أن تكونَ مستقلاً…

Views: 1096

د. كلوديا شمعون  أبي نادر

(رئيسة مجلس الفكر)

أن تكونَ مستقِلاً، يعني أن لا تكونَ تابعاً لأحد. أن تكونَ مستقلاً يعني أن تعيشَ في مجتمع مُوَحَّدٍ ومُؤمِنٍ بالوطنِ الذي تَنْتَمي إليه. وهنا أَسْتَحْضِرُ أبَ الدستور اللبنانيّ ميشال شيحا، القَائل منذ أكثرَ من سبعينَ عاماً: ” الحُلمُ أن نرى اللبنانيينَ يتّفَقونَ كُلَّهمُ فجأةً.   لكنَّ ذلكَ لا يُمكنُ أن يكونَ إلاّ حُلُماً. لن يَقْوَى أحدٌ على اجْتِراح أُعجوبةَ توحيد اللبنانيين…”. وأضافَ “: لا يعيشُ لبنانُ” إذا كانت كُلُّ طائفةٍ تعيشُ والميزانُ في يّدها، تَضعُ وزيراً قُباَلةَ وزير، وحاجباً قُبالَة حاجِب”. وقال أيضاً :” أَكْثَرُ من مظاهرِ التَقَدُّم الِمادّي، يَهُمُّنَا أن يكونَ في لبنان إنسان ،أن يستيقظَ اللبنانيُ المُنَبطحُ ذِلّةً، ويَقِفُ على رِجْلَيْهِ،  ولا يكون مُتَزَلّفاً أو مُسْتَزْلِماً…

بقدْرَ ما يَحتلُّ الفكرُ الطائفيُ المساحاتِ الوجدانيّة، بقدْرِ ما يَخْسَرُ الوطنُ كيانياً ووجودياً. وفي لبنانَ، وللأسف، يَفْتَقُرِ الناسُ إلى التربيةِ المدنيةِ والوطنيّة. في وَطَنِنا، لا قيمةَ للدساتير، أمّا القوانين، فَحدّ|ث ولا حَرَجْ، جَهلٌ مُطْبَقٌ أحياناً، ورَفضٌ في مُعظمِ الأحيان، وهذا أمرٌ مُشينٌ ومُسْتَغْرَبٌ، فالقوانينُ قد وُضعِتْ لحمايةِ الأفرادِ من شَريعةِ الغاب. وحين يعيشُ اللبنانيُ في بيئةٍ تُقْنُعهُ بأنَّ سَرقَةَ الدولةِ بُرهانٌ على الذكاءِ الحاد، كيف لنا أن نَطْلُبَ مَنه العملَ على تحقيقِ المنفعةِ العامةِ وبناءِ الوطن؟

إنّ المطالبةَ بإلغاءِ الطائفيةِ السياسيّة، أمرٌ جيّد. ولكن، هل يُمكنُ تطبيقَ الكفاءةِ ليس إلاّ؟ بعيداً من التجاذُباتِ والمخُالفاتِ والهَيْمَنَةِ العددّيةِ الضاربَةِ عَرْضَ الحائط بالمعايير الموضوعيّةِ، والإنمائيةِ، والعَملْيّةِ والاستشرافيّة، وأحياناً الوطنيّة. وأَسْتَذْكِرُ قبلَ يومينِ من عيد الإستقلال الأبَ Pruvot، رئيسَ الجامعةِ اليسوعيّة، والذي قال سنة 1946:”لا بُدَّ من إدانةِ من يُغَيّرِونَ قناعاتِهم بسهولةٍ مُقْلقِة، إن لم تَكُنْ مشبوهة، ويَتَهجّمونَ على قناعات الأخرينَ الراسخةِ والثابتة”.

– وأسْتَحْضرُ مُجَدّداً ميشال شيحا، ومن وَحْي ما يَحْصُلُ على الساحةِ اللبنانية، والذي قال:” حين يَثورُ المحتالون، والمَحْميّونَ، والغوغائيّون، والفاقدونَ للحس المْدَنيّ، بأَعدادٍ وفيرةٍ، يثورون ضِدَّ القوانين، يغدو المواطنون المُتَقَيّدونَ بالقوانين كِبْشَ مَحْرَقَة (ميشال شيحا، في كتابه “: سياسة داخليّة”).

* 22 تشرين الثاني 2019،

إستقلالٌ بأيّ حالٍ عدْت يا استقلالْ؟ ونَتَساءَلُ: هل حقاً أنَّ الشعبَ اللبنانيَ مقتنعٌ أنَّ لبنانَ قد استقلْ وهل هو غيرُ مُدْرِكٍ أنَّ الواقعَ الطائِفَي البغيضَ يَتَناقضُ مع هدفِ الاستقلال الحقيقي، فالطوائفُ تَتناحُر فيما بينَها، وتَنْحَرُ الوطنَ المُشَلَّعَ الأوصالِ، وقد اقْتَسَمَتْها قِوىً غنيمةً سَهْلَة.

* ستة وسبعونَ عاماً مَضَتْ على اسْتقلالِ لبنان، وما زلِنا نتساءلُ: ما بين الفسادِ، والإنحطاطِ الأخلاقيّ والإنتماء التَعَدُّدِي، هل من خَلاصٍ، أم إنَّ أبوابَ الجحيم سَتُفتَحُ على مصاريعِها؟ وهل من إستقلالٍ بدونِ حُرية؟ وعن أَيَّةِ حُريةٍ نَتَحدَّثُ؟ وتحريرُ الأرضِ لا أُفُقَ له خارجَ تحريرِ العُقولِ من التَعَصُّبِ والإسْتِزْلام. والجَهلِ والزَبائنيّةِ وتغليب المصلحةِ الخاصة على المصلحةِ العامة، والإنتماءاتِ المشبوهةِ، وتَكديسِ الثروات غير المشروعة، وإن كان الثمنُ تَفْتيتَ الوطنِ، وُصولاً إلى إلغائهِ من الوجود.

– وإذا كانتِ الدولةُ قائمةً على الأرضِ والشعبِ والمؤسّسات، وإذا أُلْغيَ دورُ المؤسّسَاتِ، والشعبُ يتلاعب بمصيرهِ، وإذا كان الشعبُ مُدْرِكاً لوِضْعهِ، ولا يَنْتفِضُ لكرامتهِ، فتلك مصيبةٌ، وإن كان لا يدري، فالمصيبةُ أكبر! بَقيتِ الأرضُ، وهل من أرضٍ بدونِ حُماةٍ لها؟

– وُلدَ الميثاق الوطنيُ سنةَ 1943، من رَحمِ الواقعيةِ السياسيّة. والسؤالُ الذي يُطْرَحُ في هذا الإطار: هل حُلَّتْ مُشكلِةُ الهويةِ الوطنية؟ وهل إنّ التقاء مصالحَ في لحظةٍ تاريخيةٍ مُحَدَّدةٍ، وضمن مُعطياتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ مُعَيَّنةٍ، كان كافياً لتكريسِ وُجودِ الدولة؟

وقد رُفِعَ آنذاكَ لِواءُ لاءين: لا للشرقِ، ولا للغرب. ولقد اعترفَ الرئيسُ بشارة الخوري في مذكّراته أنّ لبنانَ هو “دولةُ الطوائف المستقلّةِ والمتعايشةِ على أرضٍ واحدةٍ. وسياسةُ “لا غَالبَ ولاَ مغلوب” الطاغيةُ والمهشمة للديمقراطيّةِ الحقيقيّة، عددت الانتماءات لاغية بذلك حلم سلطة شرعية, وطنيّة، واحدةٍ، تجمْعُ اللبنانيين كافة.

– أزماتٌ وخّضاتٌ أمنيّةٌ واقتصاديّةٌ انْتَهَتْ بحربٍ أهليةٍ. وحالياً حِراكٌ مَطْلبَيٌ ومُحِقٌ لا يخلو من خُروقاتٍ مريبةٍ لا تُبِشّرُ بالخير. أَصبحَ اللاإستقرارُ سيّدَ الموقِفْ، والأفقُ مُتَجَهِّمٌ، والعاصفةُ  آتيةٌ لا محال!

– من هذا المنبر الثقافيّ، أدعو الشعبَ اللبناني إلى صَحْوَةِ ضمير وشجاعةِ مَوْقِفْ يتخطّى الأنانّيةَ والاختلافات وحتى الخِلافاتِ. وُجَودُنا على المِحَكْ، خَلْفنَا الماضي قد وَلَّى، لن نَنْساهُ، إلاّ أنّنا نأخذُ منه العِبَر. والمستقبلُ، وإن قريب، لا يُبشر بالخير. نحن في مَأْزِقٍ مصيري، لِنُنْقِذَ وَطنَنا الألفيّ قبلَ فواتِ الأوان.

رُغمَ مآسينا المتكررة، وخَيباتِنا المُذِلَّةِ، والمُحْبطَةِ، وأخطائِنا بحق الوطنِ والتي لا تُغْتَفَر، ووَاقِعِنا المأسوي علينا الارتقاء بما وَرَدَ في العهدِ القديم، وقد ذَكَر لبنانَ إثنتينِ وسبعينَ مرَّةً: ” وسَقطَ لبنانُ ويَدُ الرَبِ رَفَعَتْهُ” لا خوفَ على لبنان، فهو وَقْفٌ إلهيُ، وكلمةُ “لبنان”، باللغةِ الآراميّة، تعني قلبَ الله، ومن يَسْكُنُ الرَبَّ لن يَقْوَى عليه أحدٌ.

***

(*) القيت في ندوة “الاستقلال.. ثورة الأحرار” ‏بدعوة من دار ناريمان للنشر في بلدية الجديدة وشارك فيها: العميد المتقاعد الدكتور فؤاد الخوري، العميد المتقاعد الدكتور إيليا فرنسيس، الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر، والفنان التشكيلي على شحرور الذي قدّم لوحة بورتريه لصاحبة الدار ناريمان علوش.

افتُتحت الندوة بالنشيد الوطني اللبناني ومن ثم قدّمت الإعلامية فرح صلاح الجراخ المشاركين لإلقاء كلماتهم التي عبّرت عن روحهم الوطنية وولائهم الذي يسري في دمائهم، واختُتم الحفل مع العميد د. فؤاد الخوري غناءً وعزفاً على آلة الأورغ وتوزيع الدروع للمشاركين.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *