لوحة وتعليق

Views: 47

سمر الخوري

جمع مؤنث غير سالم

جمع مؤنث غير سالم عنوان ارتأيته مناسبا للوحة الفنانة الصديقة جانيت جرجس. وقد خطر لي بعد كتابة هذا العنوان اختيار اسم آخر للوحة هو مجدليات.

مهما كان عنوان اللوحة فهي رمز للحضور والغياب في آن. حضور امرأة تتسامق في جذع شجرة مقلمة الأفنان. وغياب الكرامة الإنسانية.كأني بالفنانة جرجس استوحت لوحتها من تمثال فينوس الذي نحته فنان من الحقبةالهيلينية يُدعى الكساندروس في حوالي عام مائة قبل الميلاد.

ولكن لوحة جرجس شرقية السمات، لا عري فيها، ولا مظاهر تخدش الحياء. بيد أن الاغتصاب تحول من اغتصاب جسدي، كما في التمثال، إلى اغتصاب معنوي، فكري، حضاري أفقد المرأة أنوثتها، وكرامتها الإنسانية، وجعلها شجرة ، أو إناء للنسل وحسب. امرأة بلا وجه أو هوية، تنمو سجينة واقعها الشرقي، في الأرض اليباب، على حد وصف الشاعر الأميركي ت. س. إليوت. أرض بلا حياة كأنها أرض الأموات.وتبدو في خلفية الصورة خيالات مقابر. وقد تكون الصورة تجسيدا للآية القرآنية،

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.(سورة الروم، آية ١٩)

وهذا ما يقودنا إلى تأويل مختلف لرمزية الصورة، بحيث تصبح رمزا للانبعاث. ولكنه انبعاث شبيه بانبعاث لعازر، في شعر خليل حاوي. انبعاث سطحي مكبل بالعجز والعدمية.

أمر آخر يمكن أن ترتبط به اللوحة ، ويسمها باسمه، هو ما أطلق عليه اسم كمال النقص. فالرقم ٧، عدد النساء في اللوحة. وهو عدد الكمال. ولكنه كمال ملطخ بالنقص الذي أعلنه اللقاء بين اللونين الأبيض والأسود. وهما لونا الحداد، والموت. فتصبح الصورة مكتملة في موتها، وفي غياب معالم الحياة فيها. فتصبح الأشجار التي ماتت واقفة أشبه بأكفان تحتضن الأجساد المتشحة بالسواد. وعلى الرغم من غياب الملامح إلا أن جوًّا من الكآبة والحزن حتى الموت يغلف الصور، ويضفي عليها طابع السوداوية والاستسلام.

أهذا هو واقع المرأة الشرقية؟ أهذا هو الفجر الجديد، في واقع الإنسان العربي المعاصر؟ أتكون الأشجار رمزا للذكورة المتوحشة التي تبتلع المرأة وتسجنها في تابوت التقاليد، في مجتمع بطريركي ميت؟

أسئلة برسم الفنانة جانيت جرجس الثائرة على المجتمعين الشرقي والغربي في آن. فهي قد رفضت واقع التهتك الغربي، فجعلت فينوساتها محتشمات. وصوّرت المرأة أسيرة قيود مجتمعها في سجنه المرأة، واغتصابها فكريا، وجعلها عاجزة عن التعبير عن مأساتها الإنسانية. (https://mva.la)

من جهة مقابلة، يمكن للناظر إلى اللوحة، من زاوية بيئية صرفة. فتصبح الأشجار جمع مؤنث غير سالم، أو بالأحرى غير عاقل. إنها مجزرة بحق الطبيعة الأم. وتظهر المجزرة في الخلفية السفلى للوحة، حين تبدو صور الأشجار المقطوعة من الجذور. ولم يبق الا جزء قليل من الثروة الحرجية المهددة بالانقراض. وربط صورة الشجرة بالمرأة الأم دلالة واضحة على ما يسميه علم النفس الاجتماعي :الزنا بالمحارم. فالطبيعة أمّنا ونحن نغتصبها قطعا وحرقا بحيث غدت بلا وجه، أو حياة. وما تبقّى منها في طريق الانقراض، لأنه فقد الأرضية الصالحة للحياة . فالتربة أصبحت شبيهة بمستنقع الشرق الجديد الذي وصفه الشاعر خليل حاوي، في ديوانه نهر الرماد. ولكنه مستنقع لا جسر فيه ينقل الطبيعة والإنسان الشرقي إلى شرقه الجديد .

تحذير مزدوجتطلقه الفنانة جانيت جرجس، في لوحتها هذه: الطبيعة والمرأة صنوان. وأي اعتداء على أحدهما هو اعتداء على الحياة وعلى الوطن الذي لا حياة له من دون أرضه والإنسان.فحذار اغتصابهما باسم الحرية المزيّفة، أو التقاليد المتحجرة، في نفوس جاهلة مشبعة بالأنانيّة البلهاء.

سيدتي الفنانة لوحتك بِصَمْتهاقالت ما لم تقله آلاف الخطب والمقالات والقصائد: كفى اغتصابا للطبيعة / المرأة/ الوطن. ومن له أذنان سامعتان فليسمع، ويفهم، ويتعظ، قبل فوات الأوان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *