قراءة في نصّ جان توما “حارس الأحياء”

Views: 1083

إيمان ريدان

كتب جان توما في ألف-لام:

“استخدم محدّثي الكويتي كلمة “دفن” البحر، فيما نستخدم نحن كلمة “طمر”، في مؤتمر، منذ سنوات، في دولة الكويت.

عدت إلى القاموس فوجدت طمر الشيء: دفنه. لعلّنا نحن سكان البرّ نصبح واحدًا في التعبير، ونصبح من دون أن ندري “حرّاس الموتى”، كلّما اقتطعنا من الشواطىء مساحات جديدة لتطوّر الحياة المدنية، وتلبية حاجة التوسّع العمراني، وتقديم شبكة مواصلات متجدّدة.

هذا لا يقتصر على المدن، فها أنهار القرى وبحيراتها تجفّ، وتقوم عليها الأبنية، وما كان يسمى في القرى “مجرى ماء” راح مع الزيتون والليمون ومع من يحزنون.

لقد تذكّرت هذا “الطمر” أو “الدفن” يوم زرت بلدة” بومبي” في نابولي بايطاليا، تلك التي طمرها بركان “فيزوف” بفيضانه الناري، بحجرها وبشرها، وبات حارسًا للموتى منذ أن ثار عام ٧٩ ميلادية، وطمرها بالرماد، إلى أن تمّ اكتشافها عام ١٧٤٨م. بعد ألف وستمائة سنة من اختفائها، واكتشف فيها الضحايا موتى في أوضاعهم التي كانوا عليها، واكتشف طابع المدينة الغني والترف وفترة الإمبراطورية الرومانية، والعمارة، والحياة الاجتماعية وغيرها.

يسوح الأحياء في هذه البلدة الإيطالية في ممرات أزقتها الحجرية كما كانت منذ يوم الطمر أو طقس الدفن البركاني.

تجول كما في وادي ظلال الموت، تشعر بالرماد يلاصق شفتيك، تجد سبيل ماء يؤمه السيّاح. تغسل وجهك، تبلّل شفتيك، تنعش حلقك، لكن عينَيك ترى ما لم تره عين، وأذنك تسمع ما لم تسمعه أذن، إذ تصبح بامتياز  “حارس الموتى” أو ” الأحياء” الطالعين من رماد البركان.”

 

  قراءتي:

في العادة لا تستطيع أن تقرأ مقالة، وتستفيض في الدّراسة والاستنتاج، فهي ليست بحثًا، أو قصّة، أو حتّى رواية. ولكنّك حين تكون بصدد مقالة، معمّرة بزبدة التّجارب، والخلاصات الجميلة التي تشدّ أجزاؤها بعضها بعضًا، فتتدرّج وقائعها لغاية (في نفس الكاتب)، وأنت تلمس كلّ ذلك، مأخوذًا بذاتيّة التّجربة المطبوعة أمامك، والمغمورة بحزن شفيف، وتساؤلات وجوديّة، فإنّ الكلام حولها هنا، قد يطول، ويطول…

   قبل أن نخطو عتبة النّصّ الأولى،  لا بدّ من الأخذ بالاعتبار سرّ الّلحظة السّابقة على الكتابة، حيث بدء تفتح الوعي، ويسمّي بعض النقّاد حدوث ذلك، بالحدث الأكثر ذاتيّة.

بدءًا من العنوان، ينفتح النّص على شبكة صور متساندة، متكئة الواحدة على الأخرى، في توليفة جميلة، تكرج بينها ملامح عشق للطّبيعة الأم ، وأهلها العابرين التّواقين إلى الحياة والشّمس، غير المطمورين بالرّماد.

“حارس الأحياء” منه البداية، وفيه مسك الختام. وكأنّي به (مستعيرًا من مصطلحات البحر ) يأخذ على عاتقه مهمّة التّرحيب

بعودة المغتربين، أو إرشاد التّائهين في عرض البحر، كحارس منارة تضيء الظّلمات من البعيد، وهو ( في الشّقّ الثّاني من العنوان) يهتمّ بالأحياء قبل الأموات، وهذه لعمري، صفة الحرّاس.

وهل ينحاز صاحب الحكاية إلى مظلوميّة البحر الذي تقضمه اليابسة؟ فمع أنّه العميق الأغوار والخفايا، يبدو البحر للكاتب ملجأ أمان واستقرار، على خلاف ما يراه آخرون من وسيلة عبور إلى برّ آخر، هذا البرّ الغريبٍ والقاسي، والذي قلبه لا مودّة فيه…وليس منه فكاك.

ولا تقتصر المياه (المرغوبة) على الأزرق المالح، بل تطال أيضًا نظيرتها النّقيّة الّلون والمذاق، المتدفّقة في مجاري الأنهر والسّواقي، والمطمورة بمظاهر العمران حيث المدنيّة الزّائفة..

أمّا استدعاء الطّمر بالنّار على منوال طمر الماء بالتّراب والرّمال، فهو للمشابهة في النّتيجة التي آل اليها الطّمر. إنّه دفن للحياة بشكل أو بآخر، خارج حدود الزّمان والمكان.فلا فرق إنْ كان الطّمر في بحر مدينة الميناء الشّمالية في لبنان، أو في الكويت في أقصى الخليج العربيّ، أو  في نابولي _إيطاليا، جارة الشّرق. ولا فرق إنْ كان نتيجة متطلّبات المدنيّة الحديثة في الآن، أو لظواهر طبيعيّة كونيّة حدثت قبل آلاف من السّنين.

بمعنى من المعاني، فإنّ الأديب مستخدمًا بعض عناصر الخيال المادّي لغاستون باشلار، قد ينحاز في هذا المقام إلى طبيعة الماء الواهب للحياة والحركة، وليس نظيرَيه الطّين، و النّار، وكلاهما هنا يوقفان عجلة الحياة.  الماء ترجمة الرّغبة في الارتفاع العلويّ لوحدة مرجوّة ما بين الأرض والفضاء. أمّا النّار فهي عالم يجمّد بحممه مسرى الحياة في مواجهة الحركة، بالعبور بالرّماد إلى السّكون.

  إنّ تواتر مفردة طمر أو دفن_والعودة الى القاموس لتبيان توحّد المعاني، ولو اختلفت الّلهجات عند العرب _ يقابلها تواتر عبارة حارس الأحياء، يعبّر عن موقف وجوديّ من الحياة والموت، يتأرجح فيه قلق السؤال الإنساني الدائم عن المصير المتأرجح بين ال”فوق” وال”تحت”، بين العلوّ والجوف.

وإنْ كان ذلك موصولًا بتجربة شخصيّة من خلال استحضار زيارة البلدة الإيطاليّة، وأخذنا إلى أزقّتها بالصّور والطّعم، حتّى لنكاد نشتمّ ونتذوّق رائحة الرّماد. إنّ ذلك الخيال الدّيناميّ يحرّر الذّات -كما يوضح الدكتور نبيل أيوب- ” من الواقع، ويرفعها إلى عالم شفّاف …ثم يلغي الزّمان، ويعيد الذّات إلى الّلحظة الأولى، لحظة وحدتها مع الطّبيعة الّتي ظهر الإنسان عبرها مخلوقًا كونيًّا.”.

ختامًا لا بدّ من القول، إنّ كلّ ذلك لا يتهيّأ إلّا لكاتب أديب، يلحّ على الإبداع أن يأتي… فيستجيب.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *