​فرح أنطون رائد الصحافة المُلتزِمة

Views: 1052

د. كرم الحلو

صبيحة الثالث من تمّوز (يوليو) من العام 1922، رحلَ فرح أنطون وهو في الثامنة والأربعين من عمره بعد معاناة قاسية من المَرض في معدته وقلبه. فقد أدّى به العمل المُضني والإجهاد، ورفْضه الانصياع إلى أوامر الأطبّاء بالانقطاع عن العمل، إلى أن ساءت صحّته، فأُصيب بالإغماء فوق مَكتبه وأُعيد من جريدة “الأهالي” في القاهرة محمولاً إلى البيت .

وإذ كان فرح أنطون مفكِّراً إشكاليّاً، فقد أَثار بين مُعاصريه رؤى مُتناقِضة إلى فكره وطروحه الإيديولوجيّة والاجتماعيّة والدينيّة. ففي رأي مارون عبّود هو الذي عرّف سواد الشرق الأدنى ببوذا وكنفوشيوس، وأَطلعهم على شرائع حمورابي وفلسفة تولستوي. وهو أوّل من نشرَ تعاليم روسّو وتَرْجَمَ مكسيم غوركي، وأوّل من اكتشف تعاليم ماركس وعرَّف العرب بإرنست رينان وتَرْجَمَ كِتابه “يسوع” يَوم كان اسم رينان يُفزِع المُتديّنين في الغرب، ويُرادِف الكفر والإلحاد في الشرق. وفي رأي سلامة موسى، فإنّ فرح أنطون هو الفاتِح لدِراسة النهضة الأوروبيّة الحديثة، وناشِر الأفكار الديمقراطيّة الحرّة، ومن أوائل مَن عرّفوا بالمَذاهب السياسيّة والاجتماعيّة الحديثة في المَشرق العربي. أمّا محمود عبّاس العقّاد، فقد اعتبره “طليعة مبكّرة من طلائع النهضة، وسيعرف المُستقبل من عمله ما لم يَعرفه الحاضر”.

على الضدّ من هؤلاء وسواهم، تعرَّض أنطون للافتراء والاتّهام بالإلحاد والتطرُّف من الذين أساؤوا فهْم توجّهاته العلمانيّة والعقلانيّة والنهضويّة التي قادته إلى الاهتمام بابن رشد ورينان، ودعوته إلى فصل السياسي عن الدّين التي أَغضبت المُتديّنين المُسلمين والمسيحيّين على السواء، حتّى أنّ لويس شيخو ذهبَ إلى أنّ أنطون “تجاوزَ كلّ حدود الفطنة في آرائه المُتطرّفة المُجرَّدة عن روح الدّين دون مُراعاةٍ لصحّته، حتّى غلبت قواه فمات ضحيّة غلوائه”. ولم يغفر له شيخو ترجمة كِتاب رينان “تاريخ المسيح” فاتّهمه بالماسونيّة والإلحاد المُفضي إلى فساد العِباد وخَراب البلاد.

فمَن هو هذا الرائد؟ ما هي إنجازاته النهضويّة؟ ما مَوقعه في الفكر العربيّ الحديث؟ وما هي آراؤه السياسيّة والاجتماعيّة؟

وُلد فرح أنطون في العام 1874 في طرابلس الشامّ من أسرة أرثوذكسيّة. دَرَسَ في مدرسة كفتين في الكورة، وسافرَ إلى مصر في العام 1897، وأَصدر في الإسكندريّة مجلّة “الجامعة” في أيّار (مايو) 1899، ثمّ هاجرَ إلى نيويورك في العام 1906 واستأنفَ إصدارها هناك؛ لكنّه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة وأعاد إصدارها من جديد، إلّا أنّه لم يُصدِر منها سوى عددَين فقط.

توقَّف عن الكتابة في خلال الحرب العالَميّة الأولى، وتحوَّل إلى العمل في المسرح؛ ثمّ دخل في حزب الوفد بعد ثورة 1919 في مصر وعاد إلى العمل في الصحافة .

فرح أنطون العثماني

تجلّت مبادىء أنطون السياسيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة في مَقالاته في “الجامعة” وفي كِتابه “ابن رشد” والكُتب اللّاحِقة وأخصّها “الدّين والعِلم والمال” و”الوحش، الوحش، الوحش” و”أورشليم الجديدة”، حيث تُشكِّل مسائل الدّين والعقل والعِلم والعلمانيّة والاشتراكيّة الموضوعات الرئيسة لتلك المؤلّفات. أمّا المبدأ المركزي الذي يؤطِّر فكر أنطون السياسي والاجتماعي، فهو إقامة مُجتمع وطني في الشرق، وبخاصّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة، تندمج فيه جميع الأديان والطوائف، ويجد فيه كلٌّ مَكانه الاجتماعي والسياسي الذي تتساوى فيه الحقوق والواجبات، لتشكيل مجتمع موحَّد قادر على ردّ غائلة الاستعمار الغربي. من هنا إطلاق أنطون على مجلّته في عددها الأوّل اسم “الجامعة العثمانيّة”، ثمّ ما لبث أن تخلّى عن كلمة “العثمانيّة” في ما بعد. وقد أَوضح مَقاصده في مقدّمة العدد الأوّل بقوله “أهمّ أغراض هذه المجلّة خدمة الوطن العثماني والمصري والجامعة العثمانيّة بنَوعٍ مخصوص فتبحث في ما يَجمع لا في ما يُفرِّق”، مُعرباً عن ثقته بـ”شعور العثمانيّين في كلّ مكان بوجوب تآلفهم كالبنيان المرصوص”، ولهذا فالدولة العثمانيّة إذا ما أرادت البقاء وُجب عليها أن تكون دولة قوميّة علمانيّة.

فرح أنطون العلمانيّ

على هذه الخلفيّة الفكريّة بنى فرح أنطون فكره العلماني، فإزاء العلمانيّة العلمويّة المُلحِدة التي قال بها شبلي الشميّل، تصدّى أنطون للاستبداد الديني والطائفي بالحدّة ذاتها التي تصدّى بها الشميّل من دون أن يصطدم بالدّين ومسلّماته الإيمانيّة الميتافيزيقيّة، بل إنّه على العكس أعلن تمسّكه بهذه المسلّمات ودافعَ عنها ولم يُشكِّك بأيّ واحدة منها، وواجَه بالإدانة والاستنكار اتّهامه بالكفر والإلحاد، مُشدِّداً على أنّ مَقصده إنّما هو تنقية العقائد الدينيّة من الأوهام والخرافات، وانتزاعها من أيدي رجال دينٍ مُستبدّين يدّعون احتكار الحقيقة لكنّهم لا يبغون سوى أهوائهم ومَصالحهم بالسيطرة على قلوب الناس وضمائرهم. يقول فرح أنطون: “معاذ الله أن نروم هدْم الدّين كما تفترون علينا، وإنّما نروم هدْم الأوهام والخزعبلات في الدّين”. ولا يجد أنطون تناقُضاً بين العِلم والإيمان، فالعِلم والدّين غرضهما واحد: تحسين حال الإنسانيّة وترقية شؤون البشر.

في هذا السياق أعاد أنطون توظيف الرشديّة للحدّ من هَيْمَنة الديني على السياسي، ومُواجَهة شِعار جامعة إسلاميّة كانت ترفعه الحركة الإصلاحيّة السلفيّة. ففي العدد الثامن من مجلّته “الجامعة” لخَّص فرح فلسفة ابن رشد ومبادئه العقلانيّة لتأكيد التواصل بين العقل والدّين وإثبات وحدة التوجُّه بينهما أيّام كان التقليد والتعصّب يطغيان على التفكير العقلاني.

إلّا أنّ لكلٍّ من العِلم والإيمان قواعد عمله وطُرق إثبات حقائقه في رأي أنطون، الأمر الذي يَستدعي الفصل بين السلطتَين الدينيّة والزمنيّة، فغرضُ الدّين الاشتراع للآخرة وغرضُ الحكومات الاشتراع لهذا العالَم. وهذا يتطلّب احترام الأديان وعدم تقييد المُعتقدات الإيمانيّة، تأكيداً للمساواة المُطلَقة بين أبناء الأمّة بقطع النّظر عن مُعتقداتهم ليكونوا أمّة واحدة، وصَوناً للوطن من النّزاع والشّقاق المُفضيَيْن إلى الضعف والانحطاط.

فرح أنطون الاشتراكيّ

عرض روّاد نهضتنا العربيّة الحديثة لمسألة التفاوُت الاجتماعي من منظورٍ إنسانيّ اقتصرَ على الرأفة بالفقراء والإحسان إليهم من دون الذهاب إلى الأُسس السياسيّة والاقتصاديّة للفقر والظلم الاجتماعي، لأنّ الشروط الموضوعيّة للأفكار الاشتراكيّة لم تكُن قد تكوّنت بعد في البلدان العربيّة، ولذلك ظلّ ماركس غريباً عن أفكار النهضويّين العرب وتطلّعاتهم حتّى مطلع القرن العشرين. أمّا فرح أنطون، فقد تجاوزَ ذلك الطرح النهضوي الإنسانوي ليُقارب الماركسيّة في طرْحه للمسألة الاجتماعيّة وحقوق الفقراء، فهو يتحدّث عن “وقف المَصانع والمَزارع والمَعامل للأمّة وقفاً لا يجوز بَيعه ولا شراؤه لأنّه للجمهور”، ولأنّها من مَرافق الأمّة ومَنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، وهي ملك للجميع، يعمل فيها أفراد الأمّة، ويتقاضون إجرتهم كلٌّ بقدر حاجته وكفاءته.

وذهب أنطون في تأكيد حقوق العمّال في الثروة إلى حدّ طرْح مبدأ “القيمة الزائدة” الماركسيّ في كِتابه “الدّين والعِلم والمال”، للدلالة على مَصدر الثروة ودَور العمّال في تراكُمها وحقّهم في الانتفاع منها. إلّا أنّه، على عكس ماركس، رفضَ الوسيلة الثوريّة الدمويّة في تحقيق العدالة الاجتماعيّة، لأنّها تؤدّي إلى دمار المجتمع. ولذلك لا بدّ من عقْدٍ اجتماعي بين الرعيّة والحكومة يعيش بموجَبه الأغنياء والفقراء في إخاء ومساواة وحريّة. بهذه الصيغة يريد أنطون حلّ المسألة الاجتماعيّة الاقتصاديّة عن طريق الاشتراكيّة، لكنّها ليست اشتراكيّة كارل ماركس، بل اشتراكيّة يُمكن وصفها بـ”الاشتراكيّة المعقولة لا المتطرّفة”.

من هذا المنظور الاشتراكي الحالِم بالعدل والإخاء والمُساواة والحريّة، أدان فرح أنطون تمدُّن أميركا ومآل الإنسان الأميركي في ظلّ الجشع الرأسمالي. فقد كان يأمل أن يُعايِن في أميركا مُجتمعاً أكثر إنسانيّة وعدلاً وحريّة من مُجتمعات الشرق الاستبداديّة، فإذا به يُعلن دهشته وخَيبته إزاء مُعاناة الشعب الأميركي وعبوديّته لأصحاب الأموال. يقول أنطون: “تَركْنا الشعوب في الشرق خرافاً يُجَزّ صوفها ويُستدرّ لبنها ويَستبِدّ بها حاكِمُها وغنيّها والرئيس الروحي فيها، فوجدنا الشعب في أميركا تحت نير عبوديّة لأصحاب الأموال والرؤساء تختلف عن عبوديّة الشعب الشرقي، ولكنّ النتيجة واحدة، وهي أنين الشعب تحت عبئه الثقيل”.

بعد ذاك الجهاد المضني كلّه من أجل وحدة الشرق والعرب، ومن أجل تقدُّم المُجتمعات الشرقيّة والعربيّة وارتقائها، رحلَ فرح أنطون سقيماً فقيراً كئيباً، فلم يَجنِ من الصحافة سوى التعب والشقاء، وقد عبَّر عن ذلك بقوله: “لقد ضحّينا في سبيل الجامعة بكلّ شيء … إنّ صناعتنا شقيّة في بلادنا ولغتنا… فلَو أَنفقنا من المال والوقت والتعب ما لو أنفقنا نصفه في أيّ عمل لكان عاد علينا بألوف الأموال”. ولعلّ في ما قالته الأديبة ميّ زيادة في فرح أنطون خير تعبير عن مُعاناته: “أثرٌ عميق كئيب كان ينطق من صوته ونظره وسكونه، حتّى ومن ابتسامه، حتّى ومن تحمّسه – وهو اقتناعه الصميم بأنّه لن يَتدوْزَن ومُحيطه، وأنّ مُحيطه لن يَتدَوْزن وإيّاه”.

***

(*) كاتِب ومؤرِّخ من لبنان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *