مُحاوَلَةٌ لِقراءةٍ جَمالِيَّةٍ في شِعر “إلياس أبو شَبْكَة”

Views: 2

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)

   تميَّزت النَّظرة العامَّة إلى الجمال، بكونها اعتمدت الفكر الغيبي منطلقاً لها؛ فرأت أنَّ الجمال نوعٌ من السِّحرالفاتن، القائم على عبقريَّةٍ خفيِّة المصدر. وتأتي، اليوم،النَّظرة النَّقدية المعاصرة إلى الجمال، مُنْمازَةً بكونها ترتكز على فكرٍ موضوعيًّ علميٍّ؛ فترى في الجمال جهداً إنسانيَّاً تنتظمه آليَّاتٌ نفسيَّةٌ فرديَّةٌ وجمعيَّةٌ، وأخرى تعبيريَّةٌ ناتجةٌ عن امتزاجٍ بين ثقافةٍ مجتمعيَّةٍ معيَّنةٍ، وأخرى فرديَّةٍ ذاتيِّةٍ.

الشَّاعِر إلياس أبو شبكة

 

من هنا، فإنَّ الانطلاق،في البحث عن بعضِ ما هو جماليٌّ في شِعْرِ”الياس أبو شَبْكَة”،سيكون بقراءةٍ لِشِعْرِ”أبو شبكة”، من الشِّعر عينه؛ وليس من أيِّ مصدرٍ آخر؛ ولعلَّ لعلَّ المفتاح الأبرز، والأكثر انتشاراً، في هذا المجال، يكمن في نصٍّ من ديوان “أفاعي الفردوس” لـ”أبو شبكة”. إنَّه النَّصُّ الذي تُخاطِب فيه “الأفعى”،”دليلة”؛ حاضَّةً لها على إغواءِ”شمشون”:

مَلّقيهِ بِحُسنِكِ المَأجورِ وَاِدفَعيهِ لِلاِنتِقامِ الكَبيرِ
إِنَّ في الحُسنِ يا دَليلَةَ أَفعى كَم سَمِعنا فَحيحَها في سَرير
أَسكَرَت خدعَةُ الجَمالِ هرقَلاً قَبل شَمشونَ بِالهَوى الشِرّيرِ
وَالبَصيرُ البَصيرُ يُخدَع بِالحُس نِ وَينقادُ كَالضَريرِ الضَريرِ

 

 

يُجمعُ كثير من دارسي هذا النَّصِّ على جماليَّةٍ أخَّاذة فيه، جعلت منه واحداً من أشهر نصوص “أبو شبكة”. جرت، سابقا، دراساتٌ بلاغيَّةٌ للنَّصِّ؛ ركَّزت، في معظمها، على قوَّة مباشرته للموضوع؛ كما أشارت إلى حِدَّة معاني ما فيه من ألفاظ. وثمَّة دراساتٌ أخرى اعتمدت الجانب النَّفسيِّ، محاولةً استكناهَ موقفاً للشَّاعرِ مِن المرأة بشكل عام؛ وكادت بعضُ هذه الدِّراسات تُدْخِلُ صاحبَ النَّصِّ ضمن تصنيفات مَرَضِيَّةٍ ووُسْواسِيَّةٌ. كلُّ هذا لم يتمكَّن مِن سَبْرِ عوامل الجمال في النَّصِّ؛ ولم يتمكَّن من الوصول إلى الكلام عن ما يجعل مِن النَّصِّ جميلاً بحدِّ ذاته. اهتمُّوا للُّغة ولنفسيَّة الشَّاعرِ، ولم يتمكنُّوا مِن توقُّفٍ مريحٍ عند جماليَّة النَّص. نعم ثمَّة جمالٌ، لكن هذا الجمال لا يأتي أو يتحصَّل من فراغ. ثمَّة ما يجعل من الجمال جميلا. ويبرز التَّساؤل عن كيف يمكن أنْ تتحصَّل فاعليَّةُ الجمالِ في هذا النَّصِّ؟ واقعُ الحال، ثمَّة ربطٌ جامحٌ بين متناقضاتٍ في الثَّقافة الجَمْعِيَّةِ العامَّةِ والثَّقافةِ الفرديَّةِ العاديَّةِ في هذا النَّصِّ؛ وهي متناقضاتٌ يعمل تشكُّل النَّصِّ، عبر جدليَّةٍ للوجودِ تربطُ بين معانيه وألفاظه، على إبرازها بوضوح وقوَّة وربما بعسف.

       إنَّ التَّملُّق والحُسن أمران ينهضان على النُّعومة والمُلاينة والمُسايرة والسَّعي إلى نَيْلِ القبولِ الهادئ مِن الآخر، الذي يتوجَّه بهما إليه. في حين إنَّ الإستئثار والانتقام أمران ينهضان على قسرٍ وعنفٍ وقهرٍ، لابدَّ منهما لإخضاع من يُتَوَجَّهُ بهما إليه. وهنا يبرزتلاحمُ متناقضاتٍ فيما بينها. إنَّهُ تشكُّلٌ تناقضيٌّ يُظهرهُ بيانٌ رائعٌ في أدائه. يتحوَّل التَّناقض إلى وحدةٍ متكاملةٍ في ما بينها. يتَّحدُ الحُسنُ والتَّملُّقُ مع الإستئثارِ والانتقام. تَتَشكَّلُ، من هذه الوحدة، وحدةٌ عضويَّةٌ؛ يسعى مُتلقِّيها إلى عيشِ اندماجاتِ عناصرِها. هذا السَّعيُ إلى عيشِ اندماجات العناصر المُتناقضة أساساً، يتجلَّى عبر قبولها، في تذوُّقٍ جماليٍّ خاصٍّ؛ لا يكون إلاَّ بها وحدها، من دون سواها.

       تتحقَّق للنَّصِّ جماليته الخاصَّة به؛ يَحْصَلُ النَّصُّ على تذوُّقه الجماليِّ مِن المُسْتَقْبِل. يعيشُ النَّصُّ، في ذائقةِ المُسْتَقْبِل، وجودَ قوَّة فاعلة بإيجاب. وتتأكَّد عبقريَّة التَّشكُّل الفنيِّ للنَّصِّ وتترسَّخ ضمن فاعليَّات الثقافة الشِّعريَّة للمرحلة.

نصٌّ آخر لـ”أبو شيكة”:

أَسمَعيني لحنَ الرَدى أَسمِعيني فَحَياتي عَلى شفارِ المنونِ
وَاِذرُفي دَمعَةً عَليَّ فَبعدال موتِ لا أَستَحلُّ أَن تَبكيني
يا سُلَيمى وَقد أَثارَ نُحولي كامِناتِ الرَدى عَلى العِشرينِ
ما تَقولين عِندَما تَنظُرين القَومَ جاءَوا إِلَيَّ كَي يَحمِلوني
وَأَنا جثَّةٌ بِدون حراك وَخيال الحِمام فَوقَ جَبيني
يا سُلَيمى أَنا أَموتُ ضحوكاً لَيسَ هذا الوجودُ عَبرَ مجونِ
إِنَّ مَن عاشَ فيهِ عمراً قَصيراً كَالَّذي عاشَ فيهِ بَعضُ قُرونِ
يا سُلَيمى وَكم أُنادي سُلَيمى فَاِسمُها بِلسمٌ لِقَلبي الحَزينِ
لَكِ عِندي وَصيَّةٌ فَاِحفَظيها هيَ بَعد المَماتِ أَن تَنسيني

       إنَّ “الاستمرار”، عن وعيٍ، أو عن غير وعيٍ، هاجسُ معظم النَّاس؛ ولعلَّ الأمر ينهضُ على غريزةٍ إنسانيَّةٍ بين النَّاس. ما مِن أحدٍ، ولو أنكر، إلاَّ ويحيى مسكوناً بهذا الهاجس. ولضمان الاستمرار بعد الموت، يسعى كثيرون إلى القيام بأعمالٍ يظنُّون فيها ما قد يُخلِّد ذكرهم. الإقرار بالموت، وهو العدم، يأتي مناقضاً لما يمكن أن يكون غريزةَ الهجسِ بالاستمرار.من هنا، يخاف النَّاس، أو معظم النَّاس، الموت. يصابون بالحزن عند حصوله أو عند إدراكهم أنهم باتوا وجها لوجه معه. المحبُّ، ههنا، يستقبل العدم بالضَّحك! إنَّ النَّص، ههنا، ينهضُ في جماليته على إقامة تشكُّل بين هذين المتناقضين المتصارعين. الاستمرار والعدم. (Valium)

تمثال الشَّاعر “إلياس أبو شَبْكَة” في ساحة بلدته “ذُوق مْكايِل” في لبنان

 

       يطلبُ المُحِبُّ مِنْ مَحبوبَتِهِ ألاَّ تَحْزَنَ على كونِهِ سيصيرُ عَدَماً. يُصِرُّ على أنْ تبكيهِ، طالما هوَ حيٌّ؛ فإذا ما وصلَ إلى رحابِ العَدَمِ، فإنَّهُ يُصِرُّ على أن لاتبكِهِ أبدا. الأدهي في بنايةٍ جماليَّةٍ من هذا التناقض، أنَّ المُحِبَّ يطلبُ مِن مُحبَّتِه أن تَنْساهُ؛ أي تؤكِّدُ عدمَ استمرارِيَّته.هذا التَّناقض يأتي متلاحماً عَبْرَ تشكُّلٍ عضويٍّ أخَّاذٍ؛ تتحصَّلُ منهُ جماليَّةٌ فريدةٌ تتجلَّى عَبْرَ النَّص.

       كَثيرٌ مِن هذا يتألَّقُ في شِعر “إبو شبكة”. كثيرٌ جدَّاً من هذا يطبعُ شِعره، ويُساهم في فرادةٍ شِعريَّةٍ قلَّ أنْ انتبهَ دارسون إلى وجودها في أعمالِه. ليسَ في الأمر أيُّ سحرٍ أو سِرٍّ؛ كلُّ الواقعِ أنَّ “أبوشبكة” كان يصوغُ متناقضاتٍ، لا يُمكن لها أن تتَّحدَ فيما بينها، وفاقاً للمفاهيم الثَّقافيَّةِ، الجَمعيَّة منها والفرديَّةِ؛ بيد أنَّها تجِدُ تبلوراً لها في شِعرِه بتألُّقٍ أخَّاذٍ مِن الإدهاش والرَّوعةِ المعطاءِ في توليدِ فضاءاتٍ خلاَّبةٍ مِنَ الابداعِ الجماليِّ.

       واقع الحال، لو كان من عَوْدٍ إلى شخصِ”الياس أبو شبكة”، لتبيَّن أنَّه كانَ يعيشُ مرتكِزاً، في ذاته، إلى بنيةٍ عصبيَّةٍ، مفرطة الحساسيَّة، قائمة على كثيرٍ من التَّطرُّف والقلق. ومَن يُراجع ما كتبه المؤرِّخون والدَّارسون عن شخصيَّة “أبو شبكة”، وما بيَّنوه عن شِدَّة عصبيَّته وفصَّلوا فيهِ عن دوامِ قلقه؛ قد يجدون أنَّ في الانطلاقِ مِن نصوصِ”أبو شبكة”، ما يقودُ إلى حتميَّةِ الكشفِ عن واقعِ شخصيَّته وحقيقتها. وهذا فعلٌ أشدَّ مصداقيَّة، في النَّظر النَّقديِّ الأدبيِّ، مِن الانطلاقِ من الشَّخصيَّةِ إلى ِدَرْسِ الشِّعر.  إنَّ في الانطلاق مِن الشَّخصيَّةِ، لقراءةِ النَّصِّ، نوعٌ مِن الفِكر المُسبقِ؛ الذي يُمكن أن يُهيمن، بطريقةٍ أو أخرى، على قراءةِ النَّص. في الانطلاق مِن النَّصِّ، حريَّةٌ مُطْلَقَةٌ في التَّعامل مع الأدب؛ ويمكنُ، تالياً، الإفادة منها؛ لِفَهْمِ شخصيَّة صاحبه.

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. شكرًا لهذه الدراسة القيمة دكتور وجيه فانوس، واعتمادك على فكرة التناقض في إظهار جمالية النص هي فكرة موفقة ولقد ساهمت بجديّة في جعل القارئ يتحسس اكثرَ الإبداع في شعر ابو شبكة.
    أ.د. أميرة عيسى
    رئيسة المنتدى الثقافي الأسترالي العربي