فَقْرٌ يُدَمِّر وفَقْرٌ يُحرِّر

Views: 367

الأب كميل مبارك

سؤالٌ بعد سؤال يراوِدُ ذِهْني حينَ أَقرأُ في الكتاب المُقدَّس الآياتِ التي تذْكرُ الفقرَ والعَوَز. الفقراءُ معكم في كلِّ حين، كلمةٌ قالها السيِّد المسيح حينَ اقترحَ أَحدُ الرُّسُل أَنْ يُباعَ عِطْرٌ كانَ يُسْكبُ على رِجْلي يسوع، ويوزَّع ثمنُه على الفقراء. وهُنا السُّؤال: لماذا الفقراء معنا في كلِّ حين؟ ولماذا قال السيِّدُ نفسُهُ: طوبى للفقراء؟ وهل يجوزُ لنا أَنْ نقولَ لفقراء اليوم: طوبى لكم وهنيئًا لكم. ولماذا حَكَم الدَّيَّانُ حُكمَه بناءً على، كنتُ فقيرًا جائعًا عَطِشًا عرْيانًا فاهتمَمْتُم بي؟ ولماذا أخيرًا، أَوْصى المسيحُ منْ شاءَ أَنْ يَتبعَهُ على طريق الكمال، بأَنْ يَبيعَ مُقْتناه ويوزِّعَه على المساكين ويتبعَ يسوع، وكأَنَّ الفقرَ من مُستلزماتِ الرِّسالة. لماذا يريدُ أَتباعَه فقراء ثمَّ يُوصي بالاهتمام بالفقراء والمُعْوَزين؟

هذا غَيْضٌ من فَيْض من التساؤُلاتِ المبنيَّة على ما ورد في الكتابِ المقدَّس حول موضوع الفقرِ والعَوَز، ومَنْ يشاءُ التوقُّفَ على المفاهيمِ المتعدِّدَة للفقر يرى، من جُمْلةِ ما يراه، التَّخلّي عن أُمورِ الدُّنْيا، وعدَم الغَرَق بالماديَّات وإهْمال الروحانيَّات، والاتِّكال على المُقْتَنى والمُجْتنى والاستغناءِ عن الله وأَحْيانًا عن النَّاس. وإنْ شِئْنا أَنْ نضعَ إطارًا لكلِّ هذه المعاني المرتبطة بالفقر المادِّيِّ والرُّوحيِّ نقول: هناك فقر يسْحقُ الكائِنَ البشريَّ ويذلَّه ويجعلَه يعيشُ التعاسَةَ المُغمَّسة بالانْكسار. وهناكَ الفقرُ الذي يحرِّرُ النَّفْسَ من كلِّ أَثْقال هذا العالَم لتنطلِقَ راضِيَةً نحو غايتِها القُصْوى. 

الفقرُ السَّاحقُ هو ذاك العَوَزُ المَرْفوض، وهو لقساوته يجعل الإنسان بلا مأْوى ولا مَلْبس ولا مأْكَل ولا استشفاء ويحرمه من لحظات الرَّفاهِيَة، ولو قصيرة، تلبيةً لِما تشتهيه النَّفس على طريق الفرح. لقد رأَى الكتابُ المقدَّس هذا النَّوْعَ من الفقر عقابًا من الله الذي بيدِه الخير، يحرمه مَنْ يشاءُ ويَهَبُه مَنْ يشاء. إنَّه كالأَلم والمَوْت، وأَدْنى مراتبه أَكْل الخبز بعَرَقِ الجَبين.

أَمَّا إنْ بحَثْنا عن سببِ الفقر، فقد نجدُه في خزائِنِ الأَثْرياءِ وخزناتِهم، في الجَشَعِ والطَّمَع وتَوْسيع الأَهْراء، في الرَّغبة بامتلاكِ الأرض وما عليها، فمَنْ يظنُّ نفسَه ملكًا على ما يملك ينسى الشجرة المحرَّمة على آدم، لكي يشعرَ دَوْمًا أنَّه ليس المالك بل هو الوكيل. وهذا النّسيان يؤدّي إلى سوء العدالة في توزيع خيرات الأرض، وهذا ما ذكره القديس امبروسيوس أسقف ميلانو حين قال للأغنياء: ليس من مالِكم تعطون الفقراء والمحتاجين إنما عطاؤكم هو بمثابة إرجاع ما هو حقّ لهم، إنه نصيبهم من خيرات الأرض.

أمَّا الوجه الإيجابي للفقر فلأنَّه أَحد سُبُل التحرُّر من أَجل الانطلاق نحو ما هو أَفضل من المال وأَبْقى. لأَجلِ ذلك كان يسوع يطلب أَنْ يبيعَ مَنْ يريدُ أَنْ يتبعَه، كلَّ ما يملكُ ويعطيه للمساكين ويأْتي إلى يسوع حُرًّا من كلِّ قُيود المادَّة والأَرض. هذا الوجه من الفقر يجعلنا نعرف ربَّما، أَنَّ الغنيَّ ليس ذاك الظَّالم الجشِع الذي يريدُ كلَّ شيء لنفسِهِ وحَسْب، بل هو مَنْ يرى أَمانه وسلامه وسلامته وضمانته وسعادته في مالِه وبالتالي يستغني عنْ مَنْ هو سبب السعادة الحقيقي. هذا الغنيُّ يضعُ ثقتَه بالمال فيرغب في أَنْ يزدادَ كلَّ يوم وينْسى أَنَّ قيمتَه في حاله وليست في مالِه. وحين يعرف الفقير أَنَّ هذه الخيرات عابرة وتتلاشى كالهَباء، يبحثُ عن الثَّابتِ الذي لا يتغيَّر عن ذاك الذي لا يَغشُّ ولا يُغَشُّ، عن الباقي إلى الأبد، فيميلَ إليه ويَسْعى إلى دُخولِ ملكوتِه.

سُؤالٌ أَخير نسمعُه من كثيرين مُؤْمنين وأَحيانًا عقلانيّين: هل تَبْقى الكنيسةُ التي تعيشُ الغِنى والرَّفاهية وتزداد مقتنياتُها وأَوْقافها، هل تبْقى واضعةً ثقتَها بالثَّابت الباقي، أم أَنَّها تنجذب إلى الأرضيَّات وتترك السَّماويَّات إلى الفقراء بالروح؟ ويأْتي الجوابُ أنَّ خَيْرات الكنيسة إنَّما هي لتُسْهمَ في إنْماء الإنسان، كي لا يأْتيَ لعازار الفقير ويجلس بالقوَّة على مائِدةِ ذلك الغني.  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *