الثورة عينُها في أشكال أخرى!

Views: 447

د. مشير عون

(الخميس30 تشرين الأوّل 2019)

لم تنتهِ الثورة ولن تنتهي. هي في حالة الترقّب الفطِن. قد تتغيّر أشكالُ الثورة، ولكنّ جوهرها يظلّ هو إيّاه. عنيتُ به أوّلًا مقاومة الظلم، وفي هذه المقاومة أشرفُ ضروب السعي الإنسانيّ. وعنيتُ به ثانيًا استئصال الفساد، وفي هذا الاستئصال شفاءُ الاجتماع اللبنانيّ من أسقامه. وعنيت به ثالثًا تجديد البنيان اللبنانيّ بأسره، وفي هذا التجديد ضمانة الديمومة التاريخيّة والانتعاش الكيانيّ والازدهار الثقافيّ.

يخطئ اللبنانيّون الثوّار حين يظنّون أنّهم أخفقوا في تحقيق بعضٍ من مقاصد الثورة ومطالبها. فالغاية الأولى من كلّ ثورة مساءلةُ الواقع في جميع وجوهه. وها هم أُولاء اللبنانيّون يبرهنون أنّ الواقع اللبنانيّ أضحى معطَّلًا في جميع حقوله الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والتربويّة. لذلك يجب النهوض بعزم وبصيرة من أجل تفكيك أسباب التعطّل. لبنان أضحى جماعةً معطَّلة في عمق مبانيها الدستوريّة والقانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. وما من سبيل إلى مداواة هذا التعطّل من دون الثوران الذي يهزّ العمارة كلَّها.

في إثر الثورة العظمى التي خلخلت البنيان المهترئ، أضحى من الواجب الآن أن يثور اللبنانيّون ثورة هادئة في كلّ حقل من الحقول. ذلك بأنّ الاعتلال في لبنان هو ظاهرةٌ منبثقةٌ من تواطؤ الاختلالات المتراكمة المتداعية المتدافعة في كلّ ميدان من ميادين الحياة اللبنانيّة. فالاختلال في الوعي الذاتيّ يُفضي إلى الاختلال في الاجتماع. والاختلال في الوعي الوطنيّ يُفضي إلى الاختلال في السياسة. والاختلال في الوعي التربويّ يُفضي إلى الاختلال في تدبير المجال العامّ وضبطالإدارة العامّة. والاختلال في الوعي الدينيّ يُفضي إلى الاختلال في اختبار التنوّع الروحيّ اللبنانيّ. 

ومن ثمّ، فإنّ الثورة يجب أن تستمرّ في أشكال نضاليّة أخرى لا تُقصي على الإطلاق إمكان الاحتشاد الاعتراضيّ الأوسع والأكثف في الشوارع حين يتيقّن الناسُ من أنّ الطبقة السياسيّة الحاكمة، على تضارب أطيافها، ما برحت تماطل وتُسوِّف وتساوم وتتملّص رويدًا رويدًا من غضب الناس ومن مسؤوليّاتها التاريخيّة. من الحكمة، والحال هذه، أن يلائم الناسُ بين ضربين من الثورة : الثورة الصاخبة الراعدة التي اختبرها لبنان في الأسبوعين المنصرمين، والثورة الهادئة الفاعلة التي تُكبّ على مساءلة كلّ ما يجري في العلن وفي الخفاء، وفي الظاهر وفي الباطن من على مسرح الحياة اللبنانيّة بأسرها.ثورةٌ بنيويّةٌ عميقة تنقّب عن أسباب التقهقر والتدهور، وتتبصّر في سبُل التقويم والإصلاح، وتستشرف إمكانات النهوض الصادق والبناء السليم.

لا شكّ في أنّ تساكن الثورتين هو الضمانة الوحيدة التي تنقذ الشعب اللبنانيّ الثائر من تعقّدات الواقع السياسيّ اللبنانيّ، ومن دهاء الطبقة السياسيّة الماكرة، ومن ترف الاختلافات التافهة على مكسب أيديولوجيّ، وموقع طائفيّ، ومنصب حزبيّ. خوفي أن يكون الناسُ وأربابُ السلطة قد أغفلوا أمرَّ الحقائق اللبنانيّة، ألا وهي تصدّع البنيان اللبنانيّ الذي ينذر بأوخم العواقب. على الناس أن يدركوا أنّ زعماء الطوائف وأرباب السلطة وأصحاب الثروات الفاسدة لن يدّخروا جهدًا في التلاعب المشين القبيح بالأحاسيس والغرائز والميول حتّى يجعلوا الشعب يقاتل بعضه بعضًا، عوضًا من أن يقاتلهم قتالَ المساءلة الدستوريّة والمحاسبة القضائيّة والاقتصاص القانونيّ في السجون. ما من زعيم فاسد مرتكب يرتضي أن يبلغ الشعبُ اللبنانيّ اليوم مستوى الحدّ الأدنى من الوعي المتطلّب، والحرّيّة المسؤولة، والنقد الذاتيّ التهذيبيّ، والمحاسبة الموضوعيّة الصارمة. اتّكالُهم على الفقر المدقع الذي أصاب شرائح شتّى من المجتمع اللبنانيّ، وهو الفقر الذي تسبّبوا هم فيه. واتّكالُهم على العصبيّة الطائفيّة التي تغشّي بصرَ الناس، وهي العصبيّة التي أضرموا هم نارها حين تلكّأوا عن فرض الزواج المدنيّ الشامل وإعتاق الناس من سلطة رجال الدين الطائفيّة.فلتكن الثورة ثورتين، ثورة الانتفاض الجارف وثورة الإدراك العاقل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *