نظرات في الشِّعر وتأمُّلات الفَرَح الأحمر

Views: 860

 جورج شَكُّور

 كَلامي على الشِّعر هو أَن أَغُطَّ القلم في الذَّات، في الجُرح الأحمر، في الفَرَح الأحمر… أَنْ أَرسُمَ في الأغوار البعيدة من النَّفسِ مثْلَ قوس غَمام، وتُمطرَ في سماء القلب رَذاذًا كَدَمْع الحَسَاسينِ على أَقمار وَرْدة.

الشِّعر؟ يا طِيبَه! فَرَحٌ شاعِلٌ وعَذابٌ لذيذٌ كما القُبَلُ القاسِيات… وَجَعٌ أَمامَ الجَمال، صَلاةٌ جديدة لِكلِّ يوم جديد. ضَبابُ بَخُورٍ، ورَجْعُ رنينٍ في مَعابِد الرُّوح.

إنَّه شُعلةٌ لافحةٌ تَرَكَتْها السَّماء في صَدْر إنسان، يومَ سَكَنَ الأرضَ لِيَظَلَّ يَذْكرُ كلَّما رَنا إلى الشَّمس، وفاتَنَتْ عيناه بَرِيقَ النُّجوم، أَنَّ فيه شيئًا مِنْ عَلُ، من هُناك…

الشِّعر هو هذه الآهةُ المَمْدُودة من الأَرض إلى السَّماء كما يمتدُّ شَعْرُ حبيبِتكَ، يَسْتَرسل ويَطُول.

يا لَهُ عُصفورًا غريبًا يُغَرُّدُ في الغَيب، في اللاَّهُنا مِنْ على شَجَرِ الجَنَّة، فيكلُّمه مِنْ على شَجَرِ القلب من هُنا عُصفورٌ أَلِيفٌ، كَرُّه الحالي مُغَمَّسٌ بِشَمس ولَيْل…

واللهُ نفسُه يكتبُ شِعرًا، يَنْحت شعرًا. الله عَلَّمَ الإنسانَ الشِّعرَ، وأَوْحَى إليه الرُّؤى ولذَّةَ الهَمْس والإيماء… في كُتُبهِ العُلَى، في كلام مُرْسَليهِ، وفي الوجود كلِّ الوجود، قال اللهُ شِعرًا: مِنْ نَقْشه المتناسِق على ريش العصافير، إلى دَوَران النَّجمة الكبيرة الَّتي تبدو لِعَينيكَ في اللَّيل أنيقةً ذاتَ بَرِيق كما الدَّمعةُ في سَواد عَين، في ذلك شِعر لذيذ.

في الغَمامة الَّتي تترجَّح في السَّماء، ثمَّ تَنْحَلُّ خُيوطًا تَنْهمر، وتُمْرعُ منها الأرض، فَتَخْضَوْضِرُ، وتَزْهَوهِرُ، وتَحْلَولي، كان للهِ يَدٌ، وكأنَّما كان الله شاعرًا.

والشِّعرُ كالزَّهرة الَّتي تغتذي من الأرض، وليست هي الأرض، لكنَّه في كُلِّ حال زهرةٌ فريدةٌ لا تذْبُلُ، ولا تَعرِف نِظام الفُصول…

والشِّعر كالبحر، ومتذوِّقة الشِّعر في أمره يختلفون – شأنَهم في أُمور الحياة – فمنهم مَن يُؤْثِرُ البِرَكَ الصَّغيرة، ومنهمُ الغَوَّاصُ في اللُّجَج الزُّرْق حيث اللُّؤلؤُ والمَرْجان…

وبين النَّظم والشِّعر فارِق لا يعرفُه إلاَّ الخُبراء في التِّقنيَّة الشِّعريَّة والنَّقد الجَماليّ. ولا يَشْعُرُ به إلاَّ مَنْ أَحرقت جَمَراتُ الشِّعر شَرايينَ قلبه الشَّفيف؛ فالنَّظم وَعْيٌ لِفكرةٍ باردة ما لها مُعادِلٌ نَفْسيّ وِجْدانيّ، وإن كان بعضُه يعتمد الفصاحةَ، والفَخامةَ، والرَّصْفَ المُحْكمَ، والتَّطريبَ الخارجيَّ، فذلك لا يُغْنِيه عن إشراقة الرُّوح الشَّاعرة، والتِماعِها النُّورانيّ. فيما الشّعر سَكْرة رُوحيَّة، وصَفاءٌ ضَوْئيّ ذو بريق عَجَب يتكسَّر على مَرايا النُّفُوس الرَّهيفة:

الشِّعرُ مِنْ نِعَم السَّماء شُعاعةٌ

                                     تَهْمِي عليَّ فيُشْرِقُ الإِلْهامُ

ولِذا يَسْقُطُ كثيرٌ ممَّا اصطُلِحَ على أَنَّه شِعرٌ في آداب الأُمم، حتَّى لا يُمْكِنك أن تقعَ قبلَ الثُّلث الأوَّل من القرن العشرين، على قصيدة في الشِّعر العربيّ هي شِعْرٌ كُلُّها.

والشّعر بَسيط على امتناع، كثيف على شَفافِيّة كما الشُّعاعُ المَنْسُوج من ألوان عِدَّة، بالعين المجرَّدة لا تَبِين.

وهو فَنٌ جميل، ولئن نَسِيَ ذلك الكثيرون أو تَناسَوا. فَنٌّ صَعْبٌ وذو أصول ودُرَب، يقوم على الجَمْع بين سَمْعِيِّ الففنون وبَصَريِّها، ويُفْرِغُ الرُّوحَ في قالب من جمال، يُفْرِغُ حتَّى البَشاعةَ في قالب جميل.

والأصول في الشِّعر نتائجُ اكتُشِفت منذ القِدَم، ولم يُفْرَغْ منِ اكتشافها، ومن الإضافة إليها بالتَّدرُّج، إلاَّ أَنَّ جديدها مِن اكتشافها، ومِنَ الإضافة إليها بِالتَّدرُّج، إلاَّ أَنَّ جديدها لا يَخْرُج عن خطِّ الأَصالة، وعن مُقَوِّماتٍ ترتكز عليها الرَّوائع.

كما أنَّ لكلِّ لغة عبقريَّتها، ولكلّ شِعر خاصِيَّتَه، ومن خصائص الشِّعر العربيّ أن يكون موزونًا ومُقَفَّى، على أَنَّه يمكنُ أن تُنَوِّع فيه القوافي كما تُنَوِّع هندسةُ التَّفاعيل.

ولَقَبُ شاعر مُحَبَّب إلى كلّ نفسٍ ذاتِ رهافة، ولَطالما تمنَّاهُ المُلوكُ عَبْرَ العُصور، فكانت لهم مُحاولات في نظمه، ومُشاركة في نَقْدِه، وطَرَبٌ لإنشاده.

ويُحَدِّثك بعضُهم عن شعر سَهْل، وعن شعر يَتْبَعُ مُدْرجةً (مُوضَة)، فيا – رَعَاكَ الله – أَمَا رأيت إلى الفنَّان يَنْحتُ تِمثالاً لِيُفْرِغَ الصَّخر في قالب من ذاته؟ أَما رأيت إليه، رغمَ عبقريَّته، وأُصوله، وإيهامه إيَّاكَ بالعفَويَّة، والبَساطة، كيف يَتَصَبَّب العَرَق عن جبينه؟ وهل من فرق بين القصيدة والتِّمثال غيرُ أنَّها هي إيَّاه، وقد زِيدَ عليه رُوحٌ ورقص وغُنَّة. القصيدة تمثال يتكلَّم ولو غاب صاحبُه، يتكلَّم ويجعلك في كلِّ مَرَّة تُطالِعُهُ تعيش جَوًّا جديدًا… ويُحَدِّثك آخرون عن “شِعر مَنْثور”، والتَّسمية غيرُ سليمة لأنَّ الشِّعر المنثور هو تحويل قصيدة منظومة إلى نَثْر.

فإنْ أَرادوا بتسميتهم تلك نثرًا صادرًا عن تجربة وِجدانيَّة عامرة بالعواطف والصُّور، وغنيَّة بالموسيقى والإيقاع، فَحَرِيٌّ بهم أن يُسَمُّوا ذلك “نَثْرًا شِعْريًّا”.

ويحدِّثونَكَ عن “قصيدة النَّثْر” أو “الشّعر الحرّ”، متأثِّرين بالتَّسمية الفرنسيَّة، ناسِينَ أنَّ لكلّ لغةٍ عبقريّتها، وعبقريّة العربيَّة أن يكون شعرها موزونًا ومُقَفًّى، فهي تمتاز بغزارة قوافيها، وسَعة أوزانها وتنوُّعها، كما هي متميِّزة بتفاعيل أوزانها الغنيَّة بتموُّج الأَنغام، والطَّيِّعةٍ التَّشكُّل في أَشكال جديدة، وهندسة جديدة للقصيدة بحسب مقتضى المعنى، وتموُّجات حَرَكة النَّفْس الشَّاعرة المُلَحَّنة.

ولا بُدَّ من كلمة واضحة كالشَّمس، صارمة كالسَّيف هي أنَّ وسائل الإعلام، مجتمعةً، لا تستطيع أن تُسْقِطَ شاعرًا مَوْهُوبًا، إن كانت ضِدَّ نَهْجِه الأصيل، كما أنَّها لا تستطيع أن تُطْلِعَ شاعرًا، وهو ليس بشاعر.

ومن، الآنَ، إلى الأَبد سيظلُّ الشَّاعر شاعرًا يَهُزُّك شعره عند سَمَاعه، ويأْسِرُك “مَوْضِعُ التَّعَجُّب” فيه، ويَظلُّ الصِّحافيّ صِحافيًّا، ولو شُبِّهَ له أنَّ الصِّحافة تَصْنَعُ منه شاعرًا. وعلى كُلِّ حال:

إنَّما الشَّاعر خيَّال فإنْ

                                       مَلَكَ الصَّهوةَ لَبَّاهُ الحِصانْ

ويطيب لي أن أُذكِّر أنَّ الشّعر ثابت في الأُصول، أصولِ اللُّغة والبلاغة وأُصول الوزن والقافية، سَهْلٌ في مجمله، ولئن رَصَّعَه بعض من صعوبة فذلك من مقتضيات الفنّ الجميل، ومتطلَّبات المستوى العالي في الشِّعر.

وقديمًا قال أحد النُّقَّاد: “أَفْضَلُ الشِّعر ما لم يُعطِكَ نفسه إلاَّ بعد مُماطَلة وامتناع”، فكأنَّه العروسُ، حُلْوةً ومُدِلَّة.

وقديمًا أكثر، قال نُقَّاد اليونان في مَعْرِض حديثهم عن الشِّعر: “على مَنْ يَشَاءُ أن يتكلَّم لغة الآلهة أن يُجيدَ لغةَ النَّاس أوَّلاً”.

فهذا الكلام الَّذي صِيغ بلُغة النَّاس، مرَّةً، وبِلغة الآلهة، مَرَّاتٍ، أَوْدُّ أَن أَسْكُبَ في كأسِكَ منه شيئًا قَليلاً… أَسْكُب حُبًّا نبيلاً لمن يُسْكرهم الحُبُّ النَّبيل، ولُغةً صافيةً لِمَنْ يُسْكرهم في الشِّعر الصَّفاء.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *