كل عام وأنتم بألف ثورة

Views: 545

حسن عجمي

الحضارةُ ثوراتُ عِلمٍ وفلسفةٍ وآدابٍ وفنون. العِلمُ ثورةٌ على الفوضى فبِالعِلم تنتظم الظواهر والحقائق بانتظام القوانين الطبيعية واكتشافها فتزول فوضى الظواهر وخداعها. والعِلمُ ثوراتٌ مفاهيمية أيضاً كثورة نظرية أينشتاين على نظرية نيوتن بقولها إنَّ الجاذبية انحناء الزمكان (جمع الزمان والمكان) بدلاً من أن تكون قوة على نقيض مما يقول نيوتن. مَن لا يثور يخسر الحضارة بفلسفتها وفنها وعلومها.

أما الآدابُ والفلسفاتُ والفنون فثوراتٌ على الواقع لأنَّ بها يُصوِّر الأديب أو الفيلسوف أو الفنان الأكوان الممكنة المغايرة للواقع المحسوس. وإن صَوَّرَ الواقع فهو يُصوِّر مضامينه الخفيّة فيثور على مضامين ظاهره. فلا واقعٌ بلا أكوان ٍ ممكنة لامتناهية الأعداد تُحتِّم رياضياً وجود واقع كواقعنا وعالَم كعالَمنا كما يُؤكِّد النموذج العلمي الأساس في الفيزياء المعاصرة. لذا لا واقعٌ بلا آداب وفلسفات وفنون بكونها ثورات تُصوِّر الأكوان الممكنة وتبنيها فتصوغ الواقع بأشكال ومضامين علمية جديدة. بذلك لا واقعٌ بلا ثورات.

الشِّعرُ ثورةٌ على النثر. والنثرُ ثورةٌ على الكلام. والكلامُ ثورةٌ على الصمت. والصمتُ ثورةُ المُتحدِّث بِمعان ٍ أعلى لا نطق لها. المعرفةُ ثورةٌ على الجهل. والمحبة ثورةٌ على الكراهية. والسلامُ ثورةٌ على الحرب. والحياةُ ثورةٌ على الموت. والوجودُ ثورةٌ على العدم. بذلك الكون بما فيه من حياة ومحبة ومعرفة ليس سوى سلسلة ثورات لامتناهية ولذا الإنسانُ ثوراتٌ متتالية. هكذا الثورة ماهية كلّ كينونة واقعية أو ممكنة أو مستحيلة. حياةٌ بلا ثورة شبهُ حياة. وإنسانٌ بلا ثورة شبهُ إنسان.

الممكنُ ثورةٌ على الواقع. والواقعُ ثورةٌ على المستحيل. لا واقعٌ بلا ممكن ٍ ومستحيل تماماً كما لا واقعٌ بلا خيال ٍ ممكن ٍ ومستحيل يصوغ الواقعَ بممكناته ومستحيلاته معاً. فالواقع مجموع كلّ الممكنات الممكنة والمستحيلة. الواقع الممكن هو أنَّ الجُسيم كالإلكترون جُسيم وليس موجة نقيض الجُسيم (كما يقول المنطق الواقعي والممكن) بينما الواقع المستحيل هو أنَّ الجُسيم جُسيم وموجة نقيض الجُسيم في آن (كما تقول نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية). وبذلك يتكوّن الواقع من واقعيْن هُما واقع ممكن وواقع مستحيل. ولذا يُشكِّل الواقع والممكن والمستحيل حقلاً وجودياً واحداً لا يتجزأ ألا وهو حقل الثورات المتتالية من واقع ٍ إلى ممكن ٍ إلى مستحيل ومن مستحيلٍ إلى ممكن ٍ ومن ثمَّ إلى واقع. الكون جدلية ثورات لامتناهية.  

يوجدُ الوجودُ ويستحيلُ ضمن السلسلة اللامتناهية من الممكنات كلاتناهي ممكنات أن لا يوجد الوجود ولاتناهي ممكنات أن يوجد في سلسلة الممكنات اللامتناهية ذاتها. لذا من غير المستغرب أن تستنتج الفيزياء المعاصرة ما يُعبِّر عنه الفيزيائي “آلن غوث” قائلاً “الوجود موجود لأنه عدم”. هكذا الوجودُ المعدوم ثورةٌ على عدمية الوجود والعدمُ الموجود ثورةُ كلِّ وجود. فالكونُ يولدُ تلقائياً من العدم لأنَّ العدمَ مجموعُ كلّ الطاقات المتعارضة التي تختزل بعضها البعض ما يسمح باحتمال عدم اختزال طاقة معيّنة (من جراء التقلّب الكمي) التي منها ينشأ الكونُ ويكون كما تقول الفيزياء. بذلك حين يثور العدم على نفسه من أجل تحقيق ذاته العُليا يولدُ الكونُ ويَسُود. لذا الكونُ ثورةُ العدمِ الأسمى.

أما الزمنُ فثورةُ العقل وبنيته فبِالزمن ينتظم الواقع والفكر بينما العقلُ ثورةٌ على سجون الواقع بما يُنتِج من أكوان ٍ ممكنة ٍ مفارقة للوقائع. العقلُ ثورةُ إنتاج ِ الوقائع الممكنة والمستحيلة كإنتاج الزمن وإضافته إلى الكون الواقعي فيمسي الزمنُ وهماً بكونه مجرّد بنية عقلية ويصبحُ حقيقة ً واقعية ً أيضاً بكونه مضافاً إلى الواقع. بذلك يكذب الزمن ويصدق فالوهم أصدق من الحقيقة والحقيقة أصدق من ذاتها لأنَّ كلّ حقيقة تحتوي على حقائق مختلفة ومتنوّعة كأن يكون الإلكترون جُسيماً ونقيض الجُسيم في آن. لذا كلُّ حقيقةٍ ثورةٌ على ذاتها.

يؤكِّد معظم الفيزيائيين على أنَّ الزمن وهم ويتفق معهم القديس أوغسطين. فالقوانين الفيزيائية الأعلى في مجرّديتها خالية من مفهوم الزمن ولذلك يستنتج معظم الفيزيائيين بأنَّ مفهوم الزمن لا يدلّ على حقيقة واقعية. وعَبَّرَ القديس أوغسطين عن ذلك فلسفياً بقوله إنَّ الزمن تركيب عقلي وبذلك الزمن وهم…كلّ عام وأنتم بألف وهم!! ومن المواقف الفلسفية لأوغسطين قوله إنَّ كلّ موجودات الكون وكينوناته ليست سوى ظلال أفكار الله…كل سنة وأنتم بألف ظِل!! لكن إن كان الزمنُ وهماً وكانتِ الكائناتُ ظلالاً فحينها لا حياةٌ حقيقية وصادقة بلا ثورة على الزمن الكاذب والظلال الكاذبة…كل عام وأنتم بألف ثورة!!

الثورةُ الحقيقية ثورةٌ على الثنائيات الكاذبة كالثورة العلمية على ثنائية العدم والوجود والثورة السياسية على ثنائية الحاكم والمحكوم والثورة الدينية على ثنائية الحلال والحرام وثنائية الكافر والمؤمن والثورة الاجتماعية على ثنائية السويّ والشواذ. الثنائياتُ مصادرُ التعصبِ والتمييزِ والعنصرية. فلا حرية ولا مساواة بِثنائياتٍ كاذبة..كل عام وأنتم بِثورةٍ صادقة!!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *