أديب صعب في مجموعته الشعرية “حيث ينبع الكلام”

Views: 1758

من المحدود إلى اللامحدود ومن النسبي إلى المطلَق:

 شعرٌ يحرّكه حُبّ الجَمال البشري والإلهي

 

سلمان زين الدين

في مجموعته الشعرية الجديدة “حيث ينبع الكلام”، وهي ثالثة الأثافي بعد “أجراس اليوم الثالث” و”مملكتي ليست من هذا العالم”، يضع أديب صعب قِدْرَ شعره على ثلاث أثافٍ (هي الحجار التي ترتكز إليها القدر).  يعلن، في الأُثفية الأولى، تطلّعه إلى قيامة بعد الصلب، سواءٌ أكان المصلوب إنساناً أم بلاداً بكاملها. ويصوّر، في الأُثفية الثانية، الإنسان في قلقه الوجودي وحروبه العبثية واغترابه القسري. فما تُراه يقول في ثالثة الأثافي؟ وكيف يفعل ذلك؟ الإجابة عن هذا السؤال المزدوج هي موضوعنا، علماً أن الفلسفة، وتحديداً فلسفة الدين، شغلت أديب صعب فنشر فيها خمسة أعمال رئيسية بين 1983 و2015، فضلاً عن كتابين في النقد الثقافي.

في “أجراس اليوم الثالث”، يُصدِّرُ صعب أُثفيّته الأولى بمقتبسين اثنين يشكّلان مفتاحين مناسبين للدخول إلى مملكته الشعرية. الأوّل من “العهد الجديد”، ويتعلّق بالمضمون، وقد جاء فيه: “ورأيت سماءً جديدةً وأرضاً جديدة، لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى مضتا”، ما يعني أنّ هاجس الشاعر هو البحث عن أرضٍ شعريَّةٍ جديدة يفتتحها، وسماءٍ جديدة يُحلّق فيها. الثاني من الشاعر ت. س. إليوت، ويتعلّق بالشكل والمضمون معاً:

“A condition of complete simplicity costing not less than everything”

مؤكّداً على أهمية البساطة التامّة في الذات كما في النص الشعري. وهي بساطة – كما في تعبير إليوت -يدفع صاحبها “ليس أقل من كل شيء” للحصول عليها. وأرى أن هذين المفتاحين يصلحان للدخول إلى الأُثفيّة الثالثة، لجمعها بين بساطة الكلمة وجدّة المعنى.

د. أديب صعب

 

في العنوان، يُسند صعب الفعل “ينبع” المتعلّق بالحقل المعجمي للماء إلى الفاعل، “الكلام”، المنتمي إلى الحقل المعجمي للغة. ويتمخّض عن هذا الإسناد تركيب شعري؛ فإذا ما أضفناه إلى ظرف المكان “حيث”، تُحيلنا هذه الإضافة إلى معنى “منبع الشعر”. وهكذا يُشكّل العنوان دليلاً إلى المتن. فمنبع الشعر هو الذات.

في المتن، تشتمل المجموعة على خمس وتسعين قصيدة، كُتِبَتْ، في معظمها، منذ ثمانينيات القرن الماضي، باستثناء قصائد القسم الأخير “من دفتر الطفولة” التي كتبها صاحبها وهو دون العشرين. ويراوح طول القصيدة الواحدة في المجموعة بين أربعة أسطر شعرية، في الحدّ الأدنى، ومئة سطر شعري، في الحدّ الأقصى، كما في “شوارع المدينة”. ويراوح طول السطر بين كلمة واحدة وسبع كلمات. وهكذا، تغلب على المجموعة القصائد القصيرة والمتوسّطة خلافاً للمجموعتين الأولى والثانية اللتين تكادان تقتصران على القصائد الطويلة. وتتوزّع القصائد على محاور، هي: الشعر، الطبيعة في عرسها الربيعي، الحب، الإنسان في حروبه واغترابه الوجودي، الفرد في تجربته الروحية وأسئلته الكبرى. وغنيٌّ عن التعبير ما بين هذه المحاور من تواشج: فالشعر ربيع الكلام، والربيع شعر الطبيعة، والحب محرّك الشعر، والاغتراب الوجوديُّ قَدَرُ الشعراء. لكن تجربة الشاعر الصوفية هي التي توحّد هذه المحاور كلها.

 

الانسان والطبيعة والله

يتّخذ أديب صعب من الشعر محوراً لبعض القصائد، وموضوعاً يتناوله في ثمانٍ منها. فنراه أداة الله لكشف الفتنة والجمال، وطريقة الشاعر الإنسان في معاينة الوجود ورؤية الوجه الآخر للكون، ووسيلة للحب. وهو خريطة طريق إلى النور: “حين يمدُّ الدجى خيوطَهْ/ويرجمُ النورَ بالرُّكامْ/أترك شعري لكم خريطهْ/سفينةً تَعبرُ الظلامْ” (ص 17). ويماهي بين الشعر والصلاة بقوله: “وما الشعرُ إنْ لم يكن صلواتٍ/وما الصلواتْ/غيرُ شعرٍ يفيضُ من القلبِ/يَرسمُ وجهَ الحياةْ” (23)، محوّلاً إيّاه من لغةٍ دنيوية إلى طقسٍ ديني، ومن نشاط بشري إلى جسرٍ إلهي. واحتفاؤه بالشعر لا يقتصر على القصائد الثماني الآنفة الذكر بل يتعدّاه إلى سواها. فترد كلمة “شعر” حرفيّاً، أو متعلّقاتُها من الكلمات التي تنتمي إلى حقلها المعجمي المغنطيسي، في أربعٍ وثلاثين قصيدة من أصل قصائد المجموعة الخمس والتسعين، أي ما نسبته حوالى 36 في المئة منها.

الموضوع الثاني الذي يتمحور حوله عدد من القصائد هو الربيع وتجلياته في العناصر والمخلوقات والموجودات. ويرتقي به الشاعر من حَدَثٍ طبيعي إلى رمزٍ شعريٍّ يشي بتجدّد الحياة. ويصفه بأنّه صباح الدروب، ووجه البكاء، وترجمان الشتاء، وخيمة الطبيعة. ويُماهي بينه وبين الشعر في قوله: “إذا قُتِلَ الشعرُ ماتَ الربيعُ” (65). ويرصد علاقة جدلية بين الشعر والربيع، فتَبتكر القصائدُ أبجديّةَ الربيع، وتغدو الزهرة قصيدة، والوزن برعماً، والقافية شذا: “ونظرْتُ، كان كلُّ شيءٍ/حولنا قصائدَ ٱختبأنَ في سريرْ/يبتكرنَ أبجديةَ الربيعِ/كلُّ زهرةٍ قصيدهْ/وزنُها براعمُ الضحى الجديدهْ/والقوافي شذاها” (30). وهكذا ينتقل صعب، في هذا المحور، من الإنسان شاعر الكلمات إلى الله شاعر الطبيعة، ومن ربيع الكلام إلى قصيدة الربيع. هو حب الجمال اللغوي أو الطبيعي، البشري أو الإلهي، يحرّك شاعريّته وينتج أجمل الكلام. فليس ثمة إبداع بدون حب.

سلمان زين الدين

 

ولا يقتصر حب الشاعر على الشعر والطبيعة بل يتعدّاهما إلى الإنسان/المرأة. وهو في وصفها يجمع بين التاريخي/الأسطوري والحضاري/الواقعي في القصيدة نفسها، فتكون الحبيبة سفينة نوح في بداية القصيدة، وتصبح قوس نصر المدينة في نهايتها: “نوحٌ أنا/وجئتِني سفينهْ/نَعبُرُ هذا العصرْ…/إلى مدى أصبحُ فيهِ/النهرَ والمدينهْ/وأنتِ قوسَ النصرْ(91). ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ  الحبّ في المجموعة يطبعه التأمل أحياناً، علماً أنّ الشاعر يَقرِنُ الحبَّ بالشعر، كما قرن الشعر بالربيع: “أيُّ أرضٍ/نُفِيَ الحبُّ والشعرُ منها/أُحيلَتْ قبوراً لأطفالِها الطّاهرينْ” (64).

وإذا كان تَمحوُر القصائد حول المحاور الثلاثة المذكورة آنفاً ناجماً عن مطاردة الشاعر الجمال في الكلمة والطبيعة والمرأة، ففي المجموعة قصائد أخرى تتمحور حول الإنسان في اغترابه الوجودي وأسئلته الكبرى. وهذا التمحور ناجمٌ عن تأمّل الشاعر في أحوال الإنسان والكون، وهو الآتي من خلفيَّتَيْنِ ثقافيَّتَيْنِ تُعنَيانِ بهذه الأحوال هما: الفلسفة والدين. فيتناول وصول الإنسان إلى حائط مسدود، في بحثه عن الماء بما هو رمزٌ شعريٌّ للخلاص: “حاملينَ البؤسَ نمضي/نحوَ أبوابِ الرجاءْ/ونصلّي، ونصلّي للمطرْ…/غيرَ أنّ الشمسَ تسودُّ/ولا تدمعُ عينٌ للسماءْ/ثمّ تنهالُ علينا/سُحُبٌ راعدةٌ من غيرِ ماءْ” (47). ويرصد التفاعل بين الزمان والإنسان والمكان، مستنتجاً عجز الإنسان في مواجهة الأقنومين الآخرين، فيدور به الزمان ليلقي به في الحفر: “ودارَ الزمانُ بِنا دورةً/فلم يبقَ في الدربِ إلّا الحفَرْ” (53). وفي مواجهة هذا الاغتراب النفسي والزماني والمكاني، يلوذ الإنسان بالطبيعة: “إفتحي ذراعَكِ القويَّةَ، ٱحضنيني/أيُّها الجبالُ/وٱنثري البخورَ فوقَ ناري” (75). وأخيراً يجد الينبوع: “خذني/حيثُ ينبعُ الكلامُ من عيونٍ/حيثُ يُزهرُ الكلام في الشجرْ/خذني/فلقدْ سئمْتُ لغوَهُمْ/أولئكَ البشرْ” (86). وعليه، فإنّ أديب صعب ينطلق، في شعره، من الوقائع الصغيرة إلى الأسئلة الكبرى، ومن المحدود إلى اللامحدود، ومن النسبي إلى المطلق، وهذا ما يمنح شعره الجِدَّةَ والعمق.

 

هذا في ماهية القول. أمّا في كيفيَّته فالشاعر يعبّر عن المضمون العميق بالشكل البسيط، ما يُدخل شعره في دائرة البساطة العميقة أو السهولة الممتنعة. وهو يستخدم الجمل القصيرة والمتوسّطة، ويتجنب الغموض والإلغاز والإغراب في تراكيبه. وقد تتخذ القصيدة إطاراً سرديّاً، ما يضفي عليها طلاوة السرد. وهكذا، يمكن القول بأنّ الشعرية في المجموعة عمودية أكثر منها أفقية، وأنّها شعرية الوضوح لا شعرية الغموض، وأنّها شعرية البساطة لا شعرية التعقيد.

وعليه، حيث ينبُع الكلام، يكون أديب صعب هناك، عند رأس النبع، يعبُّ منه حتى الارتواء، ويدعو العطاش إلى الشرب. ويقرع “أجراس اليوم الثالث” معلناً قيامة الشعر، ويبني مملكة له على تخوم العالم.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *