عودة: لحكومة إنقاذ ممن لم يتلوثوا بآفات السياسة

Views: 369

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، قداسا في كاتدرائية القديس جاورجيوس، لمناسبة ذكرى ختانة يسوع المسيح بالجسد وتذكار القديس باسيليوس الكبير ورأس السنة.

وبعد الإنجيل المقدس ألقى عودة عظة قال فيها: “إخوتي الأحبة، بداية، أسأل الرب إلهنا المتجسد، الذي تنازل واقتبل ختانة بشرية، من أجل خلاصنا، أن يكلل هذا العام الجديد بنعمه الإلهية الغزيرة، وأن يحفظ بلدنا الحبيب، وجميع إخوتنا في هذا الوطن المجروح، ويعيد السلام والفرح والطمأنينة والمحبة إلى جميع القلوب”.

وأضاف: “سمعنا في الرسالة التي تليت على مسامعنا منذ قليل: “أنتم مملوءون فيه وهو رأس كل رئاسة وسلطان، وفيه ختنتم ختانا ليس من عمل الأيدي، بل بخلع جسم خطايا البشرية عنكم بختان المسيح” (كولوسي 2: 10-11). إذا عدنا قليلا إلى بداية النص الذي يسبق ما سمعناه اليوم، نقرأ التالي: “فاسلكوا في الرب يسوع المسيح كما قبلتموه، متأصلين راسخين فيه، ثابتين في الإيمان الذي تعلمتموه، شاكرين كل الشكر. وانتبهوا لئلا يسلب أحد عقولكم بالكلام الفلسفي والغرور الباطل القائم على تقاليد البشر وقوى الكون الأولية، لا على المسيح” (كولوسي 2: 6-8). نفهم مما قرأناه أن الذي يقبل المسيح ربا وسيدا، عليه أن يسلك بحسب وصاياه، مهما بدت هذه الوصايا صعبة التطبيق. فعندما نضعف أمام الصعوبة، تأتينا ذئاب في ثياب حملان، تغرينا بأن نعيش حياتنا ونفرح ونقوم بما يحلو لنا، بحجة أن الله يقيدنا بطلباته، وهذا ما حذر منه الرسول بولس مخاطبا أهل كولوسي، بألا يتبعوا المتفلسفين والذين يأتون إلى الناس بهدف إقناعهم بالعدول عن اتباع الرب، وباللحاق بتقليد البشر وأسياد هذا العالم، بدلا من الوصايا الإلهية. لذلك، أراد الرسول بولس أن يفهم الكولوسيين، ويفهمنا أن الختان البشري الذي يطلبه ناموس العهد القديم لم يعد هو الأساس، لأن المسيح، بمجيئه إلى الأرض، وخضوعه للناموس البشري، من الميلاد إلى الختان فالصلب والقبر والموت، نزع عن البشر رداء الناموس الذي يقيدهم، ويظهر الله قاسيا في نظرهم، وجعل لهم ناموسا جديدا، هو ناموس المحبة والحرية، لذلك قال الرسول إن البشر، بمجيء الرب، ختنوا ختانا غير بشري، بل المسيح لما ختن خلع جسم خطايا البشرية عنهم، أي أنقذهم من عبودية الخطيئة، وألبسهم سربال عدم الفساد”.

وتابع: “لقد قال الرب يسوع إنه لم يأت لكي ينقض الناموس، بل ليكمله، لذا يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: “لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني (4: 4-5). إذا، عندما كان المسيح يتمم الناموس البشري، كان في كل مرة يكمل الفعل الناموسي بإعطائه معنى جديدا، لكي نخرج من قيود العبودية للحرف القاتل، ونصبح أبناء لله، أحرارا، نشع بالمحبة والسلام”.

وأردف: “اليوم، يعيد العالم لبدء عام جديد، أما الكنيسة المقدسة فتعيد لبدء عامها الجديد في الأول من شهر أيلول. فما الجديد الذي نتمنى أن يحمله هذا العام؟ لقد قلنا الأسبوع الماضي، إن الرب سيصنع كل شيء جديدا (رؤيا 21: 5)، وناديناه: “تعال أيها الرب يسوع” (22: 20). فهل سنكون مستعدين لمجيئه؟ عندما أتم المسيح عمله على الأرض صعد إلى السماء، ووعدنا بإرسال المعزي لنا، الأمر الذي حصل في العنصرة بحلول الروح القدس. هذا الروح نأخذه نحن في المعمودية، فتصبح أجسادنا هياكل له حسب قول الرسول بولس: أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟ إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله، لأن هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو (1كورنثوس 3: 16-17). وقد أوصانا الرب نفسه قائلا: من جدف على الروح القدس ليست له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية (مرقس 3: 29)”.

وقال عودة: “علينا هذا العام، وكل يوم وسنة، أن نبقى آنية نظيفة للروح القدس، لأننا إذا اتسخنا، سوف نجلب العار ليس لأنفسنا، بل لخالقنا الذي يسكن روحه فينا، تاليا نصبح أدوات للتجديف على الروح القدس. كيف نحافظ على أنفسنا؟ لنسمع ما قاله الرسول بولس: أسلكوا في الروح ولا تشبعوا شهوة الجسد، فما يشتهيه الجسد يناقض الروح، وما يشتهيه الروح يناقض الجسد. كل منهما يقاوم الآخر لئلا تعملوا ما تريدون. فإذا كان الروح يقودكم، فما أنتم في حكم الشريعة. وأما أعمال الجسد فهي ظاهرة: الزنى والدعارة والفجور وعبادة الأوثان والسحر والعداوة والشقاق والغيرة والغضب والدس والخصام والتحزب والحسد والسكر والعربدة وما أشبه، إن الذين يعملون هذه الأعمال لا يرثون ملكوت الله. أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف والصلاح والأمانة والوداعة والعفاف، فإذا كنا نحيا بالروح، فعلينا أن نسلك طريق الروح، فلا نتكبر ولا يتحدى ولا يحسد بعضنا بعضا (غلاطية 5: 16-26)”.

وأضاف: “ما تقدم، هو خريطة طريق أبناء الله. إلا أن المشكلة الكبيرة التي تواجه أبناء الله هي أنهم يعيشون في عالم أصبح جل اهتمامه العيش من أجل اللذة والفرح المؤقتين، بحجة أن الإنسان لا يعيش مرتين. فبدل التواضع نختار الكبرياء، فنحقر الآخر لكي نظهر أننا الأفهم والأقوى، ظانين أننا بذلك نحرز المراتب الأعلى في هذا العالم. بدل المحافظة على طهارة أجسادنا ونقاوة قلوبنا، نختار اللحاق بالجسد صائرين عبيدا له ولملذاته، فنغرق في الوساخة. بدل الثقة بالله، ننتظر المنجمين لكي نعرف ما ستؤول إليه حياتنا. عوض التسالم وبث روح المحبة والإلفة والأخوة، نتخاصم ونلفق التهم ونسعى إلى تحطيم الآخر. ننسى دائما قول الرب: لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم (يوحنا 15: 18-19)، ونختار أن يحبنا العالم، فنقوم بما يمليه علينا أهل هذا العالم، بدلا من اتباع وصايا الله النابعة من المحبة غير المتناهية. هذا العالم يطلب منا أمورا لا تصب في مصلحتنا، مهما بدت أنها كذلك، لكن الخلاص الحقيقي هو عند المخلص الذي قبل أن يصير واحدا من هذا العالم، ليرينا كيف يتعامل الناس مع من لا يقبل السير بما يريدونه، لذلك أردف الرب يسوع قائلا: أذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم (15: 20)”.

وتابع عودة: “بمجيء المسيح لبسنا إنسانا جديدا، أصبحنا على صورة آدم الجديد، وهذا الإنسان حر لأنه ابن لله، على عكس الحرفيين الذين يسيرون الناموس لصالحهم، ويطبقونه بحذافيره متى كان لصالح الآخرين. لم يسلم الرب يسوع من انتقادات الناموسيين عندما شفى رجلا يوم سبت، فواجههم بقوله:عملا واحدا عملت فتتعجبون جميعا. لهذا أعطاكم موسى الختان، ليس أنه من موسى، بل من الآباء. ففي السبت تختنون الإنسان. فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت، لئلا ينقض ناموس موسى، أفتسخطون علي لأني شفيت إنسانا كله في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكما عادلا (يوحنا 7: 21-24).

الحكم العادل هو ما يفتقده هذا العالم. أن تحكم يعني أن تعدل، وهذا يتطلب التحلي بالعديد من الفضائل، أولها المحبة والتجرد وليس آخرها دوس الأنانية والكبرياء، والتخلي عن المصلحة. الطبقة الحاكمة يجب أن تكون نخبة المجتمع، مهمتها إدارة أمور الدولة من خلال تطبيق القوانين، واتخاذ القرارات الحكيمة، وعليها أن تكون قدوة للمواطن في القول والعمل”.

ولفت الى ان “الفساد الذي يريد الجميع مكافحته عندنا هو وليد الفلتان والفوضى وتخطي القوانين واستغلال النفوذ. القانون وحده يحمي من الفساد لأنه يخيف ويردع. طبقوا القوانين واقتصوا من كل مخالف لها، إنما طبقوها على الجميع بالعدل والإنصاف. إن فرض هيبة الدولة يكون بالإقتصاص من كل معتد على أمنها أو حدودها أو قوانينها. أما استباحة هيبة الدولة فسببه التهاون في تطبيق القوانين، وغياب المحاسبة، والاستهتار بأحكام الدستور وعدم احترامها. نحن بحاجة إلى مسؤولين يحترمون القوانين ويطبقونها، ويتمسكون بالقيم، لكي يقتدي بهم الشعب. نحن بحاجة إلى مسؤولين لا يظنون الشعب يعيش من أجلهم ويموت من أجلهم، ونحن بحاجة إلى شعب يعي أن المسؤولين هم في خدمته وليسوا سبب وجوده، فلا حاجة أن يقتتل من أجله ويموت عنهم. الشعب صاحب القضية وصاحب الحق، ولن يكون تغيير إلا بإرادتكم وبأصواتكم أيها اللبنانيون، يوم تتقاطرون كلكم، وليس جزء يسير منكم، إلى صناديق الإقتراع. أما الآن، فنأمل أن تؤلف حكومة جديدة في أسرع وقت، من أشخاص لم تلوث أيديهم أو عقولهم بآفات السياسة وأوساخها، تكون مهمتها إنقاذ ما تبقى من هذا الوطن. في هذا اليوم الأول من السنة الجديدة، نصلي من أجل أن ينقي الرب الإله قلوب جميع المسؤولين في لبنان ويلهمهم العمل الدؤوب من أجل إنقاذ وطننا. هذا الوطن أمانة أعطيت لنا من الله، وواجبنا جميعا المحافظة عليه وطنا للحرية والعدل والقيم والأخلاق، وطنا للمحبة والتسامح وقبول الآخر. فجميعنا نصبو إلى لبنان أكثر ديموقراطية وعدالة، وأكثر أخوة وتضامنا”.

وختم عودة: “الدعوة في الأخير هي إلى التجدد، فلندع الروح القدس يعمل ويجدد ما قد هدمه جشعنا. لنتمثل بملك الملوك ورب الأرباب، الذي تنازل وخضع للشريعة، حتى يعلمنا كيف تستخدم الشريعة في سبيل الخير، نحن الذين أسأنا فهم تلك الشريعة.
نسأل الله، مع النبي داود الملك قائلين: قلبا نقيا أخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في أحشائي (مزمور 50: 10). كلنا نحتاج إلى نقاوة القلب، وإلى الاستقامة، لكي تستقيم كل أعمالنا، وفوق هذا كله نحتاج إلى التواضع لأن القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله (50: 17)”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *