حكاية قبّعة..!

Views: 1473

 السّفير د . محمّد محمّد خطّابي *

سألني أحدُ الأصدقاء الظرفاء وهو الأديب الرّقيق الصّديق “صدّيق عبد الكريم”  عن أصل أو مصدر أوموطن “قبّعة ” ظريفة لطيفة يراها فوق أمّ رأسي فى كلّ حين، وقد تكون فى نظره  من أصل (كولومبّي، أوبنميّ، أوإكواتوريّ..) ! ، هذه القبّعة اعتدتُ على ارتدائها صيفاً وشتاءً فى آنٍ واحد لتقيني لفحة الشمس الحارّة  الحاميّة الوطيس فى الصّيف، مثلما تقيني من شدّة وحدّة البرد القارص الزّمهرير فى الشتاء، وهي تعود بي الزّمان القهقرىَ، وتذكّرني فى كلّ حين، من باب الشّئ بالشّئ يُذكر، ببريه توفيق الحكيم ، وبكاسكيت أو قلنسوة نجيب محفوظ ، وبالطربوش الفاسي للشّاعرين حافظ ابراهيم، ومحمود سامي البارودي، وبعمامة الأديبيْن الناثريْن صاحب الأسلوب السّاحر مصطفى لطفي المنفلوطي، وصاحب الطّبع السّاخر عبد العزيز البِشري، فضلاً عن القبّعة الإفرنجيّة للشاعر السّوري أدونيس ، وطاقيّة الشّاعر العراقي محمد مهدي الجواهري التي أحبّها العراقيّون جميعاً لأنها كانت تمّيزه عن جميع الشّعراء ،والتي وكانوا يرونها وكأنها تاج الشّعر العربي يحمله على رأسه!.

 

 وأخيراً وليس آخراً ذكّرني ونبّهني أخي الأبرّ، الأديب الرّقيق الأستاذ عبد اللطيف خطّابي خلال أحاديث شيّقة لنا عن هذا الموضوع، نبّهني إلى أنّنا كثيراً ما شاهدنا، ودغدغت لواعجنا، وحرّكت فضولنا بل ونظرَنا هذه القبّعة الكولومبية  الفريدة التي تتربّع على رأس سيّد المُبدعين، وشيخ الرّوائيّين الكولومبييّن غابريّيل غارسّيا مركيز الذي طالما تباهى بها فى مختلف المناسبات كقبّعة كولومبية جميلة نسجتها أنامل صبايا، وغواني، وحَسْنوَات بلاده اللاّئي لا تخطئهنّ العينُ أبداً فى كلِّ صُقعٍ من أصقاع هذا البلد السّاحر،والآسر وهنّ يترنّحنَ،ويتمايلن ويَذرعنَ،ويقطعنَ شوارعَ، وأزقّةَ ،ودروبَ،وساحات  حواضر بوغوتا ،وميدييّن، وبرّانكييّا ،وكارتاخينا دي إندياس فى دلالٍ،وجلالٍ، وغنَجٍ ورقّةٍ وعذوبةٍ بجمالهنّ الظاهر، وحُسنهنّ الباهر .   

 

 

هذه القبّعة تُنسَب طوراً لبنما، ويُرْجِعُون مصدرَها الأصلي تارةً للإكوادور، وأخرى لكولومبيا، هذه القبّعة سبق أن أهداني إيّاها أحدُ الرؤساء الكولومبييّن النبلاء خلال إحدى الرّحلات الإستكشافية والإستجماميّة داخل أدغال كولومبيا السّاحرة الفيحاء ! ونظراً لكوني أعرف حقّ المعرفة مدى تطلّع ، وتوْق الصّديق العزيز وفضوله المَعرفي الحميد إلى التأكّد من  أصل موطن هذه القبّعة التي لم تعد تفارقني فى حَلّي وتِرْحالي، وسَفَرياتي وتِجْوَالي منذ عودتي من بلدان القارّة الأمريكية الجنوبيّة التي عشتُ بين بلدانها ومناكبها سنوات كثيرة ، ولقد جرّنا الحديث ذاتَ ليلةٍ مُقمرةٍ صديقي وأخاه الأستاذ عبد الواحد عن هذا الموضوع خلال جَلسَةٍ وجِلسَةٍ ( هيئة ومَرّة) فى سهرةٍ رمضانيةٍ رائعةٍ فى رُبوع مدينة الحسيمة الخزاميّة الطّيبة ، الزكيّة،والعبقة الفوّاحة الجميلة التي  يحيط بها البحرُ من كلّ جانبٍ، ويتوّجها أحدُ أجمل خُلجان العالم ،هذه الجلسة الطريفة جرَتْ منذ سنواتٍ غيرٍ بعيدةٍ ولكنّها انضمّت الى سابقاتها من سنين العُمر التي مرّت،وغبرت،ومضت،وانصرمت لحال سبيلها فى سديم الزّمن والأعوام، والليالي والأيام كذلك ،عندئذٍ ارتأيت أنه لكي أشبع الغليل المعرفي لصديقي صدّيق عبد الكريم كان لزاماً عليّ ، ولا مناص من أن أخطّ له هذه الكلمات : 

 صديقي العزيز هذه القبّعة لم يهدني إيّاها الرئيس الكولومبي الأسبق ” بيليساريو بيتانكور” الذي  تراه فى الصّورة معي رفقة حرمه بل إنّ الذي تفضّل مشكوراً وأهداني تلك القبعة الفريدة واالجميلة هو الرئيس الكولومبي السّابق Álvaro Uribe Vélez (الذي تولّى حكم البلاد فى المدّة المتراوحة بين 2002-2006 y 2006-2010) ) إنّه بادسيّ مثلنا كما ترى..! أمّا الرئيس الأديب الراحل BELISARIO BETANCUR  فكان رئيساً على كولومبيا فى الفترة المتراوحة بين1982–1986 خلال وجودي بعد فى مدينة مدريد العامرة، و الذي كان من أحبّ الأصدقاء لصاحب مئة سنة من العزلة قيد حياتيْهما .

 

هذه القبعة ربّما تُسمّىَ من باب الحيف والشطط – –  sombrero panameño  ( أيّ قبّعة بنميّة) إلاّ أنه يُقال أنها من أصل إكواتوري، وكولوومبي كذلك وليس بنميّ وحسب، وخلال إقامتي وزياراتي المتعدّدة والمتوالية لبنما التي عملتُ بها سفيراً لبلدي كذلك كان قد أخبرني بعض الأصدقاء البنمييّن عن حقيقة وأصل اسمها ونحن نجول ونصول فى ردهات، وفضاءات ،ومنشآت ،وممرّات،ومباني آليات استخدام القناة العالمية الذائعة الصّيت التي تجمع بين بحريْن عظيمين ( المحيط الأطلسي والمحيط الهادي) أخبروني عن حادثة تاريخية هي التي جعلت هذه القبّعة تتبنّى وتحمل هذا الإسم ، فبعد أن زار الرئيس الأمريكي الأسبق تيودور روزفيلت بنما عام 1906 لمتابعة ومعاينة سير أشغال بناء (قناة بنما) الشهيرة، وكانت أوّل مرّة يقوم فيها رئيس أمريكي بزيارة خارج بلده ، وأثناء الزيارة كان الجوّ قائظاً حارّاً وكانت الشمس حامية الوطيس بشكلٍ كبير فلاحظ أحدُهم أنّ رأس الرئيس الأمريكي الأصلع كان عارياً وكان جميع الحاضرين يرتدون قبعاتهم لتقيهم لفحة الشّمس الحاميّة، وتصدّ عنهم أشعة الشمس الحارقة من أنّىَ واجهتهم ! ،فتقدّم مواطن بنميّ شهم وناوله قبعة من هذا النوع فوضعها فوق رأسه وهو جَذِل مسروركطفلٍ غرّير، ولعلّ الرئيس الأمريكي قال لمرافقيه حينها  مُعبّراً عن شكره، وامتنانه، و مدى فرحه : ( ما أجملَ وألطفَ وأرقّ هذه القبعة البنميّة) ! وربّما بقيتْ منذ ذلك التاريخ تُسمّى كذلك ، والغريب أن المواطنين الإكواتورييّن ينسبونها لأنفسهم ولبلدهم كذلك، وربّما كانوا مُحقّين فى ذلك أيضاً ،فيقولون : ” قبعة إكواتورية sombrero Ecuatoriano  de paja-toquilla ،وقد أصبحت هذه القبّعة منذ 1982 فى هذا البلد تراثاً ثقافياً إنسانياً غير مادّي مُعترفاً بها من طرف منظمة اليونسكو العالمية Legdo  cultural inmaterial  والمواطنون فى بلد الإكوادور الذي عملت سفيراُ به كذلك،  مثلما هو عليه الشّأن فى كولومبيا يستشيطون غضباً وحنقاً وضيماً  هم الآخرون عندما يسمعون منتوجهم التراثي المحلّي الوطني يُسمّى ” بنميّ “  Panameño.

د. محمد محمد خطّابي وقبّعته البنميّة

 

 هذا الضّرب من التنافس المحموم يحدث كذلك من نوعٍ آخر بين بلديْن أخرييْن فى أمريكا الجنوبية وهما البيرو، وتشيلي حيث يتشبّث كلٌّ منهما بأنّ أصل ” البطاطس” من بلده، وما فتئ هذا التباري، والتباهي، والنزاع، والسّباق محتدّاً بينهما حتى اليوم . وعلى ذكر البطاطس المقلية منها على وجه الخصوص  les pommes de terre  frites فمعروف أنّ الحرب الضّروس ما زالت قائمة كذلك ، وما انفكّت السّيوف مرفوعةً إلى أعلى هذه المرّة بين بلديْن أوربييْن – منذ عهود بعيدة خلت –  وهما فرنسا وبليجيكا ،حيث يدّعي كلٌّ منهما بنسبة هذه الوجبة الشهيّة الشهيرة اليوم عالمياً وانتمائها إليه . 

بقبّعته الأبّهة غارسيا مركيز مع العاهل الاسباني السّابق خوان كارلوس

 

وتفادياً لإثارة النّعرات،والحزازات،والمُواجهات، والمشاكسات بين ” الإخوة الأشقّاء” (وتذكّرنا هذه الصيغة اللغوية برواية شهيرة كرمازوفيّة للكاتب الرّوسي الكبير تيودور ديستوفسكي  من جانبها الإيجابي بطبيعة الحال) ! أقول لن أتحدث عن “قصعة الكُسْكُس” أو ” طبق الكُسْكسي” الذي أصبحت له شهرة عالمية اليوم كذلك، ولا عن التنافس القائم حوله : هل هو من أصل مغربي ، أم أمازيغي، أم  من أصل جزائري، أم من أصلٍ تونسي ،أم ليبي، أم أندلسي، أم إفريقي ..؟، يحدث هذا ، وهذه البُلدان الشقيقة والصديقة جميعها متلاصقة ومتعانقة منذ الأزلْ، ولم تزلْ تاريخيّاً، وجغرافيّاً، ولغويّاً ،وثقافيّاً، وحضاريّاً ، و من باب الهويّة، والدم، والمصير، والمحبّة كذلك !! ولله فى خلقه شؤونُ ..! بقي أن أقول : ( شَابُو chapeau) للصّديق “صدّيق” الذي أثار بألمعيّةٍ فائقة هذا الموضوع  المُثير والطريف .

*****

*كاتب،وباحث، ومترجم، من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

Comments: 2

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. تاريخ قبعة جعلنا نغوص في النهر الثقافي الكبير لامريكا الجنوبية يذكرنا بأحد أهرام الأدب الأمريكي جارسيا ماركيز و ستظل تلك القبعة أيقونة الإبداع ورمز من معالمها.
    وحكاية الكاتب المبدع الخطابي أضفت جمالا إضافيا لجمال تلك القبعة والتي ستبحث عنها أينما وجدت.

  2. أخي الأعزّ الأستاذ عبد اللطيف خطّابي شكراً على إطرائك الجميل،وعلى كرم أخلاقك العالية ، وعلى نبل مقاصدك الشريفة ، ودمت للأخوّة المُثلىَ مِشعلاً ومَناراً، وللخلْق الرّفيع نبراساً ساطعاً ،ومنهلاً مدراراً .. ماذا عساني أن أقول أمام هذا الدّفق الآسر،والتداعي السّاحر..؟ لَعَمْرِي إنّ تعليقك البليغ يوحي أنّنا نغترف من معينٍ واحد ،ونبعٍ رقراق،ومنهلٍ مدرار لايعلو ثبجه القَذَى، ولا يغمرُ صفحته الأسَن، والله إنّك لتذكّرني بذاك الشّادي أو الحادي البعيد زماناً ومكاناً، المتباهي بفصاحة لسانه، وسلاسة بيانه، القائل : (ولسْتُ بنحْويٍّ يلوكُ لسانُه / ولكنْ سليقيٌّ أقولُ فأعْرِبُ )..كلماتك داناتٌ متصلة الحلقات، موثوقة العُرى والصّلات، شكراً لهذا الكائن الحيّ الذي نسمّيه اللغة والذي نتذاكر، ونتحاور، ونتشاور به ، إنّه مخلوق يدبّ على قدميْن ، كما يقول الإنجليزيان أوغدن OGDAN وريتشاردز RICHARDS. فى كتابيْهما The meaning of meaning ” فى معنى المعني” هذا الكائن الذي يضرب جذورَه فى القدم ، ويتغذّى من مختلف الروافد ، والنوافذ، والمنافذ، والثقافات، والحضارات، والعلوم ، والآداب،والشّعر، والفنون، والحِكَم ، والأقوال ، والتاريخ، والحكايات، والأساطير.. أجل، ماذا عساني أقول أخي بعد هذه الكلمات الرقيقة الحلوة والمهذّبة التي تلامس شغاف القلوب، وتستقرّ في سويدائها لأنّها كلمات صادرة عن قلب صادق نقيّ عفيف شفيف، هذه المشاعر التي فهت بها فى حقّي عزّ وجودها ،وشحّت فى أيّامنا الكئيبة إنها تعود بنا الزّمانَ القهقرىَ، وتذكّرنا بأناس وأبطال أخلصوا الودَّ ،وصانوا العهدَ وتمسكوا بأهداب خلاّن أحراركذلك مثلك، وطالما أنّ موضوع المقال يدور عن أمريكا اللاتينية التي عشتُ في مختلف بلدانها سنوات طويلة ونشرت خمسة كتب عنها حتى اليوم، دعني أحكي لك طرفة عن مدى إعتزاز االرّجال بالأصدقاء الأوفياء ، فاقول: إنّ البطل الأسطوري “بانشو فييّا ” كان إسمه الحقيقي هو ” دوراتيو أرانغو” وبانشو كان إسم أعزّ أصدقائه ، وعندما قتل الحرس المدني صديقه الذي كان ينتمي إلى شلّة ” أرانغو” إتّخذ لنفسه إسم صديقه أيّ الإسم الذي هوىَ، وأصبح إسمُه ” بانشو فييّا ” لكي لا يموت إسمُ صديقه أبداً ، إنّه نوع من مصارعة الموت ضدّ النسيان الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة ، وهكذا ظلّ إسمُ صديقه حيّاً في شخصه تردّده أمريكا اللاتينية حتى اليوم، أسبغ الله تعالى عليك من خيراته واسعَ النّعم والآلاء .