كيف يفهم الشعبُ الثائرُ السياسة!

Views: 831

د. مشير عون

الجمعة 25 تشرين الأوّل 2019

في قاموس اللبنانيّين الثائرين لا تعني السياسة سوى التدبير الصالح من أجل صون حقوق الناس الأساسيّة، وردء المفاسد عنهم. أمّا السياسة، في مفهومها اللبنانيّ المنحرف، فهي سعيٌ محمومٌ إلى السلطة، وإلى الانتفاع من السلطة، وإلى التصارع على السلطة من أجل التأبّد في السلطة. السلطة هي إذًا العنصر الثابت في جميع هذه التعريفات. لذلك طفح الكيل لدى الشعب اللبنانيّ لشدّة ما عاين في هذا الضرب من السياسة من فساد وانحطاط، وكبرياء وتأليه ذاتيّ، وغدر وتخوين، ومتاجرة بالضمائر والذمم.

عرّف الفلاسفة السياسة فنًّا في تدبير شؤون المدينة الإنسانيّة من أجل تنظيم الاختلاف، واستثمار الموارد والطاقات في خدمة الإنسان الفرد والجماعة، وفي خدمة الطبيعة الحاضنة. وعرّفوها أيضًا تبصّرًا في تداول السلطة بواسطة التعبير الشعبيّ الحرّ والانتخابات الفهيمة الواعية. وعرّفوها أخيرًا تمييزًا للعدوّ من الصديق في حالة صون الحدود والدفاع عن الهويّة الوطنيّة والإرث الجماعيّ. أمّا في الأزمنة المعاصرة، فأصبحت السياسة الكونيّة اجتهادًا في بناء إنسانيّة الإنسان، بمعزل عن انتمائه القوميّ ومبايعته الدينيّة، واجتهادًا في صون طاقات الأرض وما فوق الأرض.

أمّا السياسيّون اللبنانيّون، فيهزأ معظمُهم من جميع هذه التعريفات، وينسبونها إلى عالم أفلاطون المثاليّ. لذلك بعد أن تفاقم الهزء واستشرى الفساد في غضون ثلاثين عامًا تعاقبت على انتهاء الحرب اللبنانيّة، أحسّ اللبنانيّون أنّ الطبقة السياسيّة سلبتهم كلّ أموالهم، وشرعت تتقاسمهم على العظام الباقية. ومن هذه العظام الأرض المشاع (أملاك الدولة) والغاز والنفط، على رجاء النيل من لحم الناس وبيع أعضائهم المفيدة في سوق الزرع الطبّيّ العالميّ.

كان لا بدّ إذًا من ثورة شاملة على السياسيّين الذين أفسدوا الإنسان اللبنانيّ، والأرض اللبنانيّة، والهواء اللبنانيّ. وفي رأيي أنّ الشعب الثائر ما زال حنونًا يرأف بهذه الطبقة السياسيّة الفاسدة، إذ إنّه لا ينادي بالمقصلة والإعدام، على طريقة الثوّار الفرنسيّين. لذلك يجدر بالجميع الإصغاء إلى أنين الناس، والقبول بتأليف حكومة منبثقة من أوجاع الناس. فتغيير الحكومات هو من أبسط إجراءات الديموقراطيّة العالميّة. وما من مبرّر يسوّغ الإبقاء على الحكومة الحاليّة، ولئن تحجّج بعضُهم بانهيار السماء على لبنان. فالبنية اللبنانيّة مهترئة حتّى النخاع. وإذا سقطت هذه الحكومة، فلن يؤثّر السقوط اهتراءً في الاهتراء.

الحلّ العمليّ ممكن : ها هوذا رئيس البلاد يدعو إلى محاورة ممثّلي الشعب الثائر؛ والشعب الثائر يطالب بحكومة تصغي إلى أنينه. لذلك أقترح أن يقبل الشعبُ بمحاورة الرئيس، وأن يشجّع الرئيسُ على تأليف حكومة لا ترقيع فيها، يأتي إليه أعضاؤها من ممثّلي الشعب غير الحزبيّين. فيتهيّأ له أن يحاورهم وقد التأموا حوله في مجلس الوزراء، تزيّنهم عصمتُهم الأخلاقيّة ونزاهتُهم وكفاءتهم، ويحميهم مقامُهم الوزاريّ في صميم السلطة التنفيذيّة. حينئذ يعود الشعبُ إلى حياته اليوميّة، وتنصرف حكومة الثورة، وقد التأم أعضاؤها حول الرئيس، إلى المحاسبة واسترجاع الأموال، وترميم الهيكل الإداريّ المتهاوي، واستعادة ثقة اللبنانيّين بوطنهم وبمجتمعهم السياسيّ الجديد. 

أمّا إذا انحرفت هذه الحكومة الجديدة عن مسرى الإصلاح، فالشعب غدا جريئًا على كسر المحظورات السياسيّة والتنديد بالفساد، أنّى انعقدت تواطؤاته، من أعلى الهرم حتّى أسفله. هو الحلّ العمليّ الوحيد إذا ما أرادت السلطة أن تنقذ الوطن من الهلاك. فالناس، حين يجوعون، يضربون في الأرض عنفًا وهدمًا وخرابًا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *