تحسين الأمعري…  أديب الإنسانية والعروبة

Views: 895

الدكتور عماد بسام غنوم

(أستاذ جامعي وباحث أكاديمي)

يقول الأديب اللبناني مارون عبود:” لا أدب بدون حياة، وفناء الأدب دليل على فناء الحياة نفسها”. فالإنسانية عبر العصور المختلفة لم تستطع أن تحيا من دون أدب يعبر عنها، ويسجل ما تعانيه وتقاسيه وتمر به من تجارب في هذا العالم. وفي الواقع منذ وجد الإنسان على وجه هذه البسيطة، وقبل أن توجد معاهد الآداب واللغات ومدارس الأدب واتجاهاته، برز أدباء كبار  حيث وجدت الحضارات من بلاد ما بين النهرين إلى مصر الفرعون وحضارة اليونان، وصولاً إلى زماننا اليوم، مرورًا بالحضارة العربية وما أنتجته من أدب إنساني خالد على مر العصور العربية الزاهرة.

فالأديب لا يُصنع في معهد أو جامعة، لأن الحياة التي تضج فيه هي التي تصنعه، وتصنع أدبه، وكلما اقترب الأديب من ملامسة الروح الإنسانية في ما يصدر عنه من إبداع أدبي، كلما حفظ لنفسه مكانة في مصاف الأدب العالمي. إلى هذا النوع من الأدباء ينتمي تحسين الأمعري، فأديبنا لم يدرس الأدب ولم يحترفه، ولكن إنسانتيه سمت فأبدع أدبًا رفيعًا خالدًا منذ كان يافعًا، ولعل شهادة أديب بحجم إحسان عبد القدوس لتحسين الأمعري يوم كان في الخامسة عشرة من عمره، لخير دليل على ما نقوله.

قد يقول البعض إن أدب تحسين الأمعري بسيط وغير معقد، ولهؤلاء نقول:” نعم، إن أدب تحسين الأمعري بسيط بساطة الحياة نفسها… عميق عمق الذات الإنسانية بكل نوازعها وأحلامها”. أليست أغنيات فيروز جميلة جدًا لأنها تلامس حياة الناس البسطاء والعاديين؟! كم تشبه رواية خمسة واحد تسعة ستة أغنيات سفيرتنا إلى النجوم! فهي تنطلق من عمق الحياة، وتصور تحركات الناس في مجتمعهم الإنساني، فالأدب الحق هو الذي يصور الحياة ماضيها وحاضرها، مستقبلها القريب والبعيد، ويضع مخطط الصرح الذي تراه مخيلة الأديب الموهوب، كما يقول مارون عبود أيضًا.

في الواقع يكمن جمال أدب تحسين الأمعري في بساطته، وإنسانيته فنحن نتحرك في هذه الرواية مع أشخاصها على مسرح الأحداث ونتابع أحوالهم ومشاعرهم، ونتعاطف معهم ونحبهم، والسبب بكل بساطة أن شخوص هذه الرواية تشبهنا، وحياتها تشبه حياتنا، وأحلامها تشبه أحلامنا وطموحاتنا، كمال رمزي هو نموذج للإنسان الكوني والمواطن العربي، المكافح والمجد والطموح، المؤمن، المثابر، طاهر الطوية والسريرة، المحب العطوف… في الواقع يجسد كمال مزي الإنسان الكامل الذي اكتملت فيه الإنسانية بكل أبعادها، فهو الزوج المحب، والأب العطوف، والتاجر الصادق، والصديق الصالح…

إن كل إنسان يحلم أن يكون كمال رمزي، فالقارئ لا يستطيع إلا أن يتفاعل مع شخصية الأمعري الأساسية، وبطل قصته، وربما حاول الأمعري من خلال هذه الشخصية أن يوجه الناس والمجتمع إلى ما يجب أن يكونه كل إنسان في الحياة، وإن كان أبناء أديبنا يرون أن رواية خمسة واحد تسعة ستة ليست سيرة ذاتية للأديب، وهي ليست كذلك طبعًا، إلا أن حضور الأديب في عمله تمثل بحضور كمال رمزي في النص.

من نافل القول ونحن نقرأ رواية الأمعري أن نقول:” إن القصة تخلو من شخصية شريرة”. ونقصد بشخصية شريرة شخصية قد استبد بها الطمع والأنانية، أو الغيرة والحسد، أو أي شيء سواها من الأمراض والعلل النفسية التي تؤدي إلى تصادم البشر، وإلى جنوح بعضهم إلى الأذية والشر، لتحقيق غاياته… ، وهنا نستشف طوية الكاتب الحقيقة الطاهرة، فهو لا يؤمن بالإنسان الشرير، بل يؤمن بالإنسانية الحقيقية، التي تساعد وتبني ولا تهدم وتؤذي…

ونلاحظ من خلال أحداث الرواية أن كل ما يواجه أبطالها وأشخاصها من مصاعب ومشكلات، هو ناتج عن تحديات الحياة نفسها، التي نجد هؤلاء الأشخاص يسعون بعملهم وجدهم إلى تذليلها وتخطيها، ففي الوقت نفسه يؤكد الأمعري على ضرورة مواجهة تحديات الحياة، والسعي والجد بإيمان وإخلاص ونزاهة، وعندها ستصل بإذن الله وسيكون لك ما تريد، بل أكثر، فالقصر الذي حلم به كمال لزوجته المحبة، صار ثلاثة قصور منتشرة في أرجاء العالم العربي، إن رسالة الرواية الإنسانية ببساطة هي أنه عليك أيها الإنسان أن تكون صالحًا محبًا مجتهدًا مجدًا، وأن لا تركن للشر، وحتمًا ستحقق أحلامك، وستؤدي دورك الفاعل الذي يسهم في نهضة المجتمعات والأوطان.

وهناك قضية مهمة أراد كاتبنا تحسين الأمعري إبرازها والتأكيد عليها، هي فكرة العروبة والنزعة العروبية الوحدوية، فكما يبدو من خلال أحداث الرواية، التي تجري في عدد من الأقطار العربية التي يتحرك فيها أبطال الرواية وأشخاصها من دون صعوبات تذكر (سوريا – فلسطين- لبنان- الأردن- مصر- الكويت- ليبيا)، فضلاً عن زيجات أبناء بطل القصة من مختلف الدول العربية، نجد أن الكاتب يرفض الفرقة والانقسام، ويؤمن بوطن عربي واحد لجميع أبنائه، يعيشون فيه متحدين، متعاونين متآخين.

 وإن كنا نرى بطل الرواية كمال رمزي يرفض العمل في السياسة، ويمنع أبناءه من الاقتراب منها، فليس لأنه غير مؤمن بالعروبة والوحدة، بل لأنه يعلم أن السياسة في بلادنا فاسدة، وأنها ما دخلت شيئًا إلا أفسدته، وأن الفاسدين يستغلون السياسة لتحقيق غاياتهم ومآربهم الشخصية، وأن فساد السياسة أدى إلى خسارة قضايانا العربية العادلة والمحقة، لا سيما القضية الفلسطينية، إلا أن الكاتب ترك في نهاية روايته الباب مفتوحًا لعمل سياسي نزيه وشفاف، من خلال الرسالة التي تم بثها عبر أثير جميع القنوات والتي كتبها ابن كمال رمزي هلال، والتي تشكل خارطة طريق مبدئية لوحدة عربية كاملة وشاملة، تتحقق فيها طموحات كل إنسان عربي.

على الرغم من بساطة اللغة والأفكار في رواية “خمسة واحد تسعة ستة”، إلا أن قراءتها مغامرة جمالية ممتعة، ورحلة إنسانية ملهمة، وتجربة عربية وحدوية واعدة.

وختامًا نقول لقد خسر الأدب وخسرنا الكثير، لأن تحسين الأمعري ابتعد عن الأدب بسبب أعماله ومشاغل الحياة، فسوى هذه الرواية التي لم ينشرها في حياته، والتي يسعى أبناؤه لنشرها اليوم بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على رحيله، فللكاتب عمل وحيد هو مجموعة من القصص القصيرة نشرها يوم كان يافعًا تحت عنوان “صوت الضمير”، وهي العمل الذي شهد له من خلاله الأديب الكبير إحسان عبدالقدوس.

 لذلك لا يسعنا إلا شكر أبناء الراحل الأديب تحسين الأمعري على اهتمامهم بما ترك والدهم من آثار أدبية، لا سيما نشر هذا العمل الأدبي الجميل، ليشكل بصمة مميزة وإضافة نوعية إلى الأدب العربي.

طرابلس في أيار 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *