الِبشَارَةُ بَيْنَ العَطَاءِ والتَّلَقِّي

Views: 349

الأب كميل مبارك

حينَ دَعَتْنَا الكَنيسَةُ إلى حَمْلِ لِوَاءِ الِبشَارَةِ بالطُّرُقِ الجَديدَةِ والأَسَاليبِ الَّتي تَتَمَاشَى وذِهْنِيَّةَ التَّلَقِّي في هذا العَصْرِ الَّذي يَشْعُرُ المَرْءُ فيه بأَنَّه أَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ جَديدٍ في كُلِّ سَاعَةٍ تَمُرُّ، تَرَاءَى في خَيَالِي المَلَكُ جِبْرَائِيل يُبَشِّرُ مَرْيَمَ العَذْراء بالحَبَلِ الإلَهِيِّ قائِلاً: “السَّلامُ عَلَيْكِ يَا مَرْيَم”، مُعْتَمِدًا، وهو مَلاكُ الله والنَّاطِقُ بِصَوْتِه، أُسلُوبَ النَّاسِ في إلْقَاءِ التَّحِيَّة، هذا الأُسْلُوبُ الَّذي يَضَعُ السَّلامَ في مُقدِّمَةِ الكَلام دَلِيلاً على طِيبِ اللِّقَاءِ، وعلى مَا يُضْمِرُهُ القَلْبُ مِنْ حُبٍّ وصَفَاءٍ، ومَا يَتَضَمَنُّهُ الكَلامُ اللَّاحِقُ مِنْ صَفْوٍ وهَنَاء، ويُبْعِدُ عَنْ ذِهْن السَّامِعِ كُلَّ عَنَاء، ويَحْمِلُ إلَيْهِ مَا يُزيلُ مِنْ مَشَاعِرِه الخَوْفَ والقَلَق، وكأَنَّ الكلامَ عَهْدُ وَفَاءٍ يُوقِظُ العَقْلَ مُنبِّهًا إيَّاهُ إلى وَعْدٍ طالَ انْتِظَارُ تَحْقيقِهِ وإلى رَجَاءٍ يَحْمِلُه مُنْذُ كانَ الِإنْسَان، وفي سَلام البِشَارَةِ وَهَجٌ لِمَا قيلَ يَوْمَ كانَ مَا كان، ولمَّا أَضافَ الله على وَعيدِهِ وأحْكامِه، وعَيْنُه على وَجْهِ مَرْيَم الأُولَى “من نَسْلِكِ سَوْفَ يَأْتِي المُخَلِّص”، وأَكْمَلَ كَلامَهُ لمَرْيَم الجَديدَة: “قوَّةُ الله تَحُلُّ عَلَيْكِ وهَا أَنْتِ تَحْبَلينَ بابْنِهِ ليَفْتَدِيَ بَنِي آدَم”.

البِشَارَةُ هي هي مِنْكِ سَيَأْتِي المُخَلِّصُ يَا حَوَّاءُ، وأَنْتِ تَلِدينَ ابْنَ الله يَا مَرْيَمُ، ولَكِ أَوْكَلْتُ مَهَمَّةَ إيصَالِ الخَبَرِ السَّارِّ أَيَّتُها الكَنيسَةُ.

المَضْمُونُ هو عَيْنُه، سَوْفَ أُخَلِّصُ بِحُبِّي الإلَهِيِّ أَبْنَاءَ آدَمَ مِنَ المَوْتِ المُحَتَّم في الهَلاكِ الأَبَدِيِّ، أَمَّا الأَسَاليبُ الَّتي تَحْمِلُ هذه البِشَارَةَ فَتُرِكَتْ لإرَادَةِ النَّاسِ كَيْ يرَوْا ويَحْكُمُوا ويَتَصَرَّفوا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضيهِ حالاتُ النَّاسِ ووَاقِعُ مَعْرِفَتِهِم وإدْرَاكِهِم وتَقَبُّلِهِم لِحَدَثٍ هو أَوْسَعُ مِنَ المَدَارِكِ وأَعْمَقُ مِنَ المَعْرِفَة، وإذَا لَمْ نَعُدْ كالأَطْفَال، فلن نَسْتَطيعَ قُبُولَ هذه الحَقيقَةِ السَّاطِعَةِ في بَالِ الله مُنْذُ الأَزَل.

لأَجْلِ كُلِّ هذَا دَعَتِ الكَنيسَةُ إلى اعْتِمَادِ طُرُقٍ جَديدَةٍ تَتَلاءَمُ والوَاقِعَ الجَديدَ بكُلِّ مَا فيه مِنْ دلائِلِ تَطَوُّرٍ وعَلامَاتِ تَخَلُّف، ومَا فيه مِنْ مَخَاطِرَ تُهَدِّدُ مَسيرَةَ النَّاسِ نَحْوَ غَايَتِهِم القُصْوى، ومَا فيه مِنْ أَسَاليبِ تَضْليلٍ تُحَاوِلُ أَنْ تَزْرَعَ الزُّؤَانَ بَيْنَ حَبَّاتِ القَمْح،ِ أَفْكَارًا هَدَّامَةً ومُغْرَيَاتٍ مَادِّيَّةً، وأَفْخَاخًا حِسِّيَّةٍ تَعْتَمِدُ المَالَ والعُنْفَ والجِنْسَ والِإعْلام، وتَنْحَرِفُ بالفَنِّ نَحْوَ الابْتِذَال، وبِمُبْتَكَرَاتِ العَقْلِ الَّتي كانَتْ أَصْلاً لِخَيْرِ النَّاس، نَحْوَ الشَّرِّ مُقْتَعِدًا الشَّوَارِعَ ومُفْتَرِشًا الأَزِقَّة، وبالعِلْم وهُوَ غِذَاءُ المَعْرِفَة، نَحْوَ اخْتِلالِ الطَّبْعِ والطَّبيعَةِ واخْتِرَاقِ الانْتِظام العَام.

أَمَامَ كُلِّ هذه المَخَاطِرِ، أَدْرَكَتِ الكَنيسَةُ أَنَّ أَصَالَةَ القَديم، لا بُدَّ أن تُقَدَّمَ للنَّاس بِحُلَّة جَديدَة. وأنَّ أوَّلَ أمرٍ يَجِبُ أن يَعِيَهُ الِإنْسَانُ هو حَقيقَةُ إنْسَانِيَّتِهِ الَّتي مَا خُلِقَتْ إلّاَ لِتَعُودَ إلى خَالِقِهَا حَيْثُ نَبْلُغُ كُلُّنا مِلْءَ قَامَةِ المَسيح، وأَنَّ الطَّريقَ إلى هذا الكَمَالِ إنَّمَا هو الإيمَانُ بالوَعْدِ الأَوَّلِ والبِشَارَةِ الَّتي تَمَّتْ على لِسَانِ جِبْرَائِيلَ في مِلْءِ الزَّمَن. وفي قَلْبِ الإيمَانِ تَصْديقٌ رَاسِخٌ بأَنَّ الفِدَاءَ لِجَميعِ النَّاسِ، وأَنَّ الفَرَحَ وَعْدٌ لِكُلِّ مَنْ يَطْلُبُ الفَرَح،َ وبَقِيَ علَى الِإنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الطَّريقَ الحَقَّ المُؤَدِّيَ إلى الحَيَاة.

هذا مَا عَلَيْنا إيصَالُه بالطُّرُقِ الجَديدَة، بَقِيَ أَنْ أَقولَ: كمَاعلى المُبَشِّرِ أَنْ يَعْتَمِدَ مَا هو ضَرورِيٌّ للتَّبْشيرِ، كذلك على المُتَلَقِّي أَنْ يَبْتَكِرَ أَسَاليبَ جَديدَةً تَسْمَحُ لَهُ حُسْنَ الالْتِقَاطِ مَهْمَا تَعَدَّدَتِ المَوْجَاتُ وتَحَرَّكَتِ التَّمَوُّجَات، وأَفْضَلُ طَريقَةٍ قَديمَةٍ جَديدَةٍ هي الِإصْغَاء، فإذا مَا قالَ مار بولسُ كَيْف يؤْمِنونَ إنْ لَمْ يُبَشَّروا، أَفَلا يَحُقُّ لَنَا الاسْتِدْرَاكَ فنَقُول: كَيْفَ يُبَشَّرون إنْ لَمْ يُصْغُوا؟

(كانون الأول  دِيسمبر 2013)

***

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” (2018).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *