٍّ وعنف فكريٍّ، ما يشهد لهذه الحقيقة ويؤكِّدها. ويمكن القول، ههنا، إن الموضوع ينفلش، واقعيَّاً، بين توجُّهات منهجيَّة تقليديَّة ثلاثة، تتجلَّى في التيَّار المتشبث بالتُّراث والرَّافض للوافد، والتيَّار المنفتح على الوافد، والتيَّار الإصلاحي الذي يسعى إلى جمعٍ ما بين التيَّارين الأولين[1].

أثبتت حيويَّة العيش الإنسانيِّ أنَّ الأمر ليس في حقيقته صراعٌ بين قوى متعارضة فيما بينها، لا بدَّ لإحداها من أن تتغلَّب على سواها بل وأن تُلغي هذا السِّوى؛ وأن الأمر، كذاك،  ليس مجرَّد معادلة رياضيَّة تسعى إلى أخذٍ معيَّن من كل جانب. واقعُ الحال، إنَّ حيويَّة العيش الإنسانيِّ أثبتت أن ما يفرض وجوده على “الهويَّة الثقافيَّة”، هو مِنْ صُلب ما يحتاج إليه الإنسان في حقيقة الإحتياجات الجوهريَّة لعيش زمنه، فضلاً عن الطَّبيعة الواقعيَّة العمليَّة لهذا العيش.

        يمكن القول، ووفاقاً لمنهجيَّة إبراهام موسلو  (Abraham Maslow) الشَّهيرة،[2] إنَّ احتياجات العيش قد تتموضع بين ما هو جوهريٌّ، لا غنى عنه في فاعليَّة العيش، إذ يشكِّل الخلفيَّة الأساس التي تنبني منها وعليها “الهويَّة الثقافيَّة” لأي عيش إنسانيٍّ؛ وما هو غير جوهريٍّ، يمكن لأساسيَّات الخلفيَّة “الهويَّة الثقافيَّة” أن تنبني من دونه[3]. وعلى سبيل المثال، فإنَّ “العقيدة” أو “الأيدولوجيا”، دينيَّة أو غير دينيَّة، يمكن اعتبارها من الاحتياجات الجوهريَّة في هذا المجال. إذ تنبنَّى  “العقيدة” أو “الأيديولوجيا”، ههنا، قِيَماً ومفاهيماً معيَّنة، تُحدِّد المقبول والمرفوض وتبيِّن ما هو واجبٌ وما هو استنسابي من الأمور، كما تتحكَّم في كثير من السُّلوكيَّات الإنسانيَّة لناسها؛ مِمَّا يساهم، بدوره، في تحديد “الهويَّة الثقافيَّة” لهؤلاء النَّاس. ولذا، فإنَّ الجانب التُّراثي من هذا العنصر “الجوهريِّ”، قد يبقى أكثر قدرة وأشد صلابة في مواجهة أيَّة متغيِّرات مستجدة أو وافدة؛ وذلك باعتبار أنَّ الجانب العقديِّ في التَّكوين النفسي الإنساني هو الجانب المنبني على كثير من الموروثات التي قد تدخل في نطاق ما هو محرَّم (Taboo)، ولا يمكن للمؤمن به المساس به تحويراً أو تحويلاً أو رفضاً.[4]

        تقعُ التَّبعيَّة الثقافيَّة، ضمن تصنيفين رئيسين؛ أحد التَّصنيفين يَسِمُها بالسَّلبيَّة، في حين يَسِمُها الآخر بالإيجابيَّة. وقد تتجلَّى السِّمة الإيجابيَّة، إذ يكون الوافد الثقافيُّ متجاوباً مع طبيعة “التُّراث”، على غير ما تناقض أو تعارض معها؛ أو تكون طبيعة هذا “التُّراث” لا تثير أي تعارضٍّ وطبيعة هذا الوافد الثقافيِّ. ويمكن أن تتجلَّى السِّمة السَّلبيَّة، إذ يكون هذا الوافد الثقافيّ متعارضاً مع طبيعة “التُّراث”، كأنَّ يكون من باب المحرَّمات ضمن مفاهيمها وقيمها. ومن هنا يمكن القول إنَّ دخول ما هو وافد أو جديد على مجالات “التُّراث” الفاعلة في تكوُّن “الهويَّة الثقافيَّة”، للفرد أو الجماعة، يمكن أن يقود إلى مشكلة “التَّبعيَّة الثقافيَّة” السَّلبيَّة، إذا ما كان المجال التُّراثي المعني يقع ضمن ما هو “محرَّم”(Taboo)؛ كما يمكن أن يقود إلى ما يمكن اعتباره من باب التكامل الثقافيِّ مع الوافد أو الغريب؛ خاصَّةً إذا ما كان، هذا الوافد يحمل السِّمة الإيجابيَّة.

لعلَّ بالإمكان الذَّهاب إلى أنَّ “الهُوِيَّة” عاملٌ أساسٌ وفعَّالٌ في تحقيق الوجودِ الفرديِّ أو الجمعيِّ للإنسان. وواقع الحال، فإنَّ “الهويَّة” هي المنطلق والمظهر، معاً، لأيِّ اعتقاد أو سلوك يصدر عن الفرد أو الجماعة؛ وهي ما يَسِمُ الفرد، كما الجماعة، بميسمها؛ فتكونُ دليلاً إليهم ودالَّة عليهم.

        وإذا ما كانت “الهويَّة” تتوزَّعُ على عددٍ من التَّنوُّعات الكيانيَّةِ لحضورها، كأن تكون جسديَّة أو عائليَّة أو اجتماعيَّة أو تاريخيَّة أو ما هو سوى ذلك؛ فإنَّ “الهويَّة الثقافيَّة” هي ما يهم في هذا المجال. إنَّ “الهويَّة الثقافيَّة” هي ما يحقِّق لحاملها، فرداً كان أو جماعة، حقيقة حضوره الحضاريِّ في العيش الإنسانيِّ المشترك؛ وهي ما بساهم في تحديد تفاعل هذا الحامل لها فمع مجالات هذا العيش وميادين التكيُّف معه أو رفضه. إنَّها ما يساهم، بصورة واقعيَّة، على أن يكون حاملها وجوداً انعزاليَّاً منغلقاً في العيش الإنسانيِّ، أو وجوداً مشاركاً منفتحاً في رحاب هذا العيش، بل قد يكون وجوداً قلقاً غير مستقرٍّ تتنازعه رياحُ العيش الإنسانيِّ في كلِّ اتِّجاه يمكن أن يكون فاعلاً في عيشه. وكيفما دار الأمر، فإنَّ “الهويَّة”، وفاقاً للمنهج الذي تتخذه في فهم الأمور والنَّظر إليها وفيها، هي من يقدِّم المساهمة الأساس في تقرير نوعيَّة التَّفاعل مع حضور “التُّراث” ومع حضور “الوافد” إلى هذا التُّراث ضمن تحديدها لمسارات ناسها في مجالات الاستجابة للاحتياجات الجوهريَّة لعيش الإنسان[5].

        بناء على هذا، فإنَّ “الهوية” باتت تقف أمام احتمالات تُحِدِّد كونها تواجه تحدٍّ من الآخر أو الوافد:

  • احتمال التَّحدي، الذي يكون إذا ما قامت “الهويَّة” على أن جميع الاحتياجات الجوهريَّة لعيش الإنسان، تتحقَّق عبر معطيات ما هو تراث لها، وأنَّ شخصيتها لا تنهض إلاَّ عبر هذا التًّراث وبه ومن أجله؛ فإنَّ هذه “الهوية” تتحمَّل المسؤوليَّة في اعتبار “التُّراث”، و”التَّراث الثقافيِّ” تحديداً، من المحرَّمات التي لا يجب المَسَّ بها؛ ويضحي حامل هذه “الهوية” في أتون صراعٍ إلغائيٍّ مع كلِّ ما خارج عن “التراث” أو وافد عليه.
  • احتمال غياب التَّحدي القائم على توجهين:
    • الانفتاح على الآخر بنهوض “الهوية” على أنَّ ما عندها من تراثٍ ذاتي ليس سوى جزء وجودها وحقيقة شخصيتها؛ إذ اكتمال وجودها يكون بالتفاعل الإيجابي مع ما تراه من أمور تطوِّر في تراثها من دون أن تمسَّ بأصوله أو جوهر كيانه.
    • أن يكون أمر “الهوية” قائماً على اللامبالاة سوى بتأمين الاحتياجات الجوهريَّة للعيشِ الإنساني، بغضِّ النَّظر عن أن يكون هذا التَّأمين عبر “تراث” أو “وافد؛

ومن هنا، فـ”التًّراث”، كما “الوافد”، لا يشكِّل أيُّ منهما عقبة في هذا المجال.

        ويبقى السُّؤال الأساس، هل من تحدٍّ يواجهه التًّراث العربيُّ في زمن العولمة؟ ويأتي الجواب، كامناً في طبيعة المنهج الذي يحمله العرب، أفراداً كانوا أو جماعة، في التعامل مع “التُّراث” ومع “العولمة”؛ بل في المنهج الذي يمكن اتٍّباعه لتحقيق الاحتياجات الأساسيَّة لعيش الإنسان.

***

 

[1]– يراجع:

  • Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Age 1798-1939, Oxford University Press, 1962.

[2]– عالم نفس أميركي الجنسيَّة، ( (1908 – 197.

[3]– يراجَع في هذا المجال:

  • Kabir Edmund Helminski,Living Presence: A Sufi Way to Mindfulness and the Essential Self, Jeremy P. Tarcher/Perigee Books, 1992.
  • Nina Rakowski, Maslow’s Hierarchy of Needs Model – the Difference of the Chinese and the Western Pyramid on the Example of Purchasing Luxurious Products, GRIN Verlag, 2011.
  • Kevin Avruch, Christopher Mitchell (editors), Conflict Resolution and Human Need: Linking Theory and Practice, Routledge, 2013.

[4]– ينظر:

  • Lynn Holden, Taboos-Structure and Rebellion, Monograph Series No. 41, The Institute for Cultural Research, U.K., 2001.

[5]– أنظر:

  • John Perry, Identity, Personal Identity, and the Self, Hackett Publishing, 2002.
  • Eric T. Olson , The Human Animal : Personal Identity Without Psychology: Personal Identity Without Psychology, Oxford University Press,1997.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *