رؤى فوق تلال الضجر
د. فيصل طالب
( المدير العام السابق لوزارة الثقافة)
كيف لمقاربة الحياة أن تكون معبّرة عمّا ينضح به الوجدان، وما ينبض به الإحساس، وما تجود به المخيّلة، من غير أن تفتح بصيرتها على الأحلام، ولو شاغبتها الكوابيس، وأرّقتها الهواجس، ومن دون أن تحرّر الجمال المسجون في سراديب الإهمال والإغفال، أو المعلّق على خشبة الترقّب والانتظار، ومن دون أن يتخطّى حدود الحواس ، ويفتك بالرتابة ، ويُلحق اليوميّات الممجوجة بدورة الولادات المتكرّرة في لوحة الحياة المشتهاة. كذا يتعرّف المبدع ذاته في فرديته وغيريته، ويختبر كيف تستفزّه المعاني الغائبة، وتفتح له مدى الرؤيا، وتردّد صدى الفرادة والإبداع، وتنتشله من دُوَار الترجّح بين الإحجام والإقدام ؛ تماماً كما تتعرّف الطبيعة ذاتها برقصة الضوء المتكسّر على صفحة الماء، وانتظام الألوان القزحيّة في شتاء الخير والعطاء. وكذا ينشغل المحتفلون بأنفاس الحياة الناهدة إلى إشباع الروح، وغمر النفس بإحساس الوجود الحي، تحت سماء لا يغادرها الغمام الغرّ، ولا ينضب فيها الهواء، ولا تهجرها العصافير!
على مشارف توهّج الرؤى في دروب الخيال يطلق المبدعون سراح الزمان من عقال المكان، ويسرجون خَيل التوغّل في ضباب الصمت والظلام، ويفتحون في سدود التقليد مسارب التجديد، كي يفيض من تراكم الضجر دفقُ النبض والخفقان في بقايا الأمل والرجاء، ويستجيب للهفة البذور العطشى إلى الشمس على غير هدىٌ.
لا تنام العواطف على طريق الحرير، ولا تبحر إِلَّا فوق لجج الصعاب، ولا تلقي مرساتها إِلَّا في ميناء القلوب. أمّا الخيال فلا يرتاد غير الضفّة الأخرى للحياة، ولا يستظلّ غير شجيرات لا أسماء لها، يتخلّلها ضوء متململ يتسلّل إلى عيون الساعين للتحليق في فضاء الحريّة.
حين ينثني على زهور الإبداع نحل التماهي مع الحياة، ليقتسم معها رحيق الخير المقيم دائماً في مملكة الجمال، فإنّه يصل العطش بالماء، والجوعَ بالاكتفاء، والقرّ بالدفء، والقلق بالرضى، والحزن بالفرح.
لا يشرب بنيانُ الرمل موجَ الصخب، بل ينهدم في تلاشي الزَبَد فوق برّ الاحتواء، ولا يفتّت صخرَ الركون غير إزميل الإبتكار حتّى “يزيل ما فيه من زوائد”، ولا يقيم أودَ التجلّي غيرالمستحيل حتّى يصير ممكناً، ولا ترتاح أنهار السعي إِلَّا في بحار الإنجاز، ولا يردم الهوّة بين الصمت والصوت غير مطالع الريح التي تأتي من خلف جدران الخوف والعبث والهذيان .
