أحمد فارس الشدياق العَصيّ على التصنيف

Views: 841

د.كرم الحلو

بعد أكثر من قرنٍ وثلث القرن على رحيله، لا يزال أحمد فارس الشدياق عصيّاً على التصنيف وعلى الاستيعاب، وما برح “صعلوك النهضويّين العظيم” هذا، كما يصفه عزيز العظمة وفوّاز طرابلسي، يثير قضايا وهموماً لا تزال في صميم حياتنا المُعاصرة، إذ إنّه تمتَّع بشخصيّة جامِعة تصعب الإحاطة بجميع نواحيها، كما يرى مارون عبّود في “روّاد النهضة الحديثة”؛ فهو أبو الجريدة العربيّة المثلى الجامِعة للأدب والسياسة والعِلم، وباني دولة أدبيّة شرقيّة، وأوّل مَن كتبَ المقالة لجوائبه، وأوّل مَن وضع لنا المُصطلحات الحديثة. وهو نصير المرأة قبل أن يهبّ شرقيّ لنصرتها، والمُطالب بحرّيتها قبل قاسم أمين، وقد طالبَ بالحريّة للعبيد في زمن الرقّ والاستعباد.

يشكّل كِتابه “الساق على الساق” في رأي أنطون غطّاس كرم “طرازاً فريداً من التأليف العربي” بما فيه من تنوّعٍ واختلاطٍ موسوعي، ما جعل منه بحقّ نقطة التقاء حضاري بين الشرق العربي والثقافة الغربيّة بحدود منتصف القرن التاسع عشر. ويُعتبر هذا الكِتاب في رأي عماد الصلح “وثبة نوعيّة في الأدب بالقياس إلى عصر الشدياق” وأزهى كُتبه وأغناها في تصوير عبقريّته الأدبيّة، وأوّل سيرة ذاتيّة بمفهومها الحديث في عصر النهضة العربيّة .

لكنّ الكِتاب لم يلقَ رواجاً ولم يُعامَل مؤلّفه بما يستحقّ من الاهتمام. فقد وقعَ، ككلّ كِتابات الشدياق، ضحيّة التعتيم والرقابة والمَنع وحتّى التحريم، حتّى أنّ القارئ اليوم لا يجد أيّاً من مؤلّفات الشدياق الخمسين، إذ فقد بعضها، وبعضها الآخر لا يزال مخطوطاً. أمّا “الساق على الساق” الذي أُعيد طبعه في بيروت في سبعينيّات القرن الماضي، فلم يدخل أكثر البلدان العربيّة، وعندما تُرجمت مقتطفات منه، لم تسلم من الحذف والرقابة. لماذا إذاً هذا الإهمال والعقوق اللّذان لقيهما “الساق على الساق”؟ وما هو سرّ تلك المُعاملة الجائرة التي لحقت بأحمد فارس الشدياق ومؤلّفاته؟

الجواب لا شكّ يكمن في سيرة الشدياق الشخصيّة والعائليّة وفي توجّهاته الفكريّة الثوريّة وخروجه على الإيديولوجيا الطائفيّة. فقد كانت حياته سلسلة عاصفة ومتواصلة من التحدّي والمواجهات مع التسلّط والاستبداد في عصر كان التحدّي فيه نوعاً من الانتحار، وكان العقل السلطوي يحيل التفكير إلى التكفير، والرأي الآخر إلى التمرّد والزندقة. من هذه الزاوية بالذّات فسَّر جبّور عبد النور الجحود الذي لحق بالشدياق، فالأعاصير التي عصفت بحياته، واستثارت العصبيّات في وجهه، ورسَّخت الحقد عليه، حاولت طمس مواهبه وفتوحاته الثقافيّة والفكريّة. فما كان من أعدائه وأبنائهم وأحفادهم وأنصارهم إلّا أن حاربوه وانتقموا لأسلافهم بإسدال الصمت على كلّ ما يتعلّق به، محاولين قدر استطاعتهم، سدّ مَنافذ الطريق الموصلة إليه.

في عودةٍ إلى حياة هذا الكاتب الفذّ، نجد أنّه وُلد سنة 1801 في حارة الحدث قرب بيروت، في كنف عائلة ذات وجاهة مرموقة وإن لم تكُن من العائلات الإقطاعيّة. كان والده يوسف من ذوي النباهة والصلاح يمتلك مكتبة غنيّة، لكنّه كان يُناصب الأمير بشير العداء، وقد أَسهم في عاميَّتي انطلياس ولحفد في العامَين 1820 و1821. وكانت والدته من بيت مسعد وهي عائلة ذات نفوذ وعراقة. وعلى أثر مواجهة بين الأمير بشير وخصومه، وقف فيها والد الشدياق إلى جانب الخصوم، ثمّ لاذَ بالفرار مع أولاده طنّوس ومنصور وغالب إلى دمشق حيث مرض وتوفي. أمّا فارس ووالدته وأخوه أسعد فقد اختبأوا في الحدث ثمّ عادوا ليجدوا أنّ منزلهم نُهب ودمّر .

هنا تبدأ مأساة الشدياق الذي لم يلبث أن مُني باعتقال أخيه أسعد ثمّ وفاته في ظروفٍ مأسويّة بسبب انتمائه إلى المذهب الإنجيلي. ما اضطرّه إلى الفرار إلى مالطة لئلّا يلاقي المصير المشؤوم نفسه. وقد عاد منها إلى القاهرة ليعمل في تحرير جريدة “الوقائع” المصريّة، ويكون أوّل عربي يُمارس الصحافة. وإذ يعود الشدياق إلى مالطة مجدّداً، بعد أن تزوّج في مصر، يعمل في ترجمة الكُتب الدينيّة والتعليم، ثمّ يغادر الجزيرة إلى لندن تاركاً زوجته التي عاد ليفاجأ بخيانتها له، ما أثَّر في حياته ونفسيّته تأثيراً عميقاً عبَّر عنه في “الساق على الساق”. ويعود الشدياق إلى لندن حيث يعمل في ترجمة الكِتاب المقدّس عن لغات الأصل. لكنّه لم يلبث أن غادرها إلى باريس بعدما فُجع بموت ابنه ومرض زوجته وفشله في الحصول على مَنصب في إحدى الكليّات الإنكليزيّة.

وإذ يشتدّ المرض على زوجته، يرسلها إلى إسطنبول مع أصغر ولدَيه سليم، ويبدأ مرحلة من حياته تميّزت بالاستسلام للنزوات، فقامرَ وتبطَّل وعاش عيشة بائسة في غرفة صغيرة في بناءٍ عال، وطلب العون من الوزير التونسي مصطفى الخازندار كي ينقذه من أزمته .

نقف عند هذا الحدّ من سيرة الشدياق كونها تكشف اللّحظة التاريخيّة التي ألَّف فيها سيرته الذاتيّة “الساق على الساق” بكلّ ما فيها من مُعاناة القهر والنفي والتشرّد والمآسي، وذلك في أواخر عهده في باريس مطلع سنة 1853 .

في “الساق على الساق” أودع الشدياق أفكاره وآراءه في الإنسان والدّين والمرأة والمجتمع والسياسة بأسلوب يقرب من التورية والرمزيّة. ومن خلال مؤلّفه هذا، ومؤلّفاته اللّاحقة، ومن خلال مقالاته في “الجوائب” يمكن الوقوف على حقيقة هذه الأفكار والآراء التي التبس فهمها إلى حدّ التناقض في كثير من الأبحاث والدراسات التي عرضت لفكر الشدياق. فهل هو عثماني أم قومي عربي؟ هل هو مؤمِن يريد فصل الدّين عن الدولة أو خارج على الشرائع الدينيّة؟ هل هو نصير للفقراء والمظلومين أو هو اشتراكي؟ هل إنّ هدف كِتابه “الساق على الساق” إبراز مَحامد النساء وإبراز غرائب اللّغة ونوادرها، كما يقول، أو إنّ الحريّة هي محور هذا الكِتاب وعَصبه الأساس؟

الشدياق العثمانيّ العروبيّ

الشدياق من أبرز دُعاة الجامعة العثمانيّة في الأدب العربي. وفي “الجوائب” يجد الباحث قصائد ومقالات في عظمة السلطنة وعظمة سلاطينها ورجالها، انطلاقاً من الحرص على وحدة الدولة الذي عبَّر عنه غالبيّة النهضويّين العرب من البستاني والمرّاش إلى إسحق والأفغاني وأنطون وسواهم. فقد قالوا بالعثمانيّة عندما كانت صيغة تضمّ جميع شعوب الإمبراطوريّة تحت لواء السلطان العثماني، وقد عبَّر سليم تقلا صاحب “الأهرام” عن هذا التصوّر بقوله: “الجامعة العثمانيّة هي الحصن الحصين للرعيّة دون أطماع الدول، وما وراء العبث بها إلّا الخسران والضياع”. لكنْ عندما قامت الطورانيّة ونزعة التتريك تبدَّل الأمر، فأصبح الشدياق من دُعاة القوميّة العربيّة ومن قلب الأستانة بالذات، وكتبَ في “الجوائب” مُستنكراً أن تكون اللّغة التركيّة هي اللّغة الرسميّة، منبّهاً إلى أنّ السلاطين لم يتعرّضوا لرعاياهم في ألسنتهم وملّتهم ومَذاهبهم، وهؤلاء ينتمون إلى مَمالك شتّى. في هذا الإطار انبرى الشدياق بمؤلّفاته اللّغويّة والأدبيّة إلى التعبير عن عمق الإحساس بالعروبة والثقافة العربيّة، وذكَّر أنّ النبي كان عربيّاً، والقرآن أُنزل بالعربيّة، والأئمّة والخلفاء والعُلماء كانوا كلّهم عرباً، ممّا لا يدع مجالاً للشكّ في أنّ الشدياق، على غرار عروبيّي عصره، كان يجمع بين العَثمنة والعروبة.

الشدياق العقلانيّ العلمانيّ

عاش الشدياق في صراعٍ دائم مع المحرّمات والإيديولجيّات التسلطيّة، فلم يكُن ليقبل الاحتكام إلّا لسلطة العقل ونواهيه، وهو وفق نازك سابا يارد الأقرب بين النهضويّين العرب إلى علمانيّة العقلانيّة الغربيّة، فالحريّة بجميع وجوهها السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة والجنسيّة هي الإشكاليّة المركزيّة في فكره السياسي والاجتماعي. أوّل ما يتجلّى فيه هذا التوجّه العقلاني، مَوقفه من رجال الدّين وتسلّطهم بعد سجن أخيه أسعد والتنكيل به ثمّ موته في قنّوبين. فقد أنكرَ حقّ هؤلاء في التسلّط على النفوس ومنع حريّة الاعتقاد واضطّهاد الناس بسبب آرائهم، إذ إنّ الأديان لا تبيح اضطّهاد المُخالِف في الرأي والتفكير. أمّا مَن يُخالف القوانين السياسيّة والاجتماعيّة، فللمَحاكم المدنيّة الشرعيّة النظر في شأنه. بهذا يكون الشدياق أوّل مَن نادى بفصل الديني عن السياسي وأوّل مَن نادى بالاعتراف بالآخر في فكرنا النهضوي. بالقدر ذاته من الجرأة النقديّة، دافعَ الشدياق عن حريّة المرأة وحقّها في حياة جنسيّة سويّة. كما رأى إلى تمدّن الغرب رؤية نقديّة ، فأعجب بما تميّز به من مساواة في الحقوق البشريّة، ومن احترامٍ للوقت والعمل، ومن تقدير لذوي العِلم وحريّة الرأي. ولكنّه في الوقت نفسه سخر من بعض عادات الغربيّين، وتميُّز حياتهم بالعزلة والأنانيّة وخلوّها من المودّة والأنس، وأبدى تأثّره لبؤس فلّاحيهم وشقاء صنّاعهم، ودان شقاء فقراء باريس واصِفاً إيّاها بـ ” أرض الجحيم” لِما “في ساحاتها من شقيّين ومَناحيس”.

لكنّ تعاطُف الشدياق مع الفقراء والبائسين لا يُمكن البناء عليه للقول إنّ الشدياق ” أوّل عربي يعتنق المذهب الاشتراكي ويذهب به إلى أبعد حدود الالتزام” كما يرى عزيز العظمة وفوّاز طرابلسي، أو إنّ “شطحاته الثوريّة” تصل إلى حدود التبشير بالثورة الاشتراكيّة، كما يذهب عماد الصلح. مثل هذا التصوّر يسقطه مفهوم الشدياق للمساواة بالمعنى “الروسّويّ” الذي لا يلغي انقسام الناس إلى أغنياء وفقراء، وإنّما يدعو فقط لإزالة الفوارق الفاحشة في ما بينهم. وقد أفصح عن مقاصده في ما بعد في “الجوائب” حيث دعا إلى الزكاة بمقتضى الشرع فقط، ودان إدانة حادّة كومونة باريس 1871 ومُطالَبة الفقراء مُشاركة الأغنياء في ثرواتهم .

هكذا تكتمل المَلامح العامّة لشخصيّة نهضويّة مثيرة للجدل دفعَ صاحبها من شقائه وتشرّده وشقاء أسرته وبؤسها ثمن الإيمان بالحريّة واحترام الاختلاف والحقّ في الاعتقاد ورفض تسلُّط رجال الدّين على الأفكار والعقول. وفي سيرة هذا الرائد وفكره ومُعاناته عِبرٌ ومَغازٍ يجدر التوقّف إزاءها في زمننا هذا، مع انبعاث الرؤية التكفيريّة الإلغائيّة ومُحاولتها الهَيمَنة على ساحة الفكر العربيّ من جديد .

***

(*) كاتِب ومؤرِّخ من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *