العنف الثورويّ نهاية لبنان! 

Views: 556

د. مشير عون

(السبت16 تشرين الثاني 2019)

يبدو لي أنّ المشهد اللبنانيّ تكتنفه الظلماتُ القاتمة لشدّة التناقضات التي تتجاذبه. فالسلطة السياسيّة مصرّةٌ على الاحتفاظ بقسطٍ وازنٍ من نفوذها في الحكومة، والثورة الشعبيّة مصرّةٌ على مطالبها في التغيير الجذريّ الفوريّ، لاسيّما في السلطة التنفيذيّة. إذا استمرّ الوضع على هذا التوتّر، فإنّ الشلل سيصيب البنيان اللبنانيّ بأسره. من آثار هذه المنازعة أن تنتشر الفوضى، وأن تسقط الضوابطُ الأخلاقيّة الذاتيّة، وأن تلتهب النفوسُ بعنفوان الثورة، فتأتي النارُ على ما بقي من هذه الأرض المسلوبة الملوَّثة وهذا الوطن المنهوب المسيَّب.

في هذه الضمّة الأولى من التأمّلات الفلسفيّة السياسيّة حاولتُ أن أبيّن في روح الموضوعيّة الناقدة عناصرَ التعقّد التي تشتبك اشتباكًا خطيرًا في مسرى الثورة اللبنانيّة المنشودة. سأواصل التأمّل عينه، ولكن من غير الإفصاح اليوميّ، لعلّني أفوز بإدراك أفضل لما هو مُقبِل إلينا وعلينا. رجائي الوحيد أن تظلّ الثورة على صفائها، من غير انجرار إلى العنف الثورويّ، وأن تجرؤ السلطةُ على مساءلة ذاتيّةنقديّة، من دون استخدام العنف الترهيبيّ. في كلتا الحالتين سيُفضي العنفُ إلى انهيار الهيكل اللبنانيّ بأسره، على نحو ما حدث في الحرب اللبنانيّة الأهليّة.

كنتُ آنذاك في العاشرة من عمري حين أرعبتني الحربُ بأهوالها وفظائعها. كنّا نختبئ في بيوتنا القرميديّة العتيقة في حارة الراسيّة بزحلة، الحارة التي أنشأها وأحياها أهلُ البقاع الشماليّ، ويلوذ بعضُنا ببعض هربًا من قصف المدافع وحصار النار المضروب علينا. وكنتُ أسمع أهلي والجيران والأصحاب يسألون عن سبب الحقد الناشب بين لبنان والأشقّاء العرب، وجميعهم متورّطون في هذه الحرب، في حين أنّ العدوّ الإسرائيليّ كان يُعدّ العدّة للانقضاض على الاختبار اللبنانيّ الجريء يضربه في انفتاحه الحضاريّ، وتعدّديّته السَّمْحة، وحرّيّته الفكريّة المتدفّقة عنفوانًا واتّقادًا.

في هذه الحرب اللبنانيّة تقاتل اللبنانيّون باسم شعارات قوميّة ودينيّة وأيديولوجيّة، وتناحروا نصرةً لأنظمة استبداديّة، وتذابحوا اختلافًا على هويّة لبنان، ونكّل بعضُهم ببعض تأييدًا لمحورٍ من هنا ومحورٍ من هناك. سوَّغ اللبنانيّون العنف الدمويّ بأبشع مبرِّرات الدفاع عن قضايا أيديولوجيّة ملتبسة سقط معظمُها بعد سقوط حائط برلين، وفي إثر سقوطها تَغيّر المشهد السياسيّ الكونيّ كلُّه. خوفي اليوم أنّ الجيل الجديد الذي أبصر النور في منتصف الثمانينيّات من القرن العشرين لا يعرف من فظائع هذه الحرب سوى رواياتها المتواترة. أمّا غضبي، فعلى اللبنانيّيّن أنفسهم الذين ما برحوا يُخضعون مشيئتهم للطبقة السياسيّة عينها التي تسلّطت على رقابهم، وللأسر العشائريّة الإقطاعيّة نفسها التي استغلّت أوجاعهم ومصائبهم.

بيد أنّ القلق الأعظم ينتابني حين أعاين من على بُعد كيف أنّ اللبنانيّين ينجرفون في لاوعيهم المضطرب إلى التعانف الأخطر من أجل الالتباسات الأيديولوجيّة عينها، والإشكالات السياسيّة نفسها، والاختلالات الاجتماعيّة ذاتها. وهذه كلّها تتّخذ أسماء أخرى تلتحف بها التحافًا يضلّل الناس تضليلًا. وما أشبه اليوم بالبارحة! ما تغيَّر شيء منها منذ أن وضعت الحرب أوزارها. فالمعيّة اللبنانيّة يخنقها تواطؤ السلطتين الدينيّة والسياسيّة، في حين أنّ المطلوب اعتماد عَلمانيّة هَنيّة تصمن المساواة في الكينونة الإنسانيّة الواحدة وفي الهويّة الوطنيّة الواحدة، وتميّز المجالَ العامّ من المجال الخاصّ، وتصون التراثات الروحيّة في نطاق إسهامها الفكريّ المغني من خارج دائرة الفعل السياسيّ. والبنية الاجتماعيّة اللبنانيّة مختلّةٌ باختلال النظام الاقتصاديّ المتوحّش الذي يزيد الفقراء فقرًا والأغنياء غنًى، فيحرم المناطق من الإنماء المتوازن، ويبني الحيويّة الإنتاجيّة على الريع المصرفيّ الخدماتيّ الماليّ وحسب. والإدارة اللبنانيّة ينخرها الفساد، وقد تعاظمت نِسَبُه بعد انتهاء الحرب حتّى أنهكت الخزينة إنهاكًا. والسيادة اللبنانيّة تترنّح متأثّرةً بتنازع الولاءات الإقليميّة وتفتّت التضامن النضاليّ من جرّاء التوتّر الطائفيّ المذهبيّ المقيت. فاللبنانيّون يُجمعون نظريًّا على ضرورة تحصين وطنهم وصون سيادتهم، ولكنّهم يختلفون اختلافًا خطيرًا على السبُل والكيفيّات والطرائق. فالسيادة في نظرهم مسألةٌ تحتمل التأويل!

هي الانسدادات البنيويّة عينُها تعطِّل العقل السياسيّ اللبنانيّ، وتشلّ الاجتماع اللبنانيّ، فتشوِّه فيه التربية وتُنهك الاقتصاد وتستبيح البيئة. معيّةٌ مضطربةٌ، واقتصادٌ متوحّشٌ، وفسادٌ مستشري، وسيادةٌ ملتبسةٌ. على تعاقب سنوات الاستقلال، ظنَّ بعضُ اللبنانيّين أنّ الوعي القوميّ العربيّ الوحدويّ هو المنقذ من الضلال. وتهيّأ لبعضهم الآخر أنّ الحنكة السياسيّة والمحاصصة الطائفيّة والشطارة الاقتصاديّة الفاسدة هي طوق النجاة. والحال أنّ جميع هذه الحلول وسواها برهنت عقمها وفشلها. هذه الانسدادت البنيويّة الأربعة لا تُعالَج بمثل هذه التسويات والترقيعات. وحدها المساءلة الذاتيّة النقديّة، الفرديّة والجماعيّة، تؤهّل اللبنانيّين للانخراط في مشروع فكريّ تجديديّ جريء يُفضي بهم إلى ابتكار صيغة لبنانيّة أرفع رقيًّا وأشدّ حرصًا على كرامة الإنسان الفرديّة وحرّيّته الذاتيّة وحقوقه الإنسانيّة.

أحذّر الشبّان والشابّات من مغبّة الانفعال الثورويّ. فليس للعنف الماركسيّ أيُّ أفق في لبنان.فليبتكر الثوّار ما يشاؤون من أساليب المقاومة اللاعنفيّة، وليستلهموا مبادئ اللاعنف التي أذاعها غيرُ فيلسوف معاصر والتي أنشِئ لها في لبنان صرحٌ جامعيٌّ يذود عنها ويذيعها ويعلّمها. في العنف الدمويّ نهايةُ حلم التغيير، ودفنُ لبنان المستقبل، واغتيالُ كلّ طاقة صالحة في هذا الوطن الفريد! إذا أراد الأشرار في لبنان وفي الخارج أن يُشعلوا النار في الثورة وفي الثوّار، فإنّ طوابير الاستخبارات الكونيّة محتشدةٌ في مدننا للانقضاض علينا. والتربة صالحة لمثل هذه البذار الكريهة. فحذار العبث بالسلم الأهليّ، وحذار الإصغاء إلى همسات المغرضين الذين لا يتورّعون عن استغلال الأرض اللبنانيّةمطيّةً لمآربهم الملتوية. فماذا ينفع الثوّار أن يربحوا من بعد أن يخسروا لبنان ويخسروا وطنَهم!

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *