ما أرعب شارل مالك

Views: 88

انطوان نجم

 كنتُ برفقة الشيخ بشير الجميّل يوم الْتقيتُ، لأوّل مرّة، بالدكتور شارل مالك. لا أذكر التاريخ. ولكنّ الاجتماع حصل في زمن المقاومة اللبنانيّة، وفي أعنف ظروفها. وبعد ذلك صِرنا، ثلاثتنا، على تواصلٍ دائم.

 بشير وأنا لم نكن نُخفي شيئًا عن الدكتور مالك من الأمور التي ينبغي أن يكون مطّلعًا عليها: لا معلومةً، ولا تحرّكًا، ولا اتّصالًا جرى أو سيجري مع أيٍّ كان ممّن له عَلاقة بالموضوع. واللقاءات كانت تتمّ نهارًا أو ليلًا. نحلّل. نتناقش. نستنتج. ونتوافق على ما ينبغي القيام به.

 غير قليلة كانت لقاءاتنا الثلاثيّة. ولكنّ اجتماعاتنا وحدنا -الدكتور مالك وأنا- كانت وفيرة. ولطالما دامت ساعات طويلة، خصوصًا في الليالي، في مكتبه في الطابق العلوي من منزله، نفكّر معًا ونكتب.

 أغتنم المناسبة، اليوم، لأكشف عن حدثَين صرّح لي بهما الدكتور مالك، وقد هزّاني في الصميم.

 الأوّل يتعلّق بمعاناة مثيرة نابعة من قلبه. وذلك أنّه، في ليلةٍ من ليالي العمل، عرّى الدكتور مالك نفسه أمامي، وباح لي بأقوى ما يجيش في نفسه من قلق.

 قال لي: “هل تعلم، يا انطوان، ما الذي يرعبني أكثر من أيّ أمر آخر؟”.

 إستغربتُ سؤاله. وبعد لحظات تفكير أجبته بالنّفي. قال: “أكثر ما يُرعبني هو أن يقول لي ربّي يوم الدينونة: يا شارل، أنت قصّرتَ بحقّ المسيحيّة في الشرق. لماذا لم تبذل في سبيلها كلّ ما كان عليك أن تؤدّيه لها؟ أكاد، يا انطوان، أنهار خوفًا من تلك اللحظة الرهيبة. لا شيء يقلقني ويوشك أن يحطّمني أكثر من هذا الهمّ. لا شيء. لا شيء”.

 أدهشني الموقف وأحرجني. وغَلب عليّ الخرسُ لفترة. ماذا أقول؟

 من يسمعْ هذا الكلام ولم يقرأ لشارل مالك، ولم يعرف تأثيره الروحيّ المسيحيّ القويّ على هذا أو ذاك ممّن تخرّج على يديه في الجامعة، يعتقدْ أنّ هذا الرجل ما فكّر قط بمسيحيّته، ولم يعشها، ولم يعطها قلبه وفكره وحياته وروحه وكلّ ما ملَك من قدرة. وهو الذي أعلن على الملإ، بتاريخ 29/12/1949 وحبرُ حروف “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان” تكاد لم تنشف بعد، قائلًا: “لنفترض أنّنا توصّلنا إلى صياغة أجمل وثيقة أو أجمل ميثاق حول حقوق الإنسان. فهل تظنّون أنّ هذا سوف يكون له أيّ أثر على التاريخ، أو أنّ كرامة الإنسان الـمُهانة سوف تُستعاد مالم يبارك ربّ التاريخ تلك الوثيقة وذلك الميثاق؟… كلّ شيء سوف يتوقّف على نسيانكم أو عدم نسيانكم “جهالة” صليب المسيح”.(1)

 من يرَ هذا الرجل ترتجف روحُه سلفًا من لحظة الدينونة، ويعرف أن شارل مالك دعا إلى “الحقيقة” (“إنّ الحقيقة هي رائدي الأوّل”) وإلى اكتشافها والانحناء أمامها بكلّ تواضع، وإلى رفض أيّ تنازليّة خبيثة منافقة قد تـمُسُّها من قريبٍ أو من بعيد، وإلى الوقوف في وجه العابثين بها والمزوّرين، يعجبْ من شدّة حساسيّة هذا الإنسان الفائقة ووعيه مسؤولياته. ولطالما سمعته يحذّر: “لا يستطيع الإنسان أن يخطئ ضدّ الحقيقة إلى ما لا نهاية بدون عقاب”.

 أيُعقل، بعد هذا كلّه أن يتعرّض الدكتور مالك إلى مثل هذا الرعب؟ وماذا كان على سواه، ممّن نعرف وتعرفون، أن يكون موقفُه؟

 أمّا الحدث الثاني فيُصيب السامع بالدُوار، إذ يرفعُ الغِطاء عن مستقبلٍ قد يستحيل على غير شارل مالك أن يراه بهذا الوضوح. فهو من العجب العُجاب اهتمامًا، وهو نُبوءةٌ غير متوَقَّعَة.

 كان ذلك بعد منتصف ليلٍ في زمن القصف الجنونيّ في العام 1981 في حرب زحلة، وقد نِلنا مثله في قضاء المتن. قام الدكتور مالك فجأة من مَقعده ووجّه كلامه إليّ بصوت جَهْوَريّ قائلًا: “هل تعلم، يا انطوان، أنّكم، أنتم الموارنة، لستم “أوادم”؟ قلت: خير إن شاء الله؟

 قال: “لستم أوادم. لقد أجرمتم وجدّفتم على الروح القدس. ولكن لا تخافوا. إنّ الله لن يترككم. سيقاصصكم ويقسو عليكم وسيمسح الأرض بكم. ولكن لا تخافوا. زعماؤكم أضعف من أن يخلّصوكم. الله ينقذكم. فكما أنّ الربّ ضرب شعبه المختار ليربّيه ويعيده إلى صوابه مع محافظته عليه وحمايته له من الفناء، ليحقّق بواسطته وعدَه، -كما تعلم أنتَ من اطّلاعك على الكتاب المقدّس-.كذلك يحافظ هو عليكم ويحميكم. ولكنّه يربّيكم أيضًا ويجعلكم تدفعون ثمن خطاياكم.”

 نظرت إليه لحظات. ثمّ قلت، مع شيءٍ من الابتسامة: “إذا تصرّف الربّ مع شعبه على هذا النحو وأبقاه، فلكي يأتي المسيح المنتظر. أمّا نحن فأيّ مسيح سيخرج منّا؟” فأجاب بصوت صارخ: “لا تسخر! لا تسخر! أنت تعرف التاريخ. ألم تلاحظ أنّ الطوائف المسيحيّة المشرقيّة كلَّها تتقلّص عددًا وانتشارًا جغرافيًّا باستثناء الموارنة؟ ألم تلاحظ أنّ الموارنة وحدهم نموا عددًا، وتمدّدوا جغرافيًّا على الرغم ممّا جرى لهم من ويلات، خصوصًا في عهد المماليك، حتى إنّهم أسّسوا دولة لبنان الكبير، وأصبحوا فيها من المسؤولين الأول؟”

 قلت: بلى، وماذا يعني ذلك؟

 قال حرفيًّا: “الله عاوزكم”. وأضاف: “إنّ الله يريد أن يحقّق، بواسطتكم، أمرًا هامًّا جدًّا جدًّا جدًّا. وأنتم وحدكم قادرون على تحقيقه.”

 قلتُ (وقد أخذني العجب والاضطراب): ما هو هذا الأمر الهام جدًّا جدًّا جدًّا؟ قال: “لستُ أدري. لم أُعطَ موهبة الاطّلاع على نيّات الرب. ولكنّ المهمّة مصيريّة.”

 هنا، دخلت معه في جدال. وأفهمته إمّا أنّه يتسلّى بي ويسخر منّي، وإمّا أنّ رؤيا أو إلهامًا ما دفعه الى اعتقاد ما يعتقد. ولـمّا أصرّ على عدم الإجابة، قلت له: “أنا باقٍ هنا، في هذه الغرفة إلى ما شاء الله، ولن أبرحَها قبل أن تنقل إليّ ما جال في خاطرك في هذا الشأن.”

 لمّا رآني حازمًا في موقفي، ومصرًّا عليه، قال: “سأقوله لك. ولكن هل تعدني بأنّك لا تفشي السرّ؟” وعدتُه. ولكن بعد وفاته، اعتبر أنّ ما قال لي ينبغي أن يُعلم ويُعلن.

 قال: “الله عاوزكم. إنّ الله يريد أن يُدخل اليهودَ في الدين المسيحيّ بواسطة الموارنة. هناك ملاءمة لغويّة ومشرقيّة بينهم بين اليهود. لذلك سيصير اليهود مسيحيّين من طريق الموارنة”.

 سكتُّ مشدوهًا. ومرّت لحظات شَعَرتُ في خلالها أنّني غير قادر على التفكير. ولم أستطع التعليق على ما قاله. إنّه أمر يتخطّاني إلى ما لا نهاية. وأحسست بعدم قدرتي على الاحتمال. وبعد فترة صمت استأذنتُه بالعودة إلى منزلي.

 في الطريق تذكّرت أنّ الدكتور مالك جاء على ذكر شيء من هذه النُبوءة في إحدى رائعاته المنشورة في مجلّة “الفصول اللبنانية”.

 ما إن دخلت إلى منزلي، وكان الصباح قد اقترب، راجعت العدد المعني من المجلّة. وأعدتُ قراءة المقالة المطوّلة ذات العنوان “الكثير المطلوب”.

 وإليكم بعض ما جاء فيها:(2)

 “الآرامية…لغةٌ وحضارة، جُبٌّ نهلت منه العبرانيّة والعربيّة في آن. الآراميّة خلفيّة من خلفيّات هاتين اللغتَين والحضارتَين، بينما لا العبرانيّة ولا العربيّة تشكّل خلفيّة للآراميّة بنفس المعنى. والموارنة اليوم هم الورثة الأحياء الأحرار لهذه الخلفيّة…”

 وأضاف: “من يدري، إذن، ما هي إرادة العناية بشأن تطوّر علاقتهم مع العرب واليهود؟ القربى الساميّة الأساسيّة بين الموارنة والعرب واليهود قد يكون لها، في تدبير العناية، أثر مصيريّ في تطوّر هذه المنطقة المأهولة بالشعوب الثلاثة والحضارات الثلاث. قلنا إنّ سرًّا يكمن في مجرد وجود الموارنة. وقد يكون مفتاح هذا السرّ هذا الأثر المصيريّ بالذات. لا يدري السرَّ غيرُ الله. بكلّ تأكيد لا يَدريه الموارنة في كماله بعد، ولا يَدري به أحد في لبنان أو خارج لبنان…”

 وأضاف: “…إذا وُجد الله ووُجدت معه عنايته بكلّ شيء في الوجود، بما في ذلك، وقبل كلّ شيء، بالإنسان ومصيره، أليس معقولًا، بل منتظر، أن يكون لبقاء الموارنة، بتراثهم الآراميّ العريق، مغزًى ازليّ في هذه الآونة بالذّات، في هذه البقعة بالذّات…”(ص. 30)
 وأضاف: “من يدري ماذا تعدّ العناية لهم (للموارنة) بعد من جرّاء الآلام والتجارب والمحن التي يجتازون؟ إذا تأمّلنا بضوء الإيمان، حقيقة كلّ هذه العطايا العشر(3)، وما قد تضمُر في طيّاتها من تحديّات آتية، لذُهلنا من الإمكانات التي قد يكون المستقبل حبلانًا بها، للموارنة وللبنان” ص. 32)

 وقال الدكتور مالك في تلخيصه “الكثير المطلوب” من الموارنة:

 “خامسًا- التأكّد من ان لوجود الموارنة وبقائِهم مغزى وسرًّا عجيبين، وتلمّس هذا السرّ بتطلّع وشغف.

 “سادسًا- التأكّد من أنّ هذا السرّ الدفين لا ينكفىء على لبنان فحسب، بل يتعدّاه إلى أبعدَ وأعمق منه بكثير”.

 لا بدّ من الملاحظة أنّ كلام الدكتور شارل مالك -وهو مَن هو في عالَم المسيحيّة الأرثوذكسيّة- لا يعني البتّة أنّ المسيحيّة محصورة في المارونيّة، او أنّ الموارنة “وحدهم مالكو المسيحيّة وأنّ المسيحيّة عند غيرهم ناقصة أو زائفة”(4). إنّه أمر لا ينبغي أن يداخَله أدنى رَيْب، أو يخالطَه أدنى شكّ. وإذا رأى الدكتور مالك أنّ “الموارنة هم المسؤولون عنها (عن المسيحيّة الحرّة) أمام العناية الإلهية”(5) فانطلاقًا، في رأيه، من المعطيات الموضوعيّة القائمة التي ترتّب عليهم “الكثير المطلوب منهم بالذّات”(6)  في حدود “الكثير المعطى لهم”(7).

 ثمّ ليس المجال هنا أن يُقيَّم ما ذهب اليه الدكتور مالك في نبوءته(؟). إنّه لشرف ومسؤوليّة أن يخصّ الربّ أحدًا، أيًّا كان، -وإنْ من غير جدارة- بدور في مخططّه الإلهي. (Xanax) وأصلّي بحرارة أن يُفهم ما يرمي إليه الدكتور مالك على حقيقته، فلا تأوِّله النيّات السود تأويلًا شيطانيًّا.

 وأخيرًا،

 منذ عقدٍ ونصف العقد، صدَقت لُمعة من لُمَع شارل مالك في استشرافه المستقبل.

 لقد تحقّق ارتقابه عندما جزم أنّ “زعماؤكم أضعف من أن يخلّصوكم. الله ينقذكم”. في واقع الأمر ليس زعماؤنا هم الذين أَكرهوا جيش الاحتلال السوريّ، بذِلَّةٍ ومهانة، على مغادرة كلّ لبنان في العام 2005. بشير الجميّل كان قد غادرنا منذ العام 1982. وسمير جعجع في المعتقَل منذ العام 1994. وسائر فعّاليّات المقاومة اللبنانيّة مشرشر في أربعة أقطار العالم. ومع ذلك استَرْدَّ لبنان قاعدة مهمّة جدًّا من قواعد استقلاله.

 وفي زمن غير بعيد ربّما أملٌ أن يتِمّ التحرّرُ التّام المؤمول بإعلان لبنان التعدّديّ نمودجَ استقرار وازدهار.

***

 

(1)- من خطابٍ للدكتور شارل مالك خلال حفل غداء أقامه المجلس الاتّحاديّ لكنائس المسيح في أميركا.

(2)- شارل مالك، الكثير المطلوب، مجلّة الفصول اللبنانيّة، العدد 3، صيف 1980، من الصفحة 24 إلى الصفحة 34.

(3)-  1 – أُعطوا أوّلًا هذا الجبل العظيم. 2 – أُعطيَ الموارنة، ثانيًا، شعبًا وتراثًا وقيمًا. 3 – أُعطيَ الموارنة بلدًا مجتمعه حرّ، تعدديّ، والمسيحيّة فيه حرّة. 4 – أُعطيَ الموارنة بكركي. 5 – أُعطيَ الموارنة تراثًا آراميًّا سريانيًّا عريقًا. 6 – أُعطيَ الموارنة طقسًا ليتورجيًّا عظيمًا. 7 – أُعطيَ الموارنة هذا الارتباط الوثيق برومية. 8 – أُعطيَ الموارنة تاريخًا موحّدًا، منفصلًا، قائمًا بحدّ ذاته، محدّدَ المعالم. 9 – بسبب سُريانتهم، أُعطيَ الموارنة فوق إمكان ربط أنفسهم بالعالم السريانيّ الحيّ، أن يكونوا أقرب الناس، مزاجيًّا وتراثيًّا، إلى العرب واليهود معًا. 10 – أُعطيَ الموارنة حيويّة وخصبًا في العطاء عظيمَين.

(4)- شارل مالك، الكثير المطلوب، ص. 25.

(5)- المرجع نفسه.

(6)- المرجع نفسه، ص. 24.

(7)- المرجع نفسه.

***

(*) monliban

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *