ماغي بو غصن، غصنٌ خصيب في “للموت” 

Views: 117

الدكتور جورج شبلي

 

إذا كانتِ الفنونُ مقاماتٍ تتواردُ فيها المَناظرُ، والأَوصاف، في حياةٍ وانسجام، لِما فيها من أَرَجٍ وشُعاع، فإنّ فنَّ التّمثيلِ سُلالِيٌّ كنسيجِ الزّمن، وهو، لِذلك، وعلى عكسِ ما يراه كُثُرٌ، صَعبٌ ومُنهِك، حتى على المتمَرِّسينَ الحُذّاقِ، والبارِعينَ في نَسجِ الإقتباسِ حقيقةً يفرضونَها على المُشاهِد. 

ماغي بو غصن لم تكنْ مَوضِعاً للنّزاعِ في خَواصِها الفنيّة، لأنها عندما انحازَت الى التّمثيلِ، لم تكنْ فيه من أربابِ الغاياتِ والمغانم، فما سَعَت الى مقامِ فخرٍ، ولا حَرَصَت على عُلُوِّ ذِكر. لكنّ ثقتَها بموهبتِها أَضرمَت ميلَها الى الشّاشةِ بغيرِ صورة، فقطعَت عرضَ أرضِ التّمثيل، وأَلقَت بها عصا المُسافرِ، فاشتدَّ التّمثيلُ بها وَلَعاً، لِما كان لها من رقّةِ الحسّ، ودقّةِ الذَّوق، وجَمالِ الطَّلة، وهيئاتِ الموهبة.

لعلَّ التّمثيلَ، كَفَنٍّ، كان، في كيانِ ماغي بو غصن، فطريّاً سليماً وليس تركيبةً هندسيّةً، من هنا، تَفَتَّقَ عنها متعافِياً، يُعبِّرُ، من دونِ دَجَلٍ، عن كوامنِ نفسِها، لأنه تعاطى مع البُعدِ الواقعيِّ فيها، بعيداً عن مناوراتِ الصَّنَعةِ التي تُسرِفُ في زخرفةِ الصورةِ، وفي تزيينِ ملاحةٍ غيرِ متوفِّرة. من هنا، لم تكنْ ماغي، في مسيرتِها، نَكِرَةً لا تُتَعَرَّف، وقد حقَّقت نقلةً نوعيّةً ناجحةً من الكوميديا الى الدّراما، بمجهودٍ مُلفِتٍ، لأنها وَعَت أنّ الممثِّلَ لا يعملُ كالكيميائيِّ لإِصابةِ أهدافٍ علميّةٍ، فعناصرُ الطبيعةِ كيانُها واحدٌ لا يتبدّل، أمّا أذواقُ النّاس فمُتبايِنةٌ مُتَحَوِّلة، والموهوبُ، وحدَه، مثلَها، يجعلُ وعاءَ التّمثيلِ لا يعلقُ به إلّا الإعجابُ، ومن الغالبيّة. 

لقد امتَطَت ماغي، وبشكلٍ مُتَمَكِّنٍ وغيرِ مألوفٍ لوافدةٍ جديدة، صهوةَ النّجاح، وكأنّ بينهما نَسَباً قديماً، أو قصّةَ اشتياق. وكان لها، في ظهورِها المتكَرِّر، وخاصةً في مسلسلها ” للموت “، نكهةٌ مُختلِفة، فهي لم تَسِرْ على سُنَّةِ التراثِيّةِ بحذافيرِها، ولا هي طلَّقَتها بالثّلاثة، بل اشتقَّت لها فرعاً بُنيَتُهُ إشتراكيّةٌ تمدُّ يداً الى التّقليدِ الرّاقي، ويداً أخرى الى الحداثةِ المُذهِلة. وهذا، بالذات، ما ثَبَّتَ حضورَها بين أندادٍ لها، ولا غرابةَ في ذلك،  لأنّها اجتهدَت، فأوجدَت لها موقعاً بين الأَهَمّين، نلمحُ ظلَّه في نادي الكِبار.

لقد تجاوزَت ماغي المَواطنَ الشّائكةَ في المسلسلاتِ المتعاقبةِ التي فَيَّضَت فيها إمكانيّاتِها، ووصلَت الى مدارِ المُؤَثِّرين في فنِّ التّمثيل، من دونِ كتابِ توصِيَة، فحرارةُ الإستقبالِ التي قوبِلَت بها عندما قَرعَت بابَ سَلاطينِ التّمثيل، فيها الجواب، كلُّ الجواب. وعندما جمعَتها بهم مَشاهدُ المسلسلات، وضمَّها معهم محفلُها، ازدحَمَت حولها المُقَل، واستُعجِلَ المَقال، فالوافدةُ ليسَت مُتَدَرِّجة. لكنّ لقاءَ ماغي بالمُجَلّين، وضعَها في موقع المواجهة، فاقتحمَت، ولم تشحَّ بخصائصِها، ولم تستكثِرْ أن يكونَ للتّمثيلِ معها هوىً، ولم تتقشَّفْ في حُبِّهِ، لذلك، ما رَمَت باسمِهِ، مرّةً، إلّا صائبةً.

ماغي بو غصن لم تَأتي من القحط حتى تطلبَ الإحسان، ولم تدخلْ كعبةَ التّمثيلِ مُستَتِرةً، فكَلَفُها به، وثِقَلُ حبِّها إيّاه، جعلاها تَبرزُ بشكلٍ لم يُعطِ فرصةً لبورجوازِيّي هذا الفنّ لأن يرمقوها بفوقيّةٍ طبقيّة، أو باستعلاءٍ، وكأنّها من جمهورِ الشّعب، تسعى لمكانةٍ رفيعةٍ ليسَت لها. كلّا، فماغي كانت ذلك الوجهَ الوضّاحَ الذي أَذِنَ له التّمثيلُ مَتنَه، في فَرعَي الكوميديا والدّراما، فحلَّت في رِياضِهِما جميلةَ الصِّفة، جريئةَ الحضور، متماسكةَ الحركة، تجعلُ كلَّ خرزةٍ الى ما يليقُ بها، وهذا، بالذّات، ما مَنَعَ المِبضَعَ النَّقديَّ الحادَّ من عرضِ رأسِها أمامَ المُتَشَدِّدين في الحِرفةِ، وكأنّه تمثالٌ من حجر. 

ماغي بو غصن بارعةٌ في كَونِها تَحوكُ للحالةِ وطأتَها في النّفوس، وتأثيرَها في الأذواق، وزِيَّها في القلوب، لذا، فالحالةُ التي تقتبسُها، ترشَحُ عن حارِّ مزاجِها، وكأنّها الحَبلُ الذي لم يَخُنهُ الوَتَد. ونحن نتلقّفُ الحالةَ إِذ تخرجُ من الشّاشةِ، وتَعبرُ إلينا، وتفرضُ نفسَها على قلوبِنا، وأحاسيسِنا، بدونِ استئذان، فنتجاوبُ تلقائيّاً، وكأنّ الممثّلةَ تنقلُ إلينا الحالةَ بالعَدوى، وهذا أَبدَعُ ما يُمكنُ في فنِّ التّمثيل، ويُشكّلُ مِعياراً حازِماً في تصنيفِ  البراعةِ والموهبة.  

ماغي بو غصن، أو “كاراميل” الشّاشة، صفحةٌ كُتِبَت في غايةٍ من الجودة، جعلَتنا ننتظرُ افتراشَها الشّاشة، في كلِّ ظهور، وكأنّنا ننتظرُ عندَ المساءِ صباحاً. فهذه المُتصافيةُ مع التّمثيل، أدهشَتنا بمخبَّآتِ صناديقِها، من إحاطةٍ بمعدنِ هذا الفنّ، ورَجحانٍ للإجادةِ فيه، ودقّةٍ في إمتاعِ الأذواق، وتِقنيّةٍ في رعايةِ المَشاهد، كلُّ ذلك صُبَّ في احتياطٍ مهذَّبٍ غَزا سرائرَ القلوب، فأَعفى العيونَ من غَفوةِ الرَّتابة. من هنا، كان لماغي طابعٌ أصيلٌ اهتمَّ ببيانِ الإجادةِ في طقوسِ التّمثيل، فما كانت فصاحتُها فيه صَمتاً. ولعلَّ نوازعَ ” جَمال سنان ” الى لغةِ البراعةِ، والنّجاح، تناسبَت مع موهبةِ ماغي بو غصن، ليشكِّلا قَدَراً جديداً للتّمثيل، ساهمَ في تَطويرِ حِلَّتِه، وفي تَطريزِه بالفرائد. كيف لا، و” جَمال ” من أشياخِ المُنتِجين غيرِ النُسّاخ، وعِشقُ الشّاشةِ في رسالةِ ماغي أَغلَب.

 

لقد قيل : في ميدانِ الفنونِ مُتَّسَعٌ للجميع، لكنّ ما انتقلَ منه الى ميدانِ البقاءِ قليل. واستناداً، فمن المُستَبعَدِ أن يقتربَ الإندثارُ من موهبةِ ماغي بو غصن، فهي أثبتَت أنّها أَصلٌ وليسَت طارئة.              

 
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *