عِلم الاجتماع عند العرب وإشكالاته

Views: 1260

د. عبير أحمد

شكَّلت الهزّات السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة التي ضربت المجتمع الأوروبيّ منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر النقطة المفصليّة التي أثَّرت على التفكير الاجتماعيّ وولادة عِلم الاجتماع الحديث على يد أوغست كونت، الذي حدَّد مهمّة هذا العِلم ووظيفته بترتيب البَيت الأوروبيّ الخارج من فوضى الثورات والتغيّرات الاجتماعيّة، فكان التركيز على بناء إنسانٍ مُتوازن ومُستقرّ من خلال ضوابط وقواعد سلوكيّة معيّنة. تمّ ذلك من خلال اهتمام عُلماء الاجتماع وانشغالهم بقضايا الإنسان الغربيّ وهمومه، الأمر الذي أدّى إلى نشوء النظريّة الاجتماعيّة المُفسِّرة للواقع الاجتماعيّ المُعاش.

في المقابل، وعلى الضفّة الأخرى للأطلسي، كانت التغيّرات الاجتماعيّة الناتِجة عن الحرب الأهليّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة أهمّ السياقات المُفسِّرة لنشوء النظريّة الأميركيّة ونشوء عِلم الاجتماع الأميركي فكانت مدرسة شيكاغو.

عربيّاً، كانت نشأة عِلم الاجتماع الحديث مُغايرة عن نظيرتَيها الأوروبيّة والأميركيّة. فعلى الرّغم من أنّ البلاد العربيّة عانت ما عانته من حروبٍ واحتلالات أَنهكت الإنسان العربيّ واستنزفته، إلّا أنّه لا يُمكننا الحديث عن عِلم اجتماع عربيّ محض يهتمّ بهموم الإنسان العربيّ ويُعنى بها.

بعد مضيّ أكثر من نصف قرن على نشوء ما يُسمّى بـ “عِلم الاجتماع العربيّ”، وفي ظلّ كلّ ما جرى ويجري الآن من أحداثٍ على كامل الساحة العربيّة، وفي ظلّ ما عاناه ويُعانيه الإنسان العربيّ أيضاً من مُشكلات وتحدّيات على المستويات كافّة، ترانا أمام تساؤلات كثيرة أوّلها لماذا يقف عِلم الاجتماع العربيّ وباحثوه على هامش تلك الأحداث والتغيّرات التي مرّ ويمرّ بها المجتمع العربيّ؟ أين هو الباحث مِن مُمارسة مهمّته ووظيفته في بناء إنسانٍ عربيّ جديد؟ وأليس عِلم الاجتماع أحد العلوم المَعنيّة بتقديم تحليل وتفسير لمُجريات الأحداث في المجتمع؟

لم يستطع المُشتغلون في عِلم الاجتماع في الوطن العربيّ إلى الآن إضفاء هويّة خاصّة به، وصوْغ نظريّة عامّة للواقع الاجتماعي، نستطيع من خلالها فَهْم الأحداث الاجتماعيّة والخصوصيّة الاجتماعيّة لمُجتمعاتنا العربيّة وتفسيرها؛ إذ عرفت المُمارسات الاجتماعيّة العربيّة تيّارَين: الأوّل يدور في فلك النظريّات الغربيّة والنتاج الاجتماعي الغربي، ما أَضعف النّتاج النظري الذي يؤطِّر لمُجريات الأحداث التي يمرّ بها المجتمع العربيّ. فصُبغت مُعظم المُمارسات والأعمال الاجتماعيّة العربيّة بالتبعيّة للغرب وباستيراد النظريّات الغربيّة الجاهزة في محاولةٍ لشرح القضايا الاجتماعيّة للمُجتمع العربيّ وفق تلك النظريّات التي تمخّضت عن خصوصيّة المجتمع الغربي، مُتناسين أنّ علم الاجتماع هو وليد بيئته وظروفه التاريخيّة والاجتماعيّة. وبذلك أَسقط عُلماء الاجتماع عموماً ارتباطهم بمُجتمعهم وبقضاياه، فأغفلوا البنى الداخليّة الأساسيّة في تفسير تلك القضايا وتحليلها. وأتى المردود الاجتماعي العربيّ بعيداً عن هُموم الإنسان العربيّ. هذا ما أكّدته اعترافات الكثير من عُلماء الاجتماع العرب أمثال عزّت حجازي وعلي الكنز.

أمّا التيّار الثاني، فيرى أنّه من أجل إنتاج عِلم اجتماع عربيّ، لا بدّ من العودة إلى الإسلام. فكان لدينا على الساحة العربيّة طرحُ مشروعيّة قيام عِلم اجتماع من منظور إسلاميّ، بحجّة أنّ هذا العِلم يهدف إلى وضع نظريّة عامّة وشاملة لتفسير المجتمع، وأنّ الإسلام جاء برؤية وتصوّر شاملَين للمجتمع والحياة. فعملوا على تطوير مَفاهيم هذا العِلم من منظور إسلاميّ في سياق “عِلم اجتماع إسلاميّ”. هذا كلّه أفضى إلى انتشار المَراكز والمَعاهد التي تُعنى بالعمل الاجتماعي من منظور إسلاميّ، فكان “معهد إسلام المعرفة”، الذي تأسَّس في العام 1990 في جامعة الجزيرة في السودان، و”مركز نماء للدراسات والبحوث”، وكذلك “مركز التأصيل للدراسات والأبحاث”. فظهرت مُمارسات اجتماعيّة إسلاميّة لا تُلامس هموم الإنسان العربيّ وقضاياه. وهكذا ما بين التبعيّة والأصالة اغترب الباحث عن واقعه وابتعد عن المشكلات والقضايا التي تُلامس المواطن العربيّ، ووقَع في إشكاليّة إثبات هويّة هذا العِلم.

كان للمراكز البحثيّة العربيّة، التي تضاعفت عشرات المرّات عمّا كانت عليه في ثمانينيّات القرن، دورٌ بارزٌ في اغتراب الباحث الاجتماعي العربيّ عن واقعه، كما أنّها لم تُسهم إلّا في ما ندر في ترسيخ أبحاث ودراسات اجتماعيّة حقيقيّة. ففي ثمانينيّات القرن الماضي صدر عن “مركز دراسات الوحدة العربيّة” كِتابٌ بعنوان “نحو عِلم اجتماع عربيّ”، وبعد أكثر من عشرين عاماً، وبالتحديد في العام 2012، صدر عن المَركز نفسه كِتاب بعنوان “مستقبل العلوم الاجتماعيّة في الوطن العربيّ”، ما يدلّ على أنّ طبيعة الأبحاث والدّراسات الصادرة عن هذه المَراكز ما زالت تدور في فلك رسم مَلامح ومَعالم هذا العِلم، وبأنّ هويّته لم تحدَّد بشكلٍ واضح. كذلك لم تَخرج عناوين ومَحاور الندوات والمؤتمرات التي عُقدت وأُقيمت برعاية بعض المَراكز البحثيّة عن هذا الإطار أيضاً. ففي العام 1987 نظَّم “مركز وهران للأنثربولوجيا” مؤتمراً حول “مَلامح العلوم الاجتماعيّة في العالَم العربيّ المُعاصر”، وفي العام الذي أعقبه أقام المركز نفسه مؤتمراً حول “اتّجاهات العلوم الاجتماعيّة في الوطن العربيّ”، كما حملت ندوة القاهرة، في العام 1983، عنوان “إشكاليّة العلوم الاجتماعيّة في الوطن العربيّ” وغيرها من الندوات والمؤتمرات التي خلصت إلى أنّه يجب العمل على إنتاج عِلم اجتماع عربيّ نقديّ قادر على تحليل المُشكلات في ضوء الواقع المُعطى والمعاش وتفسيرها، وبالتالي ثمّة حاجة إلى ارتباط الباحث بقضايا مجتمعه. غير أنّ غالبيّة التوصيات بقي في إطار الطرح بعيداً عن التنفيذ.

هذه الإنتاجات والتوصيات تدلّ وتؤكّد على أنّ أزمة عِلم الاجتماع العربيّ تكمن في إهمال الباحث للجانب الديناميكي الكامن في المُشكلات، وتركيزه على الجانب الاستاتيكي. كما أنّ موضوعات كثيرة كالقيادة، والسلطة وآليّات انتقالها، والتركيب الطبقي والاجتماعي وغيرها من الموضوعات، بقيت محرّمات لا يُمكن الاقتراب منها وتناولها بالدراسة من منظورٍ نقديّ تحليليّ. فكانت من نصيب فئة من المُشتغلين في الحقل السياسي والذين يمتلكون جرأة النقد.

قلّة هُم السوسيولوجيّون الذين طاولت أبحاثهم بعض تلك القضايا والنُّظم الاجتماعيّة كنِظام الأسرة والقبيلة والمدرسة ووضع المرأة. إلّا أنّ أبحاثهم كانت جزئيّة ولم تخرج عن النمط الأكاديمي الجامعي، الذي يصبّ في خدمة سياسات حكوميّة معيّنة. يذكر عبد الباسط عبد المعطي في كِتابه “اتّجاهات نظريّة في عِلم الاجتماع” (1998) أنّ دراسات البناء الطبقي في مصر ركَّزت على الملكيّة الزراعيّة في الريف مُتجاهلةً الأبعاد الطبقيّة في المدينة، كما يُشير عبد المعطي أيضاً إلى أنّ كِتاب “المجتمع العربيّ المُعاصر” للباحث العراقي عبد الجبّار عريم، وهو بحث تحليلي، فسَّر وضعيّة المجتمع العربيّ من منظور ثقافي وربطه بالعوامل الخارجيّة الثقافيّة، مُغفِلاً بذلك القوى والبنى الاجتماعيّة الداخليّة. نذكر أيضاً أنّ أحدث الأبحاث التي تناولت وضع الطبقة الوسطى في سورية لم يَخرج عن كونه بحثاً وصفيّاً يعرض بعض النّسب والرسوم البيانيّة ومن ثمّ يقوم التعليق عليها. فقد قدَّم الباحث قراءة إحصائيّة فقط، من دون أن يتطرَّق إلى الأسباب التي أدّت إلى تقلُّص حجم تلك الطبقة على سبيل المثال.

هذا المناخ الفكري والسياسي السائد في الوطن العربيّ، ولَّد باحثين أكاديميّين ينشطون من ضمن مَسارات محدَّدة وبشكلٍ مُنفرد، ينتمون إلى مَراكز بحثيّة جامعيّة وحكوميّة تشكِّل الحاضن الأوّل والرئيس لهم؛ بحيث إنّ 45% من إجمالي المَراكز البحثيّة العربيّة (بحسب إحصائيّات المرصد العربيّ للعلوم الاجتماعيّة لعام 2015) هي مَراكز جامعيّة و12 % مراكز حكوميّة. في هذا الصدد يُشير ساري حنفي إلى أنّ الجامعات اللّبنانيّة تضمّ 85% من إجمالي الباحثين.

أضف إلى كلّ ما سبق، أنّ البحث الاجتماعي في الوطن العربيّ يُعاني من إشكاليّة المنهجيّة والمَنهج معاً؛ حيث إنّ الإشكاليّة الأولى (إشكاليّة المنهجيّة) ناتجة عن التبعيّة للنظريّة وللنّتاج الفكري الاجتماعي الغربي، وحيث إنّ الثانية (أي إشكاليّة المَنهج) نابعة من تطبيق بعض الباحثين لنتائج الأبحاث التي أُجريت في المجتمع الغربي مُتجاهلين الظروف الاجتماعيّة المُتباينة. تلك المُقاربات في المنهجيّة والمَنهج تركت أثرها على تصميم البحث وتنفيذه مَيدانيّاً، فكان لدينا أبحاث جزئيّة تعتمد في غالبيّتها على أدوات بعَينها لجمْع المعلومات عن موضوع البحث بغضّ النظر عن التوافق بين الأداة والموضوع. في هذا الصدد يرى الطيّب تيزيني (في دراسته “اتّجاهات نظريّة في عِلم الاجتماع”، عالَم المعرفة، العدد 44، 1990) أنّ عِلم الاجتماع الذي تشكَّل في الوطن العربيّ بعد الحرب العالَميّة الثانية، يقوم على البحث “الأمبيريقي التجزيئي الخَبري”، الذي يعرض المُشكلة مُغفلاً الإطار النظري الكلّي الذي يحتويها. بهذا، جاءت نتائج هذه الأبحاث وصفيّة، فجرى عرضٌ إحصائيٌّ بسيط لها من دون تفسير الدلالات والأرقام وتحليلها وربطها بالواقع وبالتغيّرات البنيويّة والوظيفيّة التي يمرّ بها المجتمع المدروس.

إنّ الوضع العامّ لعِلم الاجتماع العربيّ الحديث هذا، يوضح لنا الإشكالات التي يمرّ بها الوطن العربيّ، وقصوره عن تقديم قراءة علميّة اجتماعيّة لحال البلاد العربيّة سواء في الماضي أم في الوقت الحالي.

ممّا لا شكّ فيه أنّه بالإمكان نشوء عِلم اجتماع عربيّ قادر على القيام بمهمّته والإسهام في بناء إنسان عربيّ جديد مُتوازن ومستقرّ. يتحقَّق ذلك أوّلاً بتحرير هذا العِلم من سطوة العمل الجامعي الأكاديمي ودمْجه في المجتمع واستيعاب الحركيّة الاجتماعيّة، وثانياً بخلق باحثين اجتماعيّين حقيقيّين وإطلاق يَدهم في الموضوعات والقضايا كافّة. عندما يتحقّق هذان الأمران نكون قد طبَّقنا المخيّلة السوسيولوجيّة التي طَرحها ميلز، والتي تتوافق أيضاً مع ما حدَّده بورديو بأنّ على عالِم الاجتماع أن يكون باحِثاً مُستقلّاً عن الأنظمة المختلفة الموجودة في المجتمع، وألّا يكون مجرّد انعكاسٍ لها.

***

 (*) أكاديميّة من سوريا

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *