قراءة لديوان رين علامي”همس المدى”

Views: 669

 د. رفيق أبو غوش

 يقول أمين نخلة في تصدير” المفكّرة الرّيفيّةوُلد الفن يوم قالتِ الحيّةُ لحوّاء: أطيبُ أكلةٍ في الفردوس التّفاحة، بدلاً من أن تقول: كُلي التّفاحة، وأنا أقول: إنّ أطيبَ ما في شعر رين علامة هو التّأنّق بدلاً من القول: هذه كتابةٌ متأنّقة. كذلك، لا تقُل للشّجرة: أيّ غصنٍ فيك أجمل، إنّما مشّط لها الرّوح وأهداب العيون وتغزّل، ولا تقُل للشاعرة أيّ تفاصيلكِ أجمل، إنما إحمل لها الرّيح لتبعثرها وتأمّل، هكذا يُولد الفن في بلادي مع الشّمس، ويتنزّه مع الغيم، وينام مع المطر، ويستيقظ مع الغواية.

   وأيُّة غوايةٍ أجملُ وأنت تقلّبُ مجموعة زمرّداتٍ موسومةٍ بـ” همس المدى” على خفر وسلاسة في المقاربة، وتتساءل: لماذا تكتب الشّاعرة القصيدة النّمطيّة وتلزمُ نفسها بقوانينَ وأطرٍ تحدُّ من حريّة الإبداع؟ ولو أنها تركت لطيورها أن تُحلّق حرّةً، لتفرشَ أجنحتها وسعَ المدى ولتأتي بالمدهش المختلف، ولتخترق وتعبُرَ متخفّفة كي لا تلوي عنقَ الكلمات من أجل استقامة الوزن، كالنّحل، كلّما حلّق بعيدًا في الأثير عاد بالعسل المصفّى، وهذا لعمري ترفٌ زائد يمكن الاستغناء عنه، فالشّكل كما يقول أدونيس يقيّد الإبداع.

 

   وأظن،(والظّن هنا ليس إثمًا) لو أن الشّاعرة أنصتت إلى صوتِ جدّتها ليليت وهي تُقلّم أظفارَ آدم وترفضُ أن تُخلقَ من ضلع بشريّ، لتوّجت قصيدتها ملِكةً على عرش اللّا، وأزعم، أن القصيدة العموديّة قصيدةٌ ذكوريّة متلبّسة بفائض قوّة، أمّا القصيدة الجديدة، فأنثويّة تحاكي الرّقّة والسّهل الممتنع. فالشّعر سيف المعنى، والتّمرّد يبدأ من هذا الشّعر.

   ما علينا، وهذا لا يعني أنني ضدُّ القصيدة التقليدية، وهي إن دقّت بابي أستضيفها، وقد كتبتها، ما يعنيني الاتّجاه وليس الطّريق، فالاتّجاه إلى الشّعرية سالكٌ في المجموعة، والشّاعرة طبّقت معاييرها؛ فإذا كان الشّعر صورة فالصّورُ كثيرةٌ وجميلة، وإذا كان الشّعر إدهاشًا وشعشعةً، فالدّهشة كامنة في أجنحةِ القصائد، وإذا كان الشّعر إبهارًا وترقيصًا للنّفس، فالرّقصة ماثلةٌ بين الموسيقى والنّقرات المتعالقة بين السّطح والأعماق، وإذا كان الشّعرُ لفتاتٍ ذهنيّةً دقيقةَ النّسج كما يراه أمين نخلة، فنسيجُ القصائد من قِماشة المعنى المتوثّب، والإحساس الجديد، ومثلُ هذه اللفتات لا تأتي بها السّهولة، إنّما كدُّ الذّهن  والولادات القيصريّة.

 

   مباركٌ هذا الغرسُ وهذا التّوق، فالشّعر فعل خلاص، والعالمُ بديعٌ بذاته، وحسبُ الشّاعر أن يكتبَ كي يجعل الحياة أخفَّ وطأةً، أو لينجو كما يقول محمد الماغوط، وحسبُ الشّعر أن يكشف عن هذا الجمال، وأن يرفع الأرض قليلاً، ويخيطَ الجراح التي تستنبتُها المعاناة. فالشّعر جرحٌ من أقدم جروح الحياة. أنت تقول القصيدة، يعني أنت تجرح الوجود. أنت تكتب الشّعر يعني أنت تنزفُ من روحك، وبعد هذا لا نقول: هذا شعرٌ قديمٌ أو جديد طالما أن الشّاعر يقدّمُ روحه قربانًا للجمال، بل شعرٌ وحسب، وذلك، لأن الجديد ليس إلا وترًا في قيثارة القديم. ولعلّ أجمل كلمات الشّعر تلك التي  لم تُقلْ بعد، تلك الحائرةُ بين الصّوت والصّمت، بين الإبانة والإغفال، تلك التي تتلامحُ وتتلوّح كزبيب الكروم، وهذا لَعَمري ما قاله الشّاعر الفرنسي إيف بونفوا الذي رأى أن “الشّعر هو هذه المسافة التي تقعُ بين ما تقولهُ وما تريد أن تقوله فلا تفعل” فهل قالت الشّاعرة وفعلت؟! وهل عبّرت عن خوالجِ نفسها وأحاسيسها كلّها؟ لا أظن ذلك، فالوصول إلى مثل هذه الحال غير ممكن، فهل هذا ما قصدهُ شوقي حين قال: ” يا ليت شعري هل قلتُ الذي أجدُ”.

   لكنّ الشّاعرة وهي تعبرُ جسورَ الدّهشة قبضت على كيمياء الكلمات، وبرعت في هندسةِ حروفها، وحاولت أن تخترق تخوم اللعبة الشّعريّة وما يتّصل بها من موسيقى وتقديم وتأخير وإيقاع وتطريب، ونجحت في تركيب ومزج العناصر الشعرية، وتطريز المعاني وربطها بشرّابات الأفكار، وعملت على نحت الأحاسيس بالتّركيب الجميل الباذخ، وذلك، تبعًا لحرارة التّجربة التي يؤجّجها طقسُ الكتابة، ورهافة المشاعر العميقة بكلّ حدوسها. إنها تغرينا بالأنهار والبحار، وتوقظ الطبيعة النائمة بالصوت والصورة والحركة والحضور، وهذا ما يُثري حياتنا ويعيد ترتيب أولوياتنا، ويفتح أعيننا على الجمال، فيصبح الطريق النظيف قصيدة، والحديقة المقلّمة قصيدة. ولكل قصيدة دفئها ودروبها وحقولها، ولها شمسها ونجومها، وحينما تنساب في كتاب إنما ترسم تكويناتها الضوئية والظّليّة، وتنداح بصوت الأزمنة، إنّها كمن يحفُّ كلماته ويصقلُها بعناية الغرّاس، وفي هذا تمشي على حدّ المخاتلة حتّى لا تزلّ بها القدم وهي على شاهقِ الإتقان والتّأنّق.

 

   وتتعامد في القصائد الدّوال في مواجهة بعضها بعضًا، فيتطاير رذاذ اللغة على مرايا الصّور لتشكّل ساقيةً ترفدُ نهرَ الشّعر. وكثيرًا ما تنزاح بالجملة إلى حافة الالتباس، فحينما تكون الجملة محتجبة يعني أنها دخلت دائرة الانزياح، وولجت بئر المجاز، وقلبَ المتاهة، وحين تكون الجملة مفتوحة يندلع اللون والنور في أفضيتها، وتمنحها الرّيح  الحركةَ والتّدفّق لتكشفَ الأقنعة وآليات الإخفاء النّصّيّ. 

  على أن هذه المُترفة المُفرطة في التّأنّق تخترق اللباب وتكسرُ القشرة الصّلبة التي تغلّف أصداف الخليل، فتخرج الكلمات معطّرةً معقّمةً نقيّة، وعليها رشاشٌ من دماء القلب والشّعور. ففي باب الشّعر لا يُشربُ الماء بالأكفّ، ولا يُؤخذُ عبًا من العين، وهو قولٌ يصحُّ في الشّعر الحقيقيّ، فكيف إذا كان هذا الشّعر ينزلُ من شاهقٍ، وتكتبه أنثى يخرجُ من روحها وعليه قارّةٌ من رحيق، وفيه ولادةٌ ومولودٌ جديد،” تحلُمُ من خلاله بتكوين بشريّة جديدة لا بكتابة شيء جديد فقط، فالكتابة هي الجسد الجديد” كما يقول أنسي الحاج. والأنثى في الشّعر كرائحة التّراب بعيد الشّتوة الأولى، وهل يمكن أن تُصنعَ حياةٌ من دون أنثى؟! 

 

   إن هذا الشّعر خليقٌ بأن يُزانَ بميزانِ الزّمرّد، ويُدهنَ بميرون الحب، فالشّاعرة تفتح بابًا واسعًا للحبّ، لكنّه بابٌ مفتوحٌ على الخيبة والانكسارات، وكثيرًا ما يزلِجُ على الفراغ، الحبّ أيها الشّعراء خبزُ أيامكم، فالحبّ الحبّ إذًا. عندما يحب المرء تخرجُ البحارُ من جلدها وتفيض، ويلبسُ الكونُ ثوبًا بلون الشّغف، ويخرج الليل يزفّ عشيقاته ويغنّي للوجود. فلماذا تعودين من سفرِك من دون الحبّ وهو يفرش لك الدروب لوزًا وعطرًا، ولماذا تؤجّلين عرس الوزّالِ والبنفسج؟، ولماذا تخافين الجنون في الحبّ(ص 22 )؟ أتدركين أن لا حلّ خارج الحبّ كما يقول أندريه بريتون. وعندما سُئِلَ أنسي الحاج عن فيروز قال: أحبّها بإرهاب. وأنتم أيها الشّعراء حاربوا الإرهاب بالحبّ، التّفاهة بالشّغف، البشاعة      بالشّعر، الجروح بالعناق، الموت بالغناء.

     إضافة إلى الحبّ هناك الطّفولة تنزلُ في الأعماق نزولَ المطرِ في التّربة العطشى، على صوفيّةٍ تستدعي بعدًا ثالثًا للغة لا تُفكّكُ إلا بالتّأويل. تهربُ من صور البشاعة ومن النّاس إلى حضن الأم التي تخيطُ الجراح على حدّ قول التبريزي، حيث الطّفولة والصّدق والحبّ العظيم لتقول: نفوز لو نستسلم للحبّ، مع أنّها تخاف الناس حين تحبّهم. فأيّ انكسارٍ هذا وأيُّ كشفٍ، وهنا أخشى على قلمها أن ينكسر لأنها أعدّت قلبها بؤرةً للأحزان. لكنّها ليستِ وحدها الموجوعة المخذولة والمتعبة، وكأنها تُؤمنُ بمقولة سارتر: الجحيم هم الآخرون!! ثم تستخدم تقنية المونتاج من قصٍ وحذفٍ وزيادة، وتصوّر كاميرا القصيدة مجموعة لقطاتٍ مكثّفة على نحوٍ عنقودي لتعبرَ إلى الذّات الشّاعرة عبر تفجير الصّوت بآلياته البصريّة للوصول إلى اللقطة الخاطفة: “أيا قلبُ أرجعني بلا حبّ واطفئ جذوة اللهبِ”(ص 33).

 

   الحقيقة أن عالم القصيدة ليس أحاديَّ العمق، ولا يمكنُ لقراءةٍ واحدة أن تُمسكَ به، لذلك، فإن ما تصلُ إليه رؤية شاعر هو كشفٌ لا تصلُ إليه رؤيةٌ أخرى، والحقيقة أيضًا أن ما رأيتُه في هذه المجموعة هو نبضُ امرأةٍ تُفلتُ من يديها شلالاتِ عبيرٍ وخزامى، وتسوقُ إلى قصيدتها الأشجارَ التي أغصانها من ذهب وأوراقها من خواتم، وتُقلقُ أغصان القصائد بالغناء. وهذه مجموعة تشكّلُ نقطة فاصلة (بالإذن من الشاعر حبيب يونس)، لك أن تقف عندها وقفةً قصيرة أو أطول بقليل، ولكنّك في كلا الوقفتين أنت فائزٌ بالمتعتين: متعة الأناقة ومتعة الشّعر. وأنتم، إقرؤوا شعر رين علامة، إقرؤوا الشّعر الأنثوي ليصبحَ مأثورُ الكلام عندكم: ليس كيدهنّ عظيم، إنما شعرُهنّ عظيم. وشكرًا.

 

***         

*الكلمة التي ألقيت في حفل توقيع مجموعة” همس المدى” للشاعرة رين علامي بتاريخ 23/ 8/ 2023.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *