الرِّيادةُ وغِيابُ مُقَوِّمات الانتشار

Views: 451

أنموذج

(أمين الرَّيْحَاني في تقديمه “لزوميات” أبي العلاء المعري)

د. وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي اسلامي)

نَشَرَ أمين الرَّيحْاني في سنة 1903، تَرْجَمَةً إنكليزيَّةً قام بها لِبَعْضِ رُباعِيَّات أبي العَلاء المَعَرِّي من ديوانه المعروف بـ “اللُّزُومِيَّات”؛ ونُشِرَت هذه التَّرجمةُ، للمرَّة الأولى سنة 1903، من قِبَلِ Doubleday,Page& Company في نيويورك تحت اسم “The Quatrains Of Abul~Ala”. ولَمْ يكتفِ الرَّيْحَاني بهذا، بل مَهَّدَ لهذه التَّرجمة بقصيدة، وضعها بِاللغةِ الإنكليزيَّةِ، مُتَوَجِّهاً بها إلى أبي العلاء وإلى التَّجْرُبَة الحياتيَّة والفكرية لهذا الشَّاعر؛ ثم عطف على هذا بمقدمة تناولَ بها جوانبَ من أدبِ المَعَرِّي وفكره. وَلعَلَّ هذا العمل، من قِبَلِ أمين الرَّيْحَاني، يُشَكِّلُ أوّل تعاملٍ رصينٍ مع المَعَرِّي يَقومُ بهِ عربيٌّ مُعَاصِر.

وإذا ما كان الدكتور طَه حُسَيْن أحد أبرز الروَّادِ العرب شُهْرة  في درس المَعَرِّي؛ فإنَّ طه حُسَيْن كان، يومَ نَشَرَ الرَّيْحَانيُّ عمله هذا عن المَعَرِّي، فَتىً في الرَّابعة عشرة من عمره يُمْضى سَنَتَهُ الثَّانية مِنَ الدَّرْسِ في الأَزْهَر. بل إنَّ اهتمامَ طه حُسَيْن بالمَعَرِّي، كان من الأسباب التي دفعت، وقتذاك، بالأديبة مي زيادة إلى الحديث عن طَهَ حُسَيْنأمام أمين الرَّيْحَانيِّ، وسعيها إلى تقريب “الشَّيخ طه”، الباحِثِ النَّاشئ مِنَ “الأستاذ الرَّيْحَاني”، كما تَذْكُرُ مَي.

واقعُ الحال، كانَ ما كتبَهُ الدكتور طه حُسَيْن عن المَعَرِّي باللغة العَرَبِيَّة؛ فانتشر هذا المكتوبُ بين أهل العَرَبِيَّة وناسِها؛ أمَّا ما قدَّمه الرَّيْحَانيُّ عن المَعَرِّي، في هذا العمل بالذَّات، فكانَ بِالإنكليزيَّة؛ ولعلَّ في هذا ما ساعدَ على حصول أمرين وَسَما الرَّيْحَاني ههنا. يتمثَّلُ أَوَّلُ هذينِ الأَمْرَيْنِ في أنَّ الرَّيْحَاني أحرزَ شُهرَةً بين العرب بأنَّه ترجم بعضاً من شِعْرِ المَعَرِّي إلى الإنكليزيَّة؛ فيما يتمثَّلُ الثَّاني في أنَّ هذا العمل للرَيْحانيِّ، على شُهرته، لَمْ يَلْقَ مَا يَسْتَأهِلُهُ مِنَ الإَقْبَالِ على دَرْسِهِ والبحثِ فيه والإفادة من تجربَتِهِ وإعطائه حَقَّه مِنْ قبل الباحثين العرب. ولذا، ظلَّ هذا الجهد الذي قام به الرَّيحاني تجاه المَعَرِّي، مغموراً بَحْثياً، وإن اشتُهِرَ إعلاميَّا.

غلاف طبعة لترجمة الريحاني للزوميات صدرت سنة 1920

 

ولعل ما أصاب الرَّيْحَانيَّفي هذا الأَمْر يُشبهُ، إلى حَدٍّ بعيدٍ، ما حصل مع مُعاصِرِهِ سُليمان البُسْتَاني. لقد نقل البُسْتانيُّ”الإلياذة” إلى العَرَبِيَّة سنة 1904؛ وقدَّم لهذا التَّعريب بدراسةٍ مُقَارَنَةٍ مهمَّة عمَّا اعتبره بداوة العرب وبداوة اليونان، فضلاً عن عرضٍ منهجي مُسْهَبٍ لِمفهومه للتَّرجمة الأَدَبِيَّة.  والذي حصل أنَّ  سليمان البستانيَّ اشتُهِرَ على أنَّه “مترجم الإلياذة”، بيدَ أنَّ المادَّة المَعْرِفيَّة الغنيَّة التي حوتها مقدِّمته لترجمته للإلياذة، والغنى الثَّقافيِّ المُذْهِل الذي أحاط بموضوعات هذه المقدِّمة، ظلاَّ من الأمور التي قَلَّ أن تَطَرَّقَ إليها باحثٌ عربيٌ أو دارسٌ في تاريخ الثَّقافة العَرَبِيَّة والنَّقد الأدبيِّ العربيِّ. وكما حاقَ هذا الظُّلمُ بجهد سُليمان البُسْتَانيِّ، فإنَّه أصابَ، وإن لأسبابٍ مُختلفة، الرَّيْحَانيَّ في القصيدة والمقدمة اللَّتين وَضَعَهُما حَوْلَ تَرْجَمَتِهِ لِلْمَعَرِّي.

مِنَ الجَلِي أنَّ الرَّيْحَاني كانَ يتوجَّهُ بعملهِ هذا إلى القارئ الغربِّيِّ، وتحديداً إلى القارئ باللُّغة الإنكليزيَّة. وهنا ثمَّة ما يُمْكِنُ أن يُشَكِّلَ بعضَ العُذْرِ للدَّارسِ العربيِّ، الذي لَمْ يَبْدُرْ منه اهتمامٌ جِدِّيٌّ بالعمل؛ ما سَاهَمَ في حرمان هذا القارئ من غِنىً فكريٍّ وثقافيٍّ كان الرَّيْحَانيُّ يعيشُ فيه وبِهِ ولَه. وكان القارئ العربيُّ، وفي تلك المرحلةِ الزمنيَّة بالذَّات، في أمَسِّ الحاجةِ إليه. ومع مرور أكثر كم قَرْنٍ من الزَّمن على ما وضعه الرَّيْحَانيُّ من شعر ودرس حول المَعَرِّي، فإنَّ الوقت لَمْ يَفُتْ!!

لا يزالُ ما يقدِّمه أمين الرَّيْحَاني عَبْرَ “القَصِيدَة” وكذلك ”المُقَدِّمَة” يشكِّلُ إغراءً
للباحثِ والمُثَقَّفِ معا. فـ”القَصِيدَة”، وهي موضوع هذه الدِّراسة، على أن تُفردَ لاحِقاً دراسةٌ خاصَّةٌ لـ”المُقَدِّمة”،  تكشفُ عن أَمْدَاءَ مُعَيَّنَةٍ من الفِكر والانفعال اللَّذين انتظما علاقة الرَّيْحَانيَّ بِالمَعَرِّي، كما تُظهِرُ بعضَ المفاتيحِ التي تُمَكِّنُ من الدُّخول إلى مجالاتِ مِنَ الفاعليَّة الشِّعريَّةِ لدى الرَّيْحَانيّ.

إنَّ في “المُقَدِّمَة ما يؤكِّدُ وحدةَ مُنْطَلقاتِ التَّوجُّهِ بين المُعاناةِ الوجدانيَّةِ الانفعاليَّة والتَّحليلِ الفكريِّ المنطقيِّ عند الرَّيْحَانيِّ؛ كما أنَّها تُبَيِّنُ بعض الأبعاد الأكَّاديميَّة التي انتظمت منهجيَّةَ التَّفكير عنده؛ وشكَّلَت، في بعض مناحيها، سَبْقاً مَعْرِفياً لِلهواجسِ الثَّقافيَّةِ والمَعْرِفية التي سادت البيئةَ العَرَبِيَّةَ في تلك المرحلة من مطلعِ القرن العشرين. ولعلَّ من أبرز مظاهر هذا السَّبْقَ المَعْرِفيِّ، ما قام به الرَّيْحَانيُّ، في “المُقَدِّمةِ” هذه، من مُقَارَنَةٍ أدبيَّةٍ وتاريخيَّةٍ وحضاريَّةٍ، ومن تحقيقٍ تاريخيٍّ وأدبيٍّ، ومن طرح منهجيَّةٍ في التَّرجمةِ الأَدَبِيَّة، وأخيراً وليس آخراً، من تقديم رؤيةٍ تَرْبُطُ بينَ الأدبِ وعَلاقَتِهِ بالواقعِ المَعيش.

تتألَّفُ “القَصِيدَة”، المكتوبةُ بِلُغَةٍ إنكليزيَّة لافتةٍ في أناقتِها ورِفْعَتِها، من ثلاث عشرة رُباعِيَّة، يُخاطِبُ عَبْرَها الرَّيْحَانيُّ المَعَرِّيَّ. إنَّها، كما تنبلجُ على صفحات الكِتابِ، حديثٌ من ناضجٍ واعٍ مسؤولٍ عمَّا يقوله، إلى آخر سَبَقَهُ، قَبْلَ قُرونٍ، إلى النَّهلِ من ينابيعِ النُّضجِ والوعي والعيشِ في تَجَليَّاتِ مسؤوليَّة الكلمة.

يُمْكِنُ للمَرءِ أن يَجَدِ في “القصيدة” مُقاربَةً بين الرَّيْحَانيِّ والمَعَرِّيِّ؛ وفيها، كذلك، وعيٌ شديدُ وشوقٌ دافقٌ إلى متابعةٍ ما، يَبْغيها الرَّيْحَانيُّ من تجربة المَعَرِّيِّ. وتنتهي “القصيدة” إلى إجلالٍ مُحَلِّقٍ في سُمُوِّهِ لِلْمَعَرِّيِّ ولتلك الحُرِيَّة التي عايَنَها وعَانَاها في سعيه الدَّؤوبِ إلى  إِزهارِ العَقْلِ في بساتين العقل الإنسانيِّ وتَعَمْلُقِعهذا العقل على الرَّغم مِن السُّجونِ والمَحَابِسِ التي تَظَلُّ ساعِيَةً  إلى الإحاطةِ به وَغَمْرِ شَعْشَعانِيَّةِ سَناهُ بِعَتْمِ دناءتِها.

أمين الريحاني سنة 1903، يوم ترجم لزوميَّات المعرِّي وقدَّم لها

 

يَتَجلَّى فَضاءُ “القَصِيدَة” عَبْرَ ما يُمْكِنُ اعتِبارَهُ زواجاً بين الوُجدانِ والعقل. فالمَقولُ الرَّيْحَاني ليسَ وَجْدَاً عاطِفِيَّاً مَحْضَا، بل هو الوجدُ العاطفيُّ الذي لا يَجِدُ اشتعالَهُ إلاَّ من نارِ العقل. فـ “القَصِيدَة” ليست، هاهنا، انفعالاً شَغِفَاً وحسب؛ بَلْ هِيَ الانفعالُ الإنسانيُّ الذي حَرَّكَهُ كلٌ مِنْ شَوْقِ العقلِ ورغبةِ المنطقِ في تحقيقِ وجودهما، فتأجَّجَ الانفعالُ لهيبَ بَحْثٍ عن حقيقةِ مَداه، وما كان لَهُ أن يَجِدَ هذا المَدى إلاَّ في الحُرِيَّة. ومع هذا التَّمَظْهُرُ للحُريَّة، يَرْتَسِمُ أُفُقُ لفَضَاءِ “القَصِيدَة” بِفاعِلِيتينِ أساسيتينِ؛ إحداهُما صِراعيَّةٌ، في حين أنَّ الأخرى تَكامُلِيَّة.

تتكوَّنُ الفاعِليَّةُ الصِّراعيَّة في “القَصِيدَة” من تَشَكُّلاتٍ بنائيَّة تَقومُ على العقلِ والخيال أو العاطفة، والحكمة أو الروح؛ وهذا ما يُعَبِّرُ عنه الرَّيْحَانيُّ في الرُّباعيَّة الأولى؛ أمَّا غايةُ هذا التَّفاعلُ البِنَائيُّ فهي الخلاصُ من السِّجْنِ والوصولُ إلى  النُّور/الحُرِيَّة.

يَلْفُتُ الرَّيْحَاني عَبْرَ “القَصِيدَة” أنَّهُ ثَمَّةَ سُجوناً للعقلِ والعاطفةِ والرُّوحِ، وأن على من وَجَدَ نفسَهُ في عَتْمَةِ هذه السُّجونِ البَحْثَ لِنَفْسِهِ عَنْ دَرْبٍ إلى النَّور، إلى الحُرِيَّة.هكذا كانت حِكايةُ المَعَرِّي، وهكذا كانت تجربته؛ إذ العقلُ والخيالُ، أو العاطفة، والحكمةُ أو الرُّوحُ تبحث جميعاًعن تَجَلٍّ لها، وهذا التَّجلي يكون إمَّا بِسِجْنٍ أو بحُريَّة؛ والحُرِيَّة وحدها طريقُ النُّور الذي لا يُمْكِنُ سُلوكه إلاَّ من خِلال مَمْلَكَةِ العَقْلِ التي لا حَدَّ لها.ولِذا، فإنَّ الرَّيْحَانيَّ يَتَوَجَّهُ، في نصِّه الشِّعريِّ هذا، إلى المَعَرِّي؛ مشيراً إلى أنَّ هذه الصِّراعيَّة هي صِراعيَّةُ السِّجْنِ والحُرِيَّة من خِلال سعي العقلِ والخيالِ أو العاطفة، والحكمةِ أو الرُّوحِ إلى تجَلٍ لها.

يظهرُ العُنْصُرُ التَّكامُليّ في “القَصِيدَة”، مِنْ خِلال العَلاقةِ التي يُقيمها الرَّيْحَاني بَيْنَهُ وبين المَعَرِّي. وتكشفُ عناصرُ التَّكامُلِ عن ذاتِها عَبْرَ وجهين أساسيين، ولعلهما وجهان مُتكاملانِ. يتمثَّلُ الوجه الأوَّلُ في وِحْدَةِ التَّجْرُبَة الفكريَّةِ التي عاشها المَعَرِّي  والرَّيْحَاني.أما الوجه الثاني، فيتوضَّحُ عَبْرَ تعبيرِ الرَّيْحَاني عن كَوْنِهِ والمَعَرِّي يشكلان، امتداداً لأصلٍ واحدٍ أو لِجَذْرٍ حَضاري أو إنساني مُشْتَرَكٍ عَريق؛  فَكِلاهُما ينتميانِ إلى حضارةٍ واحدة.ولعلَّ هذا الانْغِرازَ في الأصلِ الواحد، هو ما جعل من التَّجْرُبَة الفكرية لكلٍّ منهما مُشْتَرَكاً في المُعاناةِ الوجودِيَّةِ ومُعايَنَتِها. فالرَّيْحَاني، كما المَعَرِّي، باحثٌ عن الحُرِيَّة عبر الاعتماد على العَقْلِ.

 لَعَلَّ بالإمكان الإشارة، هاهنا، إلى أنَّ “القصيدة”، على غِنى ما فيها من براعةٍ في البِناء الفَنّي، وهي براعةٌ تَسْتَأهِل وِقْفَةً مُطَوَّلةً عِنْدَها إذ تَقومُ على واحدةٍ من التَّجارُبِ الرَّائدة في التَّشَكُّل الشِّعري، تُشير بصفاءٍ إلى المدى الرؤيوي لِتَجربةِ المَعَرِّي عَبْرَ ما كان يعاينه الرَّيْحَاني ويعانيه؛ بل لعلَّ فيها تأكيداً أن الرَّيْحَاني لم يَجِدْ في المَعَرِّي إلاَّ المرآة الأكثر صدقاً والتأسيس الأشد وعياً لما كان يعيشه هو نفسُهُ في الثلث الأخير من القرن التَّاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

****

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *