حينَ يُصْبِحُ الحَقُّ عِبْئًا

Views: 735

الأب كميل مبارك 

مِنْ أَصْعَبِ التَّناقُضاتِ وأَكْثَرِها تَعْقيدًا، تِلْكَ الَّتي يَكُونُ فيها جَميعُ الفُرَقاءِ على حَقٍّ، ومِنْ هذا الحَقِّ الشَّامِلِ تأْتي صُعوبَةُ إيجادِ الحُلولِ الَّتي تُوَفِّقُ بَيْن مَوَاقِفِ المُتَخاصِمين أَو المُتَنازِعين أَو أَصْحابِ الاتِّجاهاتِ المُتَعاكِسَة.

وهذه الصُّعوبَةُ تَزيدُ الوَضْعَ تأَزُّمًا وتَتَصَلَّبُ المَوَاقِفُ وتَتَباعَدُ المَسافَةُ بَيْنَ هذا وذاك، وتَنْتَقِلُ المَسَائِلُ مِنْ حَيِّزِ المُطالَبَةِ بحَقٍّ إلى حَيِّز الخُصومَة، وتَتَغَيَّرُ مع هذه الحالَةِ لُغَةُ التَّخاطُبِ فَتَصِلُ أَحْيانًا إلى حَدِّ الوَقاحَةِ أَو، في الأَقَلِّ، التَّلَفُّظِ بكَلام يَبوحُ بمَنْطِق مَنْقوصٍ أَو نَفْسٍ مَجْروحَةٍ أَو ضَيَاعٍ في تَلَمُّسِ المَخَارِج المُقْنِعَةِ الَّتي تَرْسُمُ طريقَ الحُلولِ لمَشاكِلَ طالَ علَيْها الزَّمَنُ، وتراكَمَتْ أَسْبابُ التَّباعُدِ فيها بَيْنَ الواقِعِ والتَّطَلُّعات.

هذه الحالَةُ المُقْلِقَةُ المُضْنِيَةُ هي حالَةُ الشَّعْبِ اللُّبْنانِيِّ اليَوْمَ مع المُشْتَرِعِ البَرْلَمانِيِّ والمُنَفِّذِ الحُكومِي. هي حالَةُ الأَساتِذَةِ مع أَصْحابِ المَدَارِسِ، والمُوَظَّفين مع الدَّوْلَةِ، والعُمَّالِ مع أَرْبَابِ العَمَلِ، والمالِكين مع المُسْتأْجِرين، وذَوي الطُّلّاَب والتَّلاميذِ مع نِقَابَةِ المُعلِّمين، والتَّاجِرِ والمُسْتَهْلِك، وإلى مَا هنالِكَ مِنْ جبهاتٍ فُتِحَتْ مَرَّةً واحِدَةً ودُفْعَةً واحِدَة، لأَنَّ التَّراكُماتِ الَّتي بُنِيَتْ على الإهْمَالِ والتَّلَهِّي بأُمورٍ أُخْرى، مِنْها السِّياساتُ التَّمْيِيعِيَّةُ ومِنْهاالهَدْرُ والفَسَادُ ومِنْها تَأْجِيلُ الحُلولِ على طَريقَةِ «يا بموت المَلِك يا بموت الحمار»، ومِنْها لا تَسْمَحُ الحَالَةُ والظُّروفُ الصَّعْبَةُ لِمِثْلِ هذه المَسائِل، ومِنْها تَبَدُّلُ التَّوَجُّهاتِ السِّياسِيَّةِ  عِنْدَ أَهْلِ الحُكْم، ومِنْها النِّكاياتُ الهَدَّامَةُ، ومِنْها وأَبْشَعُها كلُّ واحِدٍ يبلِّط البَحْر، والَّتي جَميعُها كانَتِ السَّبَبَ في الانْفِجارِ الاجْتِماعِيِّ الحَاليِّ في لبنان، والَّذي فَتَحَ البَابَ أَمامَ مُواجَهَاتٍ في الِإعْلام وفي الشَّارِعِ بَيْنَ جَميعِ الفُرَقاءِ المُتَخاصِمين إذا جازَ التَّعْبير.

والغَريبُ أَنَّ المُتَأَمِّلَ الحِيادِيَّ في الأُمورِ كلِّها، يَجِدُ بسَلامَةِ المَنْطِق أَنَّ الجَميعَ على حَقٍّ  في مَا يُطالِبُ به، وإنِ اخْتَلَفَتِ الأَساليبُ وتَنَوَّعَتْ مِنْهَجِيَّةُ المُطالَبَة. فالدَّوْلَةُ على حَقٍّ لأَنَّها مُفْلِسَةٌ بمَالِها ورِجالِها، والمَدارِسُ على حَقٍّ لأَنَّ الأَعْبَاءَ ثَقيلَة، والمُعَلِّمون على حقٍّ لأَنَّ المَعَاشَاتِ والأُجورَ غَيْرُ عادِلَة، والعُمَّالُ على حَقٍّ لأَنَّهم يَعيشونَ قَلَقَ الفَصْلِ وانْقِطاعِ الرِّزْق، وأَرْبابُ العَمَلِ على حَقِّ لأَنَّ المؤَسَّساتِ مُهَدَّدَةٌ بالإفْلاس، وقِسْ على ذلك لتَصِلَ إلى المالِكينَ والمُسْتأْجِرين. وبَعْدَ هذا العَرْضِ المُبْكي المُضْحِكِ الدَّاعي إلى الاسْتِغْرابِ والتَّساؤُل، هلْ يَحُقُّ لنا أَنْ نَسْأَلَ أَهْلَ الحاجَةِ وأَهلَ القَرارِ مَعًا، أَفكَّروا بأَسْبابِ المُشْكِلَةِ الَّتي كَمنَتْ وراءَ هذا التَّأَزُّم والَّتي هي ربَّما أَساسُ المُشْكِلَةِ وفيها نَجِدُ مِفْتاحَ الحَلّ؟ أَذْكُرُ مِنْها على سَبيلِ المِثالِ لا الحَصْر:

– التَّدَفُّقَ العَجائِبِيَّ للعُمَّالِ الأَجاِنبِ ومِنْهُم مَنْ لا يَدْفَعُ فِلْسًا واحِدًا للخَزينَة،  

-تَهَرُّبَ المُتَنَفِّذين مِنْ دَفْعِ الرُّسوم والضَّرائِبِ وبغَطاءٍ قانونِيِّ شَّرْعِي،

 -الهَدْرَ المُبَرْمَجَ الَّذي اسْتَنْزَفَ الخَزينَة،

 -الرَّشْوَةَ والفَسادَ الإدارِيَّ في مُعْظَم القِطاعات.

– المَحْسُوبِيَّةَ في قِطاعاتِ الخِدْمَةِ الَّتي جَعَلَتِ النَّاسَ مُجَيَّرين لهذا أَو ذاك منَ القادَةِ السِّياسيِّين، أَيّ مَا نُسَمِّيه تَسْييسَ المَسْأَلَةِ الاجْتماعيَّة،  

-المَرافِقَ المُغَذِّيَةَ للخَزينةِ والَّتي دَخَلَتْ طَيَّ النِّسْيانِ مُنْذُ عَشَراتِ السِّنين، على الرُّغْم مِنْ صَراحَةِ القانونِ في شَأْنِها،

– التَّسابُقَ المُزْمِنَ على نَهْبِ تَرِكَةِ الدَّوْلَة، وهذا عائِدٌ إلى مَفْهوم الدَّوْلَةِ عِنْدَ بَعْضِ المَجْموعاتِ في مُكَوِّناتِ الشَّعْبِ الَّذي يُسَمِّي نَفْسَه لُبْنانِيًّا،

-الغِنَى الفاحِشَ لقِلَّةٍ قليلَةٍ مِنَ المَسْؤُولينَ غَيْرِ المَسْؤولين، ولا أَحَدَ يُحاسِبُ، لأَنَّ التَّلَوُّثَ باتَ شِبْهَ شامِل، والصُّلْحَ بالتَّراضي بَيْنَ شُرَكاءِ النَّهْب باتَ معروفًا،

-عَدَمَ التَّفْكيرِ بالتَّضامُن مِنْ أَجْلِ الخَيْرِ العامِّ الَّذي باتَ مُهَدَّدًا بأَنْ تَبْتَلِعَهُ مَصالِحُ هذا أَو ذاك.

وفي الخِتام واحِدٌ أَحَدٌ يَدْفَعُ كِلْفَةَ جميعِ هذه الفَواتير، هو الشَّعْبُ المَقْهورُ أَحْيانًا، والأَعْمَى عَقْليًّا وَجَسَديًّا، لأَنَّه يُصَفِّق لجَلاَّدِيه في مُعْظَم الأَحْيان.

(أيار – مايو، 2014)

***

(*) من كتاب “حينَ يَكْثُرُ الحِصرِم” (2018).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *