ديوان “أول العنقود” للشاعر جوزيف الحاج (شعر لبناني)

Views: 1452

 د. جورج شبلي            

عندما تغيبُ الأخيلةُ عن رسمِ إشارةِ الزَّجل، وتَلَمُّس أيقوناته، ولا تمرُّ أصابعُها على صُوَرِ مُبدعيه، ساعتذاك، تغيبُ كُنيةُ الشمس عن بعلبك، ويُحرَمُ التراث من نَعماء الأبوّة. فالزَّجل موجود، وهو سجلٌّ لِعزٍّ هويّتُه لبنانية، وليس سَأَماً أو هجراً يُلقي بنا في غربة. وعلاقتُنا به ليست مرهونةً احتمالاتُها بقوس السَّحاب، بل هي حالة حبّ صادق كالعِشق، ويصِحّ فيها ما قاله “جيرالدي” : عندما لا نحبّ، قد تكفينا القُبَل، ويكفينا الوصال، ولكن عندما نحبّ، فكلّ هذه لا تكفينا.

جوزيف طانوس الحاج، بلغَ من صنوف الإمتاع  في أوّل عنقودٍ له، ما جعلنا نتذوّق أطيبَ خمرِه. هو لم يكتب لأنَّ كبدَه عصرَها الحنان، أو عروقَه ناءَت بدفقِ التَّرفِ الإبداعي، بل لأنّ عينيه شبعتا من ارتيادِ مشارف الجَمال، فأرسلتا جفونَهما الى سَمَر فمِه، فانطلقَ تغريدٌ فيه فتاتُ عطرٍ ونَثرُ تِبر، يرشحُ أنفاساً لطالما انتظرنا أن تبوح. 

في “أوّل العنقود”، لا نقفُ عند التَّركيب أو الكلمة أو الحَرف، بل عندَ الهمسة، والهمسةُ مع الحاج أحجارٌ كريمة، قدَّمها على أطباقٍ من لون القمح. همسةٌ يقومُ حولَها هالات، يتشابك فيها الحسّ بالخيال، والواقع بما وراءَه، والإيحاء بالموجود، وبذلك تستقيمُ المُتعة. وكأنّ الحاج في همَساته، هذه التي ريشتُها المدلَّلة لم تُغمَس إلاّ في خصور الورد، بلغ ما بلغه  “موسيه ” في قوله: ” إنّ في كلّ بيتٍ لشاعرٍ مطبوع، أضعافَ ما يُعَبِّر، فعلى القارئ أن يدركَ هذا الباقي”.

 

 ولأنّ جوزيف الحاج من معشرِ الأناقة ومن ضجَّة الطّيبة، وهما قامةُ والده الشّاعر الذي عنه أخذ جوزيف وقودَه الإبداعي، كان السَّخاءُ في قصائده على مجاذيفِ التُّقى، وفي مواسم القِيَم. فعندما نقرأ أوّل العنقود نعود الى أوّل عهد الصَّفاء، لأنّ صاحبَه لم يكتب إلاّ على ارتعاشاتِ الشَّمعةِ وشُحوبِ القنديل، من هنا، كان مبدعاً ذا شاعريّةٍ مُركَّبة: ثروةٌ عاطفية مُشرِفةٌ على دنيا من الطمأنينة، بُعدٌ فكريٌّ لا يبينُ فيه إلاّ حكمةُ العقل بأسمى مَعدِنها، خيالٌ يزدحمُ بألف خيال، رُقيٌّ في الذَّوق الذي لم ينتظر معه مرةً على مَضَض. 

  مقطوعات الديوان بحثُ الرّيحِ عن براعمِ نيسان، لَواحظُ تنسجمُ فيها الأَنفةُ والبساطة واللَّحنُ المعصوم، لذا لم يكن الحاج في أول العنقود قوّالاً، بقدر ما كان مُصلِّياً ومنشِداً، تترافقُ معه عَفَويةُ الأداء وإشراقةُ النَّغم. وكأنّه كان يذوبُ في استغراقه الرّوحي، ثمّ يُطِلّ على عالم الكلمة حاملاً كنوز التأمّل الغنيّ، ينقلها في فرحة الإبداع. وما ذلك إلاّ لأنّ جوزيف الحاج يريدُ أن يَسمع الموسيقى قبلَ عزفها، فقصائده إذاً ليست نُطقاً، إنها أنغامٌ موزونة ترجمها هذا المُغرَم بالتغريد على أفنان الجمال، فجاءت إيقاعاتُها الهيفاءُ طَرَباً زُلالاً، أو كأساً تُقسِمُ سَكَراً بين جُلاّسِها. 

 شعره تتغلّب فيه الحالة على القول، فهو أَلَقٌ متّصلٌ بأعماق، له فيه صحيحُ التجرِبة وبراعةُ الغَوص، ما يُنهِضُ على يديه القلائد، وما يُلِحُّ بنا في غَبِّ التقاط الأضواء. وهو وعيٌ قريب من الحياة، خيطُ ألوانٍ منسوجٌ بهدوء، ثقافةٌ لم يجدها الحاج إلا في كتاب نفسه، هذه النفس التي كم تفتّح من إطارها صفاوات، وكم عُصِرَ من خدودها كؤوسٌ لا تُقَدَّمُ إلاّ في يوم عُرس.

 

 شعره تَفديةُ حبيبٍ نال من دمه مِبضَعُ الشَّوق، وهو الشَّريف الرضيّ الذي يذوب روحُه إذ يناجي مَن يعشق. لقد زوّد العشّاق بأحاديث عن الحبّ من لَحمٍ ودم، قَلَّ مَن لا يردّدها في مجالات غرامه. قصائده الغَزِلَةُ المُرتاحة الأطراف هي طعم الوصل بعد الهجر، فرحٌ مذاب، فالرقّةُ فيها نسيمُ عبيرٍ في غِلالةِ ماء.  قصائده، كلّ فصول الدّهر فيها ربيع، وإن نبتت في تربةٍ من جَمر، فهي تَنعمُ بدفءٍ ضوئيّ أين منه فتور الأرض. 

لقد عرفنا مع الحاج كيف تُطمَس معالمُ العاديّة، هذه التي حرَّمها عليه نبضان: نبضُ الموهبة ونبضُ الريشة، فالشّعر معه تجميلٌ لا أصباغ، تنسيقٌ لا تَعَمّل، دقّةٌ لا تَكلّف. لذا، كان ذَوقُه منفتحاً على غير المألوف، ممسوساً بيَدِ الفنّ، فلا نقعُ معه إلاّ على سُطورٍ مُذَهَّبة. 

أمّا الضّيعة، وهو بها كَلِف، فصُورُها معه تتوثَّبُ فيها القوة والحياة والجِدَّة، أخّاذةً وكأنها عذراءُ لم يَمسَسها شاعر. هي تتحرَّكُ معه بكلّ ما فيها من ذخائرِ رياضٍ، وألوانِ عَرَقِ العافية، وألطافِ وفاءٍ يحمي من المَعاطب، إنها أوركيسترا بيادرَ وحصّادين، كُرومٍ ومَعاصِر، خيمةٍ وإبريقِ فخّار…فالضيعةُ التي لم يرَ أرقى منها نُبلاً، وحدَها معه مُختارةٌ للمُمالَحة، ووحدَها لم تَدَّخِر عنه السّرورَ بحضورِها، وبها وحدَها لَثَمَ بَدراً وشَرِبَ شمساً، حتى صارت معه كأساً تُشرَبُ وكأساً تُصَبّ.

جوزيف الحاج، جمعَ الله لي شَملَ المسرَّة عندما جمعني به هنا، في ظلِّ بَرَكة سيّدة الدلفراند، حيثُ الصّنوبرُ ينضحُ قداسة، وحيثُ تُحمَدُ أخلاقُ المَرءِ قبلَ الإختبار من رُقَعِه. الشاعر الحاج عادَ الى فضائه محلِّقاً في “أوّل العنقود”، وقد سايَرَته آفاقُ القصائد واستجاب له امتشاقُ الجمال، فكان سيّالاً في سَبكِ الحُلِيّ كلمات. جوزيف الحاج، يا صديقي الموهوب، لن أكتبَ تذكرةً في “أوّل العنقود” إلاّ : هذا ديوانٌ، سيلبَسُ الزَّجلُ الحزنَ بعدَه، لوقتٍ طويل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *